“نقوش على جدار الغربة” عنوان مجموعة ياسر خيري الأخيرة يجعل القارئ متأرجحاً بين احتمالي قصائد كتبت ( في) أو (عن) الغربة.
واللافت أن مفردة ” غربة” لم ترد سوى مرتين في ست وأربعين نصاً حوتها المجموعة، مما يرجح أن الشاعر أراد أن يقول لنا أن هذه القصائد لا تمثل تجربته (عن) الغربة ومعايشتها وإنما هي مجموعة القصائد التي كتبها (في) مغتربه .
لكن قد لا نطمئن إلى هذه الفكرة كثيراً إذا انتقلنا إلى مفردة مجاورة هي مفردة (وطن) والتي وردت في المجموعة ثماني مرات، سبع منها بصيغة ( وطني) ولا يخفى أن هذه الإضافة تقيدها وتعيدها إلى وطن بعينه هو وطن الشاعر الحقيقي وحيزه الجغرافي الذي ينتمي إليه، وقد قيد الشاعر المفردة أكثر في مواضع أخرى مثل :
فلا تستغربوا منهم
سواد الوجه
قد سجدوا
لوجه الكفرِ
من عقدين في وطني
لغولٍ غاشمٍ
مجنونْ..( قصيدة: لسان الخبز)
فإيراد الشاعر كلمة (عقدين) تحيل القارئ إلى وطن بعينه لاشك له علاقة بالتاريخ المعين، وحتى المرة الوحيدة التي أتت فيها كلمة كلمة (نكرة) فإن الشاعر لم يغفل ربطها بوطن معين في قوله:
وطنًا بهيـًا
صارخَ اللاءاتِ
في إشارة لخرطوم اللاءات قبل أن يعود مصرحاً بالسودان
في قصيدة ” نقوش على ذاكرة الغربة”
بقوله في خاتمتها :
فالعيرُ عيركَ
في بواديَ أحرفٍ
غنّتْ هواكَ
قصيدةً
عنونتها
السودانْ
هذا عدا إشارات متعددة تدل على أن الشاعر يكتب عن غربته لا فيها .
فهناك النيل وأرجحة الحقائب وغيرها..
البناء الشكلي
تراوح نصوص المجموعة بين قصيدتي التفعيلة والعمود ونقول قصيدة العمود على الرغم من أنه لا يبدو ” شكلياً” أن هناك قصائد في الديوان تتخذ هذا الشكل، لكن بالنظر إلى القصائد بشكل عام نجد أن هناك عدداً منها يمكن أن يصنف قصائد عمودية ؛ إذ يمكن إعادة ترتيب الأبيات لتصبح قصائد عمودية من صدر وعجز بالشكل الكلاسيكي المعروف .
وهذا يصدق على عدد من القصائد، ويمكن التدليل على ذلك ببعض قصائد خاصة تلك التي كتبت على بحر ” الوافر” الذي يتكون شطره من تفعيلتين سباعيتين وثالثة خماسية ( مفاعلتن مفاعلتن فعولن) وهو بحر لا يستخدم في قصائد التفعيلة التي تعتمد التفاعيل الموحدة، ومن ذلك قصيدة ” سهام الوقت والتي ” رسمت” هكذا :
سِهامُ الوَقْتِ
تنتاشُ
الأماني
وتقْطعُ حبلَ
سَرْجِي
عن
حصاني
يُجَالِدني الزمانُ
بسيفِ
بطشٍ
إذا ما قمتُ
أجْلِده
رَمانِي!
ولن يجد القارئ معاناة في إعادة تركيبها هكذا :
سِهامُ الوَقْتِ تنتاشُ الأماني
وتقْطعُ حبلَ سَرْجِي عن حصاني
يُجَالِدني الزمانُ بسيفِ بطشٍ
إذا ما قمتُ أجْلِده رَمانِي!
وتستمر القصيدة على هذا النسق حتى نهايتها، وهذا ما ينطبق على قصيدتي : ” حديث الشوق” و” سدرة الرؤى”، وهو مايمكن تطبيقه على نصوص أخرى .
وإن كان خيري وفياً لقصيدة التفعيلة والعمود شكلياً فإنه متمرد عليهما على مستوى آخر، فلم يرتهن لطرائق تعبيرية جاهزة وإنما تجاوز ذلك بالإفادة من تقنيات عدة ليجعل من نصه أفقاً مفتوحاً على جماليات فسيحة .
