القمع، الاستبداد، الفساد، فشل “الشعارات” السياسية والاقتصادية، ارتفاع معدلات معاناة المواطنين بسبب ارتفاع الأسعار اليومي وظروف المعيشة القاسية، منع سفر سياسيين وصحافيين ونشطاء، إغلاق صحف ومصادرتها بعد الطباعة لتكبيدها خسائر، استمرار نهج الاعتقالات، حظر إقامة ندوات قوى سياسية وطالبية، تقلبات وتبدًل وتحوًل مستمر في السياسة الخارجية، السقوط المتواصل في وحل المحاور، تزوير انتخابات (الخ).
هذه بعض أبرز عناوين عام 2017 بالسودان، في ظل حكم الرئيس عمر البشير، الذي استولى على الحكم بانقلاب عسكري “إخواني” التخطيط والتوجه، أطاح بحكومة ديمقراطية منتخبة، في الثلاثين من يونيو 1989.
بهذه العناوين ودع حكم البشير عاماً ميلادياً، ودخل بالعناوين نفسها إلى العام 2018، ويشكل التزامن بين إطلالة العام الميلادي الجديد ومرور الذكرى الـ 62 لاستقلال السودان مأزقاً إضافياً، يضاف إلى مآزق النظام.
الاستقلال لا يعني فقط خروج المستعمر، ورفع علم السودان المستقل، إذ أن الأهداف الكبرى للاستقلال تكمن في تحرير الإنسان من الاستبداد، والظلم، والقمع، وفتح أوسع آفاق الحريات، والديمقراطية، والمشاركة الشعبية الحقيقية، النابعة من خيار الناس، لا من خطط الانقلابيين.
بالمعنى السياسي للاستقلال، فان الانقلاب” الإخواني” على نظام اختاره الشعب السوداني عبر انتخابات حرة نزيهة، سلب من الاستقلال أهم معانيه، بالولوج في سياسة المحاور، و ظهر ذلك في تفاعلات زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان في 24 ديسمبر 2017.
بدا واضحاً أن موافقة البشير على طلب أردوغان تسليمه ” سواكن”، قد نقل السودان إلى محور جديد، يدعم الخط ” الإخواني” في المنطقة، ويرسل رسائل إلى القاهرة والرياض وأبو ظبي، وعواصم أخرى، وهي رسائل سترد عليها هذه العواصم بطريقتها.
كان يمكن أن تكون زيارة الرئيس التركي إلى السودان زيارة عادية لا تثير جدلاً، إذا كانت المنطقة لم تقع في وحل الاستقطاب والاستقطاب المضاد، ولا نعتقد بان سودانياً يرفض أن يرتبط السودان بعلاقة اقتصادية واستثمارية مع تركيا أو غيرها لمصلحة الشعب السوداني، وفي ظروف طبيعية توفر شروط الاستثمار والشفافية، بعيداً عن فساد النظام الحاكم، وأجندته الخفية.
كل المؤشرات تؤكد أن هناك محوراً جديداً يتشكل، ويلعب من خلاله البشير لعبته المفضلة (لعبة المحاور)، وكان بدأها منذ سنوات مع إيران، ويذكر متابعو الشأن السودان على سبيل المثال كيف كانت النظام الحاكم الحالي يشن حملات إعلامية على السعودية، طالت رموزها.
مراقبو الشأن السوداني يعرفون كيف نجح نظام البشير في خداع الرئيس المصري السابق حسني مبارك، الذي قام بتسويق انقلاب ” الجبهة الإسلامية” الإخوانية، خليجياً وعربياً، على خلفية خلافات مبارك مع رئيس الوزراء المنتخب الإمام الصادق المهدي، وهي خلافات موضوعية بين رؤيتين مختلفين، حول كيفيات بناء تكامل حقيقي بين مصر والسودان، يحقق مصالح الشعبين.
