السر قدور.. ثلاث سنوات على غياب المبدع العبقري!

السر قدور.. ثلاث سنوات على غياب المبدع العبقري!
  • 29 مارس 2025
  • لا توجد تعليقات

الرياض- عبد الباقي الطيب

تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثالثة لرحيل المرحوم بإذن الله الأستاذ السر أحمد قدور، والذي ودع دنيانا الفانية بتاريخ (31/03/2022م)، وهي ذكرى حزينة لذلك المبدع العبقري الموسوعي المُخضرم، والذي وصف بأنه صاحب ومُجيد الصنائع السبع، والتي قلَّ أن تجتمع في شخص واحد!

كان الراحل السر قدور حالة إبداع استثنائية خاصة ونسيجة وحدها؛ فكان مفكراً وفيلسوفاً ومؤرخاً، وشاعراً كبيراً، وفناناً عظيماً ومؤلفاً وممثلاً مسرحياً بارعاً، ومؤدٍ مجيد للأغاني والمدائح النبوية، ومتحدثاً لبقاً ورائع الحكي والسرد، ورقماً كبيراً في عالم الصحافة، وتقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية.

نتذكر اليوم ونفتقد السر قدور، ذلك الرمز الوطني الرسالي العظيم والمخلص، والذي صُنف ضمن أشهر رموز السودان المؤثرين في القرنين الماضي والحالي، حيث سخر مواهبه وإبداعاته المتعددة والمتفردة كالتزام لخدمة وطنه، والنهوض به في المجال التوثيقي والفني والإعلامي والمسرحي، وليس مجرد ترف أو بحث عن الشهرة أو المال، كما أكد ذلك بنفسه في عدد من الحوارات الكثيرة التي أجريت معه.

وتكمن عبقرية السر قدور في أنه لم يكن صناعة التعليم النظامي، فمعلوم أن هذا التعليم لا يخرج المبدعين والموهوبين والعباقرة مثله، فالشاعر يُولد ولا يُصنع، وكذا الفنان والأديب والخطيب، بل كانت عبقريته الابداعية نتاج الموهبة الفطرية السخية والعصامية والاجتهاد، والتي غذتها روافد وراثية عريقة من أجداد برعوا في العلوم والفقه والقضاء واقتناء المكتبات وسعة الاطلاع، والشعر والمديح النبوي.

أيضاً عاصر السر قدور في خمسينيات القرن الماضي رموز الفن والأدب والسياسة، والمسرح، وشعراء وفناني حقيبة الفن والشعر الغنائي الحديث، ونهل من تجاربهم وأشعارهم وحفظ نصوصها، وساهم ذلك في تكوين وصقل شخصيته وملكاته الإبداعية في شتى المجالات.

ومن طرائف ذكرياته مع فناني حقيبة الفن، ذكر السر قدور في برنامج (أحكي قول يا السر قدور)، أن الفنان والملحن العبقري كرومة أقام في أربعينيات القرن الماضي، حفلاً كبيراً ومشهوداً بمنزل والده قدور بحي الشعديناب بالدَّامر، وكان عمره وقتها خمس سنوات، وأنه ذهب ووقف أمام كرومة عندما كان يؤدي أغنية (يا جوهر صدر المحافل)، وأن كرومة رفعه إليه وأجلسه على يده اليسرى التي كان يمسك بها الرِق، حتى انتهى من أداء الأغنية !.

وُلد ونشأ السر قدور بمنطقة الجُبَاراب جنوب الدَّامر وحي الشعديناب غرب الدَّامر، والذي هو موطن الأسرة حتى اليوم، والدَّامَر مدينة تاريخية عريقة، وكانت تُسمَّى فِي العصور الوُسْطَى الحَديثة (دَاْرَ الأَبْوَابْ)، وذلك لتفرع الطرق التجارية عندها وذهابها لمختلف الجهات، وربطها بَيْن مناطق الحَضارات القَديمة الكُوشيَّة والمَرويَّة، فِي شمال وشَرَق ووسَط مَا يُعرَف اليَوم بالسُّودَان، وكانت الدَّامر ولا زالت دار القرآن الكريم والفقه، والعلم والتصوف والأدب والشعر والبلاغة والفصاحة والفكاهة، والمديح النبوي والثقافة والسياسة، والتراث العريق.

اشتهرت الدَّامر كذلك بأدبائها وشعرائها الكبار؛ أمثال محمد المهدي المجذوب والبروفيسور عبد الله الطيب، وعلي عكير والرائد الصحفي بشير محمد سعيد، والبروفيسور عمر قدور والأستاذ الطيب محمد الطيب وغيرهم.

