مصر التي في خاطري

مصر التي في خاطري
  • 23 مارس 2025
  • لا توجد تعليقات

د. نزار غانم

في عام 1982م كنت اكتب استراحة في الصفحة الأخيرة من صحيفة الأيام وكان محررها المرحوم الشاعر حسن ساتي الذي لحن له المرحوم ناجي القدسي أغنيات وفي نفس الوقت اكتب استراحة في الصفحة الأخيرة من صحيفة الصحافة وكان محررها المرحوم الشاعر فضل الله محمد الذي لحن له محمد الأمين أغنيات، والأغرب أن العمودين كانا باسم واحد هو جسر فني بين صنعاء والخرطوم وقد استلهمت منهما لاحقا عنوان كتابي الثاني (بين صنعاء والخرطوم) الذي صدر عن دار العودة في بيروت عام 1989م. كانت الأيام تحتجب يوم السبت و كان الصحافة تحتجب يوم الجمعة و لم تكن في فترة من الفترات هناك صحيفة غيرهما عدا صحيفة القوات المسلحة التي كنت اكتب أيضا فيها و تصدر يوم الجمعة و كانت صلتي فيها بمحرر صفحة ادب و فن المرحوم الجنرال احمد طه محمد الحسن و هو شاعر و موسيقي و خطاط و رسام تشكيلي أيضا.
كان من علامات نجاح تلك الكتابات أن نشر المرحوم الصحافي ابن البان (صالح بانقا) في استراحته الأسبوعية في الأيام مقاله ردا على استراحتي التي تناولت المرحوم الشاعر اليمني عبد الله حمود حمران الذي كتب الخرائد الشعرية في السودان وأهدي اليه المرحوم الشاعر محمد مهدي المجذوب ديوانه (منابر). وتحدث ابن البان عن صداقته هو السفير علي حمد مع حمران واستذكر ابياتا لعمرو بن ابي ربيعة اليمني الام قالها في اليمن. ولاحقا كتب ابن البان ثلاثة قصص قصيرة عن بنات يمنيات عرفهم في السودان في كتابه (العواتك).
وحدث مثل ذلك في صحيفة الصحافة حيث خصص المرحوم الصحافي السوداني محمد الخليفة طه الريفي استراحته فيها للتأكيد على مكانة مصر في العلاقة العروبية والإسلامية مع السودان لكنه حيا جهودي في الدبلوماسية الشعبية اليمنية-السودانية. والأستاذ الريفي من اعلام الصحافة السودانية ومن المتشيعين لتكامل جنوب وشمال وادي النيل واظن ان اسرته من الاسر المحبة للسادة المراغنة ومن خلفاء الطريقة الختمية التي انتمى اليها أيضا من يمنيي السودان المحامي باضاوي وكان نقيبا للمحاميين يوما ما والشاعر قاسم احمد الجيلي (والد د عون الشريف قاسم) والذي كتب الكثير مما يغنوه شباب الختمية من أناشيد والمناضل يحي علي يحي الذي كان عضوا في حزب الاشقاء وسجنه المستعمر البريطاني لعامين بحجة ممارسته النشاط السياسي.
وقد رددت على الأستاذ الريفي باستراحة لاحقة بعنوان (لمصر حب الجميع) نشرها الأستاذ سكرتير تحرير الصحافة نور الدين مدني الذي يعيش الان في استراليا امد الله في عمره. واخترت يومها ان استشهد بالشعر اليمني والسوداني الذي يحيل على محورية مصر في العلاقة بينهما.
ذكرت شعرا للمرحوم الشاعر اليمني لطفي جعفر أمان خلال حياته في السودان ألقاه في الحفل السياسي الذي أقامه الطلبة بنادي اتحاد طلبة كلية غردون الجامعية بالخرطوم بمناسبة سفر الوفد السوداني لمصر الذي سافر عام 1946م الى القاهرة وفيها شاعرية لطفي في التجسير بين الشعبين والتذكير بأن ظلم الوافد البريطاني واقع على الطرفين. يقول في قصيدته (بنت الوفد … الحرية) من ديوانه (بقايا نغم) الصادر عن مطبعة فتاة الجزيرة في عدن عام 1948م وهو ما يزال طالبا بكلية غردون: –
مصر بكت والظلم في اضلاعها أدمي واورى
وتلفتت كالطير هام فضل في مسراه وكرا
وشكت خلافا نال من حكامها قلبا وفكرا
وهفت الى السودان قلبا يستفيض هوى وطهرا
كانت هي السودان والسودان كان لمصر مصرا