وها هي تجربة حكمة الرئيس البشير، التي تجاوزت الـ 28 عاماً، أكدت أنه أبعد ما يكون عن تعزيز معاني وقيم الاستقلال، لأنه سلب الحريات، وقمع الناس، وأذلهم، ومزق السودان إلى دولتين، ودمر الاقتصاد.
هو يخوض الآن معارك محور جديد، سيترتب عليه مخاطر وتحديات ستواجه السودان والسودانيين، خصوصاً أن الرئيس البشير، الذي طلب الحماية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثناء وصوله إلى منتجع سوتشي بروسيا في 23 نوفمبر 2017، يعطي أولوية للتحالفات العسكرية وسياسة المحاور.
الرئيس على رغم أنه يُحرك برلمانه كيفما اتفق، وعلى أية شاكلة، لم يخطر “البرلمانيين” مجرد إخطار وإبلاغ بطلب الحماية من بوتين، ولم يستشرهم أيضاً بشأن ” سواكن”، حيث وافق على تسليمها لأردوغان، ليعيد “زمن العثمانيين” كأنها ملك شخصي له، وليست أرضاً سودانية، وهو بهذا السلوك السياسي الديكتاتوري يستقل برأيه ويواصل نهج الاستبداد.
سياسة المحاور، تضرب الاستقلال في الصميم، لأن الاستقلال السياسي يعني أن تحرُّر الأوطان من أيّة سُلطة خارجيَّة، وهذا غير موجود حالياً، لأن المحور الجديد، يخضع لسلطة ” التنظيم العالمي للإخوان المسلمين”، وهو تنظيم عابر للحدود، ولا يقف في حدود الدولة الوطنية.
من رأى أردوغان وهو يقف إلى جانب البشير في الخرطوم ويرفع “علامة رابعة”(شارة رابعة التي رفعها مؤيدو الرئيس المصري السابق محمد مرسي)، سيعرف أبعاد القلق المصري السعودي الإماراتي، وقد جرى التعبير عن هذا القلق بأشكال ورسائل مختلفة، بعضها معلن، والآخر تفاعل خلف أبواب مغلقة وفقاً للمصادر.
في ظل ردود فعل إقليمية غاضبة من تحالف البشير- أردوغان – ويرى منتقدوه أن المحور يشمل قطر وإيران – لم يشر البشير – في خطاب وجهه في 31 ديسمبر 2017 إلى الشعب السوداني عشية ذكرى استقلال السودان – إلى تفاعلات القلق الإقليمي أو الدولي حول زيارة أردوغان، وما تردد حول توقعات بإنشاء قاعدة عسكرية تركية في سواكن على البحر الأحمر.
هنا اختفت الشفافية، فغابت تفاصيل الاتفاق، كما لم يُوضع في دائرة الضوء طلب البشير الحماية (العسكرية) من بوتين، وإعلان حالة الاستعداد والتهيؤ لبحث إقامة قاعدة عسكرية، الرئيس قال إنه مهتم بأمن البحر الأحمر، ولم يبحث الأمر مع الدول المطلة عليه، قبل طلب الحماية، أو قبيل إبرام إتفاقه مع أردوغان حول “سواكن”.
لكن الرئيس البشير أرسل – ضمن خطاب ذكرى الاستقلال – رسالة إلى السعودية تضمنت إشارة إلى”مشاركة قواتنا الباسلة في إعادة الشرعية في اليمن” و”إننا لماضون في هذه المشاركة حتى تحقق غاياتها النبيلة”.
الرياض تراقب التطورات، وكانت أوفدت إلى الخرطوم مساعد وزير الدفاع السعودي الفريق طيار ركن محمد عبد الله العايش في 30 ديسمبر 2017، وجاءت الزيارة غداة اختتام أردوغان زيارته إلى الخرطوم في 26 ديسمبر 2017، والتقى الموفد السعودي وزير الدفاع السوداني الفريق أول ركن عوض محمد أحمد بن عوف.