كان والده أحمد قدور شاعراً ومادحاً للنبي صلى الله عليه وسلم، برفقة أخيه الصادق وابن عمهما المادح الشهير قسم الله ود عوض، وكذلك كان جده لأمه بابكر شخيب شاعراً كبيراً وشهيراً وكذلك جده لأبيه، وهناك عماته التَوأم أم الحسن وأم الحسين، وكانتا شاعرتان وتأديان المدائح النبوية والغناء وتقرضان الشعر، وقيل إنهما شاعرتا الأُغنيَة الْشَهِيرَة: (الليلة وين لا وين يا عينيا أنا عجبوني كالو العين)، وأغنية (يا المحلق ميسك بعيد تعصى إنت ويلين الحديد)، ويروى أنهما ألفتا الأغنيتين وأديتاهما بمناسبة زواج شقيقهما المرحوم احمد قدور.

وللسر قدور ثلاثة أشقاء شعراء: عبد المنعم رحمه الله، وكان شاعراً فحلاً ومجيداً، والفريق شرطة بروفيسور عمر قدور، الرَئيْس الحَالي للاتحَاد القومي للأُدَباء والكُتَّاب السُّودانيين، والأَمِيْن العَام المَسَاعَد للاتّحَاد العَام للأُدَباء والكُتَّاب العَرَب، والمتخصص في علوم القانون والشُّرْطَة وله ديوانان: (عيون الآخرين وصوت من السماء)، ومحمد أحمد وهو أيضاً باحث في التراث ومؤلف.

كان السر قدور عصامياً مجتهداً، صنع نفسه بنفسه، إذ كان مولعاً منذ صغره بالقراءة والاطلاع المكثف في شتى العلوم، فنجح في تطوير ملكة القراءة والكتابة لديه، وتمكن من الارتقاء بمستواه إلى درجات عليا في مختلف العلوم، وأصبح من أهم رواد الحياة الفنية بالسودان، والتي أجاد وأبدع في مجالاتها المختلفة !.

وقد مثلت الجهود الفنية المتعددة التي قدمها مع زملائه من أهل الفن عملاً وطنياً مهماً، وموازياً لمجهودات الساسة والعلماء والخبراء الوطنيين، قبل وبعد الاستقلال، حيث كان السودان يحتاج لنهضه فنية وثقافية موزاية للنهضة السياسية والاقتصادية.

قدم السر قدور أغنيات كثيرة ورائعة رددها عمالقة الفن السوداني، وستظل خالدة في الوجدان السوداني، أبرزها (أرض الخير إفريقيا بلادي)، و(الشوق والريد والحب البان في لمسة إيد)، و(يا ريت) و(يوم المهرجان)، و(عاوز أكون تاجر عطور) و(زي القمر والله أحلى من القمر) و(حنيني إليك وليل الغربة أضناني)، و(يا حبيبي نحن إتلاقينا مرة) و(أسمر جميل) وغيرها.

واعتبر مهتمون بالهُوية السودانية أن أغنية السر قدور الوطنية الرائعة والشهيرة جداً :(أرض الخير إفريقيا مكاني)، عملاً وطنياً عظيماً عبر من خلاله الشاعر تعبيراً ذكياً وبليغاً عن الهُوية السودانية المفترضة، وأن هذه الأغنية وضعت السودان في اطاره الجغرافي الإفريقي الحقيقي الصحيح، وذلك بعد أن عدَّت أغنية الشاعر محمد عثمان عبد الرحيم الوطنية الخالدة: (أنا سوداني أنا)، والسابقة لأغنية أرض الخير، على أنها تعبير خاص عن قيم العروبة في السودان، أي قيم الصحراء (العرب)، وليس قيم الغابة (العنصر الإفريقي)، كما جاء في أدبيات مدرسة الغابة والصحراء المعروفة.

أما برنامجه الأشهر (أغاني وأغاني)، والذي حظي بمتابعة غير مسبوقة خلال ستة عشر عاماً متصلة، فلم يكن مجرد غناء وطرب كما يعتقد البعض، فالغناء أمر سهل ومتاح في كل وقت وحين، بل كان برنامجاً توثيقياً مهماً يقدمه رمز مخضرم وموسوعي المعرفة، وفاعل ومعاصر لكثير من الأحداث المهمة قبل وبعد الاستقلال.

قدم السر قدور من خلال برنامج (أغاني وأغاني) جوانب مهمة جداً من تاريخ الوطن في شتى المجالات؛ من فنية وثقافية وسياسية واجتماعية ورياضية وغيرها، قدمها بتواضع العلماء والحضور الجميل والطاغي، ومغلفة بالطرائف وروح الدعابة، الشيء الذي جعلها مقبولة وسهلة الهضم والرسوخ في الأذهان، وهذه هي القيمة الحقيقة والمستهدفة من ذلك البرنامج الوطني التوثيقي الرائع.

كان المشاهدون ينتظرون برنامج (أغاني وأغاني)، ليسمعوا من السر قدور أسرار وروائع التاريخ الوطني والاجتماعي والفني والأدبي والرياضي، وطرائف وحكاوي رموز السودان في مختلف المجالات، أكثر من انتظارهم فناناً أو فنانة تؤدي لهم أغنية معروفة لديهم ومطروقة ومتوفرة في أي وقت !.

