طلب الرئيس عمر البشير من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “الحماية من التصرفات العدائية الأميركية ” أثناء جلسة محادثات جرت في مدينة سوتشي الروسية، في 23 نوفمبر 2017، شكل أول سابقة من نوعها لرئيس دولة، تُبث وقائع محادثاته ” السرية” على الهواء.
نُرجًح الرأي القائل بأن الروس تعمًدوا بث كلام البشير، الذي انتقد الأميركيين، وحمًلهم مسؤولية الأزمات في المنطقة العربية و” فصل جنوب السودان”، ثم اتهمهم بالسعي إلى تقسيمه إلى خمس دول، وهو بهذا يتملًص من أدواره، وسياساته، التي ساهمت في تقسيم السودان، إلى دولتين شمالية وجنوبية.
موسكو قدمت خدمة جليلة لشعب السودان، والعالم العربي والإسلامي والعالم كله، ليقف الناس على مشهد من مشاهد الحياة البائسة في السودان، على لسان الرئيس، رغم أن ما قيل، باسلوب غريب، مدهش، أساء لشعب السودان وكرامته.
كلام البشير عن سعي أميركا إلى تقسيم السودان، يعكس محاولة لتبرير طلب “الحماية” الروسية للرئيس، ونظامه المتهالك، والطلب يعني أنه فشل في النهوض بمسؤولياته الرئاسية، ويأتي في صدارتها، المحافظة على سيادة البلد، واستقراره، وأمنه.
هذا ما نص عليه دستور السودان الانتقالي، وجاء في صدارة “اختصاصات رئيس الجمهورية” أن “يصون أمن البلاد ويحمي سلامتها”، ونرى أن غياب السياسات الراشدة يدخل في هذا الإطار، وهو سبب الكواراث.
طلب الحماية بقواعد عسكرية، يتناقض مع سيادة البلد، ويزج بها في أتُون تحالفات ومحاور، كما يؤشر إلى أن الرئيس يحكم بلداً من دون مؤسسات. هناك حزب حاكم شكلياً (المؤتمر الوطني) ولم يعلن الرئيس أنه بحث مع ” قيادات حزبه طلب “الحماية”.
هناك “برلمان” يتحكم في قراراته، ويُحركه كيفما شاء، لم يطرح هذه المسالة الخطيرة للنقاش، وإذا قرر تنفيذها فسيمررها برلمان يتحكم في مفاصله، ويبصم على ما يريده الرئيس، حتى في القضايا التي تهم معاش الناس.
السبب أن البشير حاكم ديكتاتوري، مستبد، يتمتع بسلطات مطلقة، يقول ما يريد من دون مراعاة لمصالح البلد وشعبه، لكن الروس وجهوا إليه لطمة كبرى ببث ” طلب الحماية” على الهواء مباشرة.
يبقى السؤال: ماذا وراء طلب الحماية؟
المصادر تؤكد أن الرئيس البشير خاب ظنه في الأميركيين، كان يأمل أن أن يمد جسور التواصل المباشر مع الرئيس دونالد ترمب، والتطبيع الكامل مع أميركا، لكنه أصطدم بعد رفع عقوبات اقتصادية أميركية أن الأميركيين يواصلون نهجاً انتقائياً في التعامل مع نظامه، ويستهدفونه شخصياً.
واشنطن ترفض أن يلتقي مسؤولون أميركيون الرئيس السوداني، أثناء زياراتهم إلى الخرطوم، أحدث دليل أطًل أثناء زيارة نائب وزير الخارجية الأميركي جون سوليفان إلى الخرطوم في 16 نوفمبر 2017، فهو لم يقابل الرئيس. هكذا تفعل وفود أميركية تزور السودان، منذ سنوات، وحتى الآن.
وعلى الرغم من صدور قرار رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية في 6 أكتوبر2017، وبدء تطبيقه في 12 أكتوبر 2017، فالسودان لايزال في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهناك التزام أميركي بقرارات دولية صدرت ضد نظام البشير حول دارفور مثلاً.
صحيح أن واشنطن تلعب على وتر مصالحها والتعاون الأمني مع الخرطوم، في مجال مكافحة الإرهاب، لكنها تواصل عزل البشير شخصياً.
على صعيد الاتحاد الأوروبي، جرى تواصل أخيراً بين عواصم أوروبية وحكومة البشير، وتركز الدول الأوروبية على الاستفادة من دور الخرطوم وموقعها الجغرافي، لوقف تدفق المهاجرين غير النظاميين والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب.
لكن أوروبا متمسكة في الوقت نفسه بقرارات مجلس الأمن، خصوصاً القرار الذي أحال “الوضع في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية للنظر في اتهامات، بشأن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
وها هو الاتحاد الأوروبي يدعو – خلال زيارة البشير إلى روسيا – الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى “الامتثال للقرارات التي أتخذها مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وتنفيذها، ولا سيما قرار مجلس الأمن 1593 ”
الأوروبيون يدعمون دور المحكمة الجنائية ويرون أنها تهدف إلى تحقيق العدالة، الدولية، ويلوحون من وقت لآخر بمذكرتي اعتقال، أصدرتهما المحكمة الجنائية الدولية عامَي 2009 و2010 بحق البشير، تضمنتا اتهاماً للرئيس بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية وجرائم حرب في دارفور.
ما جرى في محادثات البشير في موسكو يؤكد أن هناك ضغوطاً أوروبية وأميركية تمارس على البشير ” شخصياً” بوتيرة متصاعدة، وترى عواصم غربية أن الرئيس عائق أمام تطبيع العلاقات مع السودان.