والسؤال هل استطاعت قصيدة خيري باستنادها على الشكل القديم التخلص من سطوته، والانفتاح على تقنيات أو خصائص القصيدة الحديثة؟ وقد أستطيع القول مطمئناً أنه فعل ذلك بامتياز، فمن ناحية الكثافة والإيجاز فإن ما تميزت به قصيدة خيري القصيرة في غالب الأحيان تجعلنا أمام نص بالضرورة مكثف وموجز متماسك لا يمكن اجتزاء بيت منه كما يمكن أن نفعل مع القصيدة العمودية القديمة التي يمكن أن يعاد _ في كثير من الأحيان_ إعادة ترتيب أبياتها بوصفها وحدات منفصلة متتالية، وإن كان هذا الديوان ” نقوش على جدار الغربة” قد نسج على مثال من ناحية الوزن والقافية فإنه حافل بالمفاجآت والجدة التي تجعله يحلق بعيداً عن كل ما يسمه بالتقليدية .
وظني أن هذا كان رهان خيري الأساسي الالتزام بالوزن والقافية والخروج في الوقت ذاته من ربقة القديم .
وقد توخى ذلك من خلال استخدام أدوات مختلفة .
الإيقاع
ولننظر إلى هذا التنويع الإيقاعي في قصيدة هم الشعراء ونتخذها مثالاً للتصرف الموسيقي لدى خيري :
بالنُّورِ/ ما انْتَبه الصباحُ
البكرُ
هم يتبرَّكونْ
…………..
بالعطر/ ما ارْفَضَّ النّدى
في الزَّهرِ
هم يتضوَّعونْ
وبنظرة سريعة نجد أن الشاعر استخدم المقابلة بتنويعات مختلفة وتمثل ذلك في مقابلة كلمة بكلمة (بالنور) و(بالعطر)، ومقابلة جملة بجملة في (ما انْتَبه الصباحُ البكرُ )و(ما ارْفَضَّ النّدى في الزَّهرِ) والمقابلة الأخيرة وهي مقابلة جملة من كلمتين بجملة من كلمتين (هم يتبرَّكونْ) و(هم يتضوَّعونْ ) تختلف عن سابقتها بتكرار كلمة (هم) والتي ترفد الإيقاع بميزات إضافية .
والتكرار فقد تكررت كلمة ( هم) مثلاًُ في هذا النص أكثر من عشر مرات مرتفعة بموسيقى النص .
ليقابل المقطع كاملاً بنظيره، وقد لا نجافي الحقيقة كثيرا إذا ماقلنا أن الشاعر قد أضفى على بحر الكامل الذي كتبت به القصيدة روحاً جديدة.
العناوين
وإن كان العنوان أدخل إلى باب المعنى منه إلى باب الشكل _ والمعني بالشكل هنا هو تركيب الجملة _ فإننا سننظر إليه أولا من ناحية الشكل، وهو بلا شك لاينفك عن المعنى، والنظرة الأولى تقول أن أغلب عناوين الديوان تتكون من كلمتين، لكن اللافت هو سيطرة تركيب الإضافة عليها، فقرابة نصفها ( عشرون قصيدة) تتكون من مضاف ومضاف إليه، بينما تتكون عناوين أربع قصائد من عطف تركيب إضافي على آخر مثل (منسأة الأسى وصندل بلقيس) و( برتقال الهوى وفتنة التفاح)، وكأن الشاعر لايريد أن يفلتنا من سطوة تراكيبه الإضافية فنجد نوعاً آخر منه وذلك بإضافة حرف جر للتركيب في عدد من القصائد مثل ( على / شفا الغروب) و(في/ مهب الهوى) وحتى العناوين المكونة من عدة كلمات يظهر فيها هذا التركيب مثل ( ظلال في / حديقة المطر) وعروس الديوان( نقوش على / جدار الغربة) .