وذكرت شعرا للمرحوم الشاعر السوداني مبارك المغربي من قصيدته (أمل العروبة) في ديوانه (عصارة قلب) الصادر طبعة ثانية 1978م يخاطب فيه المرحوم الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري عند زيارته مدينة مدني بوسط السودان قادما من مصر في حفل أقيم لابي الاحرار الزبيري بتنظيم من ابي الاحرار اليمنيين الشيخ يحي حسين الشرفي المدومي العكام القى فيه أيضا الشعراء السودانيون رحمهم الخالق د علي عمر باخريبة ومرغني عشرية وأحمد مصطفى الملثم قصائد تحي نضال الاحرار اليمنيين كما رد عليهم الزبيري بقصيدة حيا فيها (الأخلاق السودانية) كما يسميها سمو الأمير الحسن بن طلال الأردني. وكان حضورا في ذلك الحفل الصبي يومئذ الناقد السوداني مجذوب عيدروس الذي عرف أيضا بدراسته لشعر المرحوم الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح بل والتقاه في مدني عابرا عام 1958م: –
حتى اقام بمصر كي يقيم لنا من قوة الدين والإسلام بنيانا
ان لم تكن بيننا من قبل معرفة ولم تنل مهجتي من ودكم شانا
فقد يفيض شعور النفس ان تليت مآثر الحمد فيمن فاض احسانا
يا أيها الزائر الراجي أخوتنا لقد لقيت مع الاخوان اخوانا
ما أنت ضيف وان شطت مرابعنا عقد العروبة حيانا وأدنانا
ان العروبة جسم لا انفصام له لا يعرف الجسم اجناسا واوطانا
ان جئت دجلة قد شاهدت ليبية او زرت نجدا فقد حييت لبنانا
وان دعاك الهوى يوما الى يمن فقد نزلت بها (مصرا) وسودانا
وذكرت شعر المرحوم الشاعر السوداني سيد أحمد الحردلو في قصيدة (مذكرات جندي في اليمن) في ديوانه الثاني (أغنية الى يافا) الصادر عام 1966م فقد كانت القوات المصرية تخوض في اليمن حربها ضد التخلف وتنتصر لراية العروبة والقصيدة مكتوبة في القاهرة عام 1963م وعن جندي مصري في اليمن، وقد نشر الحردلو القصيدة بشكل مغاير في ديوانه الثالث (مقدمات) عام 1986م كما كتب عنها بحب المرحوم الدكتور عبد العزيز المقالح في أحد كتبه: –
أكتب من صرواح
أكتب يا صديقتي في مطلع الصباح
والفجر مد وجهه يعانق البطاح
ويفتح الطريق للطيور والاقاح
فيهمر الندى
على الجبال حولنا
ويضحك المدى
كأنما ينقلني (لمصر) للشمال
أتت الي طفلة كأنها القمر
في صوتها دندنة كأنها وتر
وفي اليدين قهوة وكسرة وماء
وأمسكت فنجانها تصب في حياء
تصوري تشكرني
وقلت في ابتسامة
انا هنا في اليمن
أذود عن مصيرنا
لتستعيد مأرب أمجادها الكبار
وفي غد نعود يا (مصر) يا هناء
وذكرت شعر المرحوم الشاعر السوداني د تاج السر الحسن في قصيدته عن أحبابه في اليمن متذكرا تعرفه عليهم في جامعات المحروسة مصر لا في اليمن ولا في السودان فيقول في قصيدة (أصدقاء من تعز) المهداة للمرحوم الشاعر أحمد الشجني والصحافي عبد الله مقبول الصيقل أمد الله في عمره: –
الدم يروي البن
الدم يروي القات
الليل نسر جائع يأكل من قلوبنا يقتات
يا أصدقاء (الجيزة) الخضراء على ثراها وقع أقدامنا
الجسر والجامعة وروضة الأصدقاء
أغنية من تعز
منها يفوح الدم مثل العطور
مقاصل الامام عند النيل يصوغها الشعر ليمحوها
أحمد …. عبد الله كيف الحال!
وذكرت شعر آخر للمرحوم د تاج السر الحسن يرثي فيه فدائيا يمنيا في حرب تحرير جنوب اليمن من الانجليز فيذكر بجريمة الانجليز في دنشواي بمصر بشنق زهران التي خلدها المرحوم الشاعر صلاح عبد الصبور ويذكر انه عرف ذلك الصديق في القاهرة. يقول في قصيدة (موت صديق) من ديوانه (النخلة تسأل أين الناس) الصادر عام 1992م: –
قد مات في عدن ذاك الذي عرفته على شواطئ (الجزيرة)
ودمه لون شطآن الخليج واليمن
وقبل ان يطلق فوق صدره الرصاص تذكر النيل وارض دنشواي
وظل زهران يغطي ردهة الزمن
قاتل زهران حفيده يجوس في عدن
عرفته جلسنا في مقاهي النيل وكان يحكي لي
عن المقاصل السجون والهجرة الغربة عن ربى الوطن
وفوق صدره تحشرج الأسى تدحرجت طاحونة الزمن
يا جيلنا الجسر الى الحقيقة
يا جيلنا المهد والكفن
ان جسر الوجدان بين اليمن والسودان لا يتماسك الا ومصر ثالثتهما …. مصر التي في خاطري!

الوسوم د.-نزار-غانم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*