أوروبا تدعو حكومة البشير، كما تفعل أميركا، إلى اتخاذ خطوات عدة، بينها تعزيز احترام حقوق الإنسان وإتاحة الحريات السياسية والصحافية، ووقف الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
الهدف الكبير يرمي إلى التمهيد لفترة حكم انتقالي، تُنهي الصراع والحرب وتحقق السلام في السودان.
كل هذا يعني أن طلب البشير من بوتين توفير “حماية”، يؤشر إلى أن الرئيس البشير فشل في كسر طوق دولي يحاصره بمذكرات اعتقال دولية، وهو يظن أن الضرب على الوتر الروسي قد يقلب المعادلات الدولية.
عين البشير على تجربة بوتين مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي قتل آلاف السوريين، أي أن الرئيس السوداني مستعد لخلط الأوراق، وإطاحة تحالفاته في المنطقة الخليجية والعربية، بفتح السودان لإنشاء قاعدة عسكرية روسية، والاعتماد بشكل كامل على حماية موسكو، كما فعلت مع بشار، على الرغم من اختلاف ظروف سوريا وأهميتها للروس، وتباين حقائق التاريخ السياسي والجغرافيا.
اللافت أن وزير الخارجية السوداني الدكتور إبراهيم غندور سعى إلى تبرير طلب البشير ” الحماية ” من بوتين، وعزا ذلك إلى مواقف دول غربية تجاه السودان.
محلياً، هناك بعد داخلي وراء طلب “الحماية”، وتؤكد المصادر أن البشير “يعاني من قلق داخلي كبير، ناجم عن تفاقم صراعات بين عناصر مؤثرة في تركيبة الحكم”، وترى أوساط مطلعة على تفاعلات الشأن السوداني “أن كلام البشير في مدني عاصمة ولاية الجزيرة في 16 نوفمبر 2017 عن دعمه والي الولاية محمد طاهر أيلا “لو ترشح لانتخابات الرئاسة في “2020 تحمل رسائل، لأطراف قيادية بينها نائب الرئيس الفريق أول ركن بكري حسن صالح.
بكري وهو رئيس الوزراء أيضاً، يعرف أن الرئيس يتحكم في كل شيء، ولا تستبعد المصادر أن تظهر تفاعلات ساخنة داخل مفاصل الحكم، خلال هذه الفترة، لأن الأمور وصلت إلى مرحلة ملتهبة، وبحسب المصادر “هناك من يخاف ويخشى بكري، خصوصاً بشأن ملفات فساد مالي وإداري يحاول فتحها، وتطال رؤوساً كبيرة”.
هناك من يرى أن الوضع في السودان وصل إلى “عنق الزجاجة” ومرحلة ملتهبة، تفرض سؤالاً محدداً: من سيقرر – قبل الآخرين – خوض آخر مراحل السباق الساخن، ويحسم الأمور بقرار صعب، لا مفر منه، ليقلب كل المعادلات الحالية، هل يبادر الرئيس، أم نائبه بكري، أم طرف ثالث، أم الشارع؟
التغيير في السودان له امتدادات خارجية، تفرضها مستجدات إقليمية ودولية متسارعة، وبسبب سعي البشير المستمر إلى تغيير التحالفات في المنطقة الخليجية والعربية والإسلامية والعالم.
ترى مصادر مطلعة أن علاقات السودان الخارجية ستصيبها هزات قوية في الفترة المقبلة، خصوصاً أن طلب ” الحماية” من موسكو، حمل ” إساءة للدور الأميركي، ولدول خليجية ساهمت في دفع واشنطن إلى رفع العقوبات الاقتصادية، التي فُرضت على السودان”.
أي أن أصداء وتبعات كلام البشير، في مدينة سوتشي الروسية، ستظهر في كيفيات تعامل دول المنطقة الخليجية والعربية، وواشنطن مع الخرطوم، في مرحلة ما بعد ” طلب الحماية”، ويُعتقد بأنها ستركز على ” إجراءات” لا تصريحات.
هذا يعني أيضاً أن “العامل الخارجي” الذي يراهن عليه النظام لكسر عزلته، يُواجه اختبارات صعبة، لكن رغم أهمية الدور الخارجي في الضغط على النظام أو منحه فرصة تنفس إضافية، فان إرادة الشعب السوداني (كما تؤكد أحداث التاريخ) تبقى هي العنصر الحاسم في رسم خارطة التغيير الشامل في السودان.
نرى أن تفاعلات ” طلب الحماية” ومحاولات الاستقواء بالخارج، ستساهم في إحداث هزة قوية في أوساط القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني السودانية، التي تعارض نظام حكم الفرد.
أمامها الآن فرصة، كي تعيد النظر في هياكلها وأولوياتها، وتكتيكاتها وتدرس نقاط ضعفها، وتعمُق مرتكزات قوتها، فمعها الحق، ومشروعية العمل لانتزاع حقوق مسلوبة، لكنها تفتقر إلى فلسفة العمل الجماعي، بأهدافه المحددة، وآلياته الواضحة.
العالم كله يحاول الآن قراءة سيناريو أحداث متوقعة في السودان، بعد طلب ” الحماية” الروسية، والمؤكد أن الرئيس البشير أعلن ” على الهواء مباشرة” إفلاساً سياسياً تاماً، من خلال طلب” الحماية” من بوتين، وهو طلب غير مسبوق في تاريخ السودان والمنطقة، لأنه أتخذ طابع “البث المباشر”.
فهل يعني كل هذا التخبط، المستمر، منذ انقلاب 30 يونيو 1989، أن الحال بلغ مداه الآن، وأن البشير دخل مرحلته النهائية، وأن ساعة الرحيل اقتربت؟
modalmakki@hotmail.com