فعندما يقدم السر قدور أغنية (أنا سوداني أنا) مثلاً، فانه يشدك بالحديث الممتع والهام عن القيم السودانية الأصيلة، ونضال الشعب السوداني ضد المستعمر، وعن شاعر الأغنية والفنان العطبراوي، ومدينتي رفاعة وعطبرة ورموزهما في شتى المجالات، ودورهما في التنوير والنضال الوطني وغيره الكثير المثير.

وكم استمتع المشاهدون بحديثه الشيق عن كردفان وتاريخها ورموزها، من خلال تقديمه لأغنية (مكتول هواك أنا يا كردفان)، في حضرة الفنان عبد القادر سالم، وكذلك عندما تحدث عن أغنيته الشهيرة (يوم المهرجان)، والتي قدَّم من خلالها لمحات تاريخية وتوثيقية هامة، عن رائد تعليم النساء الرمز بابكر بدري، وعن مدرسة الأحفاد الشهيرة لتعليم البنات، ودور التعليم والمرأة السودانية في نهضة الوطن والمجتمعات.

تحدث السر قدور كثيراً عن فلسفته في التشديد على أهمية تجويد واتقان الفنانين للأداء في البرنامج، وقال إن الأداء الجيد والمتقن لكل عمل في الحياة، يعتبر أساس تطور الأمم والشعوب، وإن رسالته لأبناء الوطن من خلال البرنامج والغناء، هي أن أجيدوا وأتقنوا الأداء في كل عمل تقومون به حتى ترتقوا بوطنكم.

وثقت فضائيات كثيرة حياة وتجربة الرائد السر قدور، التي قادته للنبوغ والتفوق والمجد والشهرة واثبات ذاته، وحكى فيها قصة حياته المثيرة بكل أمانة وصدق واعتزاز، ودون رتوش واضافات تجميلية، وبأسلوب عفوي رائع ومشوق في الحكي والسرد، يشابه تماماً أسلوب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في روايته الرائعة (الأيام)، والتي حكى فيها قصة حياته في القرية والأزهر كما هي تماماً، وهكذا دوماً هم العباقرة والعظماء.

لقد كشف برنامج (أغاني وأغاني) وحلقات التوثيق الرائعة والصادقة مع السر قدور، عن شخصية عالم عصامي جليل وأديب كبير، ومثقف موسوعي ذكي وملهم، طغى عليه الإعلام والفن لعقود طويلة، وأتاحت للناس فرص الاحاطة بدنياه وعوالمه، والروافد المختلفة التي شكلت شخصيته، وحياته وأدبه وإبداعه المتفرد.

أما في مجال الكتابة الصحفية فقد ترك السر قدور أرثاً تاريخياً ووطنياً عظيماً من خلال عموده الشهير (أساتذة وتلاميذ)، والذي كان يحرره لسنوات طويلة بصحيفة الخرطوم، ووثق فيه لكثير من رموز السودان المؤثرين في مختلف المجالات، وكان يحرر ذلك العمود الراتب اعتماداً على ذاكرته فقط دون الاعتماد على أي مراجع، فقد اشتهر بأنه صاحب ذاكرة فتوغرافية فريدة.

وبالتالي تعتبر مقالات (أساتذة وتلاميذ) تراثاً وطنياً هاماً، تجلت في تخليده عبقرية وذاكرة السر قدور، ونتمنى أن تتولى الجهات المختصة بالدولة طباعة ونشر هذه التاريخ العظيم وحفظه للأجيال القادمة، وقد علمت من ابنته زينب أنها تعمل على جمع وتصنيف هذه المقالات لتكون جاهزة للنشر.

عرف السر قدور بخلقه الجميل وحسن المعشر وإنسانيته المشرقة والطيبة والكرم، والبعد عن المهاترات والخصومات؛ سواء الفنية والسياسية والرياضية، ولم تكن الدنيا والمال همه الأول، فقد ذكر أحد رموز قناة النيل الأزرق في حديث له عنه، أن السر قدور لم يسبق له وأن حدد أو طلب منهم أي مبلغ مقابل تقديم برنامج أغاني وأغاني – والذي كان عائده المادي ضخماً للقناة – وأنه كان يقبل ما يعطونه دون أي نقاش.

كذلك كان السر قدور قبلة رموز السودان في مختلف المجالات بمصر، وله اسهامات خيرية كثيرة مع آخرين من أهل الخير والفن في الوقوف مع أصحاب الظروف الصعبة من الطلاب والمرضى السودانيين وغيرهم هناك.

رحم الله الحبيب الراحل السر قدور رحمة واسعة وأجزل له العطاء ورحم الله ابنته الراحلة دكتورة ثريا وجعل البركة في بناته زينب وأمل ونبيلة وعموم أهله وأحبابه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*