علمتنا الحرب(1) : لا شيء يعدل الوطن

نجلد الذات دومًا، ونرى أن السوداني لا يحب وطنه، بقدر ما يحب الآخرون أوطانهم، ولكن جاءت الحرب اللعينة لتؤكد أنَّ السوداني يرتبط بوطنه، ويعشقه عشقًا لا مثيل له، ولكن تراكم المشكلات بسبب سوء سياسات من يمسكون بزمام الأمور، يجعله يخرج عن طوره، ويكفر بالوطن باللسان لا بالقلب.
ومن يرى مئات المواطنين وهم يعودون إلى الوطن طوعًا وحبَّاً، منذ أن بدت تباشير اندحار جحافل التتار الجدد، يبصم بالعشرة على أنَّ لا شيء يعدل الوطن عند السوداني، الذي وجد في دول اللجوء من سهولة العيش، ومظاهر الرفاه، ما لا يتوافر له في وطنه، ولكنه ركل كلَّ ذلك، وأصر على حزم حقائبه والعودة إلى حضن الوطن.
يعلم كل عائد إلى الوطن أنَّ الأمور أكثر سوءًا مما ترك، ولكنه يجزم بأن تنسم هواءه والنوم تحت سمائه، والسير في شوارعه ذات الحفر أمتع لديهم وأجمل من كنوز الأرض.
مات كثيرون في أماكن النزوح ودول اللجوء لا بسبب الأمراض العضوية، وإنما نتيجة الإحساس بالقهر، لما مورس عليهم من إذلال، وطردهم من مسقط رأسهم، ومراتع صباهم، حيث الأهل الجيران والأصدقاء الذين يملؤون عليهم حياتهم، فلم يجدوا من يسدُّ مكانهم، أو يملأ ما يشعرون بهم من فراغ، ولَّد لديهم الإحساس بأنهم معلقون في الهواء، فكلما مرَّ الوقت تباعدت المسافات بينهم وبين الوطن، حتى أصبحت العودة حلمًا لا يُطال.
هذا الإحساس هو ما يدقع إلى التدافع بالمناكب للعودة إلى الوطن، ولا يهم بعد ذلك ماذا سيجدون من مشاق انقطاع الكهرباء، وانعدام المياه، وتهدُّم البنى التحتية، إضافة إلى إعادة البناء، وما يترتب على ذلك من تكاليف باهظة، فهو حين يستحضر أن لا شيء يعدل الوطن تهون عليه كل المصائب، وتتضاءل التحدِّيات، وتتسارع الخطى في اتجاه وطن حدادي مدادي، وطن غالى.. نجومو تلالي في العالي، وهم على ثقة أننا حنبنيهو.. بالعمل والجد واستنهاض الهمم، واستلهام الدروس، لا بالخطب الحماسية، ولا بخطاب الكراهية الذي أشعل الحرب اللعينة.