وأفاد الشاعر من طاقة التركيب الإضافي في توليد معاني جديدة حتى وإن كان التركيب في شكله مألوفاً أي يمكن أن يرد على نحو أو آخر في ذهن القارئ أو مفارقاً لأي توقع، ويمكن أن نسوق مثالاً لذلك بعنوان حوى تركيبين إضافيين ( برتقال الهوى، وفتنة التفاح) فإذا كان تركيب فتنة التفاح قريباً من الذهن يستند إلى مرجعية الشجرة المحرمة، فإن برتقال الهوى تأخذ القارئ إلى معنى غاية في الجدة.
وتأخذ عناوين الديوان من ناحية المعنى وعلاقته بالنص منحيين فهي إما أن تكون مجتزأة منه مباشرة أو محلقة كأنها نص مواز يرتبط بالنص ولا يرتبط به.
وعندي أن الأولى ( المجتزأة من النص) يمكن نسمها بأنها “مفتتح” للنص تربطها به أواصر لغوية مباشرة، مثل ” قلق الدواة” ولسان الخبز ” وقد تأتي في أوله كما في المثالين السابقين أو في داخله كما في ” أبهة الخيال” .
كما يمكن أن نسمي الأخرى بـ” مفتاح ” النص إذ تشخص بوصفها نصاً موزاياً يرتبط بالنص الأساسي بخيوط غير مرئية، لكنه _ أي العنوان_ قادر أن يفتح للقارئ عوالم النص .
وهذا مايمكن أن نمثل له بـ” على شفا الغروب” وهي جملة لا ترد في النص ولا ترد مفرداتها في تراكيب مقاربة، لكنها تفتح أبواب النص أمام القارئ ليلجه بيسر .
التناص والغربة
وفي المجموعة ” تعالق ” مع أزمان عديدة، تطل عبر شخوص وأحداث، فنجد على سبيل المثال : بلقيس / الهدهد / طاليس/ نوح/ سالومي/ يوحنا/ شمشون/ قابيل / ابن منظور/ قيس وليلي / الفينيق/ بهرام/ جيفارا / البسوس/ جساس/ أثينا / الأوديسا/ الإلياذة/ زرياب، ما فتح بصيرة القصائد على حقل مترام من المعاني، ولن نتوقف أمام هذه الرموز، لكن سنتجاوزها إلى قصة سيدنا يوسف التي تكررت بصور مختلفة في المجموعة.
وظني أن الشاعر وفق في تناول الغربة من خلال توظيفه هذه القصة، فـ”غربات” يوسف الثلاث في الجب وفي مصر ثم في سجنها اقترب الشاعر من عوالمها كثيراً، ففي قوله :
سـأرُدّ لي
بصري
فأرْجـعُ مُبْصـِرًا دَرْبـِي…
هو الدرب الذي سينتهي به إلى وطنه حيث اللقيا والعناق المشتهى، يقول:
قميصُ الغيابِ
لديَّ اشْتَهى
عناقًا شهيَّا عميق
الأثرْ
فهو يتمنى العودة إلى وطنه، لا يريد للغربة أن تحاول النيل منه، وتتخذه يوسفاً، يقول :
واتَّخذنكَ
” يوسفًا ”
سمحَ المُحيّا
فـاتنَ القسماتِ
وبالالتفات إلى غربتين أخريين، وهما غربة الجب، وغربة السجن، نجد أن الشاعر وإن استخدم مفردة الجب صراحة في قوله :
ونادى على “يُوسفِيه”
اشتكى
لجبِّ الفِـراقِ
ذَهابَ البصرْ
إلا أن نص “حلم ” في رأيي وهو من النصوص اللافتة جداً في المجموعة، هو الأقرب لعوالم الغربة وقيودها وتبدأ القصيدة بـ:
أرَى في الحُلمِ خُبزًا
فوقَ رأسي،
تَخاطفَه الجرادُ
بلاهوادة
وتمضي القصيدة لتناقش أمر فقدان الإرادة، فالشاعر في الحلم لا يستطيع القيام، ولا الصراخ فهو فاقد للإرادة تماماً، كأنه في جب أو في سجن أو في أي عالم يخسر فيه إرادته :
أحاول أن أقوم وكيف أصحة
وهل في النوم تختبر الإرادة
ألا نستطيع القول:
وهل في ” السجن” تختبر الإرادة
وهل في ” الجب” تختبر الإرادة
وبعد فإننا أمام مجموعة شعرية تكشف لقارئها في كل عودة إليها ما لم يتبينه في القراءة الأولى .