الخرطوم أعلنت رسمياً إن ” الجانبين عقدا جلسة مباحثات تناولت مجمل قضايا، الراهن العسكري والأمني في المنطقة، ومناقشة التدابير المطلوبة للتعاطي مع الأحداث، وما يستجد من مواقف بالقدر الذي يحق الأمن والاستقرار في المنطقة، ويحمي المصالح الاستراتيجية للبلدين الشقيقين وللأمة العربية والإسلامية”.
لكن مصادر أخرى توقعت أن يكون المسؤول السعودي نقل وجهة نظر بلاده وموقفاً محدداً بشأن أمن بلاده، والمحور الجديد، الذي دخله السودان مع تركيا.
خطاب البشير في ذكرى الاستقلال اكتفى أيضاً بالإشارة إلى “اتفاق شامل للتعاون الاستراتيجي مع جمهورية روسيا الاتحادية، ومع جمهورية تركيا، الأمر الذي يهيئ فرصة واسعة لاستغلال موارد بلادنا في إحداث تنمية من خلال مشروعات محددة تقود الاقتصاد القومي نحو مدارج النمو المتسارع” لكنه أخفى تفاصيل التعاون العسكري، وخصوصاً البنود السرية.
نهج التعتيم والتضليل والكذب مورس أيضاً فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي في السودان، الرئيس قال في خطاب ذكرى الاستقلال “إن قوى شاركت في مؤتمر الحوار الوطني (قاطعته أحزاب وقوى ذات وزن وتأثير على الساحة السودانية) توافقت على أن اقتصادنا القومي لا يعاني من أزمة، كما يحاول أن يصورها البعض؛ بل نواجه صعوبات وتحف به مشكلات، تتمثل في اختلال هيكلي منذ إعلان تكوين الدولة الوطنية واعتمادها مبدأ تحقيق تنمية شاملة وتحديث للحياة العامة”.
هذا كلام مضلل، ولا يعترف بأزمات طاحنة، ويكشف زيفه بنود موازنة العام 2018، التي وصفها سياسيون وخبراء، بأنها أسوأ موازنة في تاريخ البلد، لأنها مشحونة بالعجز، وسترهق المواطن، وسترفع أسعار السلع الحياتية الضرورية بمعدلات قاسية، وهي أصلاً مرتفعة، كما ستؤدي لانهيار أشمل للخدمات التعليمية والصحية وغيرها.
كل هذا يعني أن نظام البشير يمارس أساليب التضليل داخلياً مع شعبه، إذ ما يزال ينفي وجود أزمة اقتصادية، ويرى أن هناك مجرد “صعوبات” كما يمارس لعبة الخداع والتضليل مع دول في الخليج والعالم العربي، ودول كبرى تحترم حقوق الانسان.
الرئيس، وهو الذي يتحكم في أي قرار، ينتقل من محور إلى آخر، ويهمه من كل ذك الحفاظ على الكرسي الساخن، وتجنًب مطاردة المحكمة الجنائية الدولية، التي تتهمه منذ 14 يوليو 2008 بارتكاب “جرائم إبادة جماعية” في حق قبائل الفور والمساليت والزغاوة لأسباب إثنية، كما تتهمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور.
نخلص من كل ما سبق إلى تجديد الدعوة إلى إخواننا وأشقائنا في دول الخليج من دون استثناء والمنطقة العربية، والأفريقية، والإسلامية، وقادة الدول الكبرى (أميركا وأوروبا) والمنظمات الحقوقية إلى إعادة قراءة الأوضاع في السودان في ظل استمرار الحكم القمعي الحالي، وسياسة المحاور التي يمارسها، نجدد الدعوة لهم جميعاً ليدعموا الشعب السوداني، ولا يساهموا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في قمع الشعب من خلال دعم النظام الديكتاتوري، الظالم.
الشعب السوداني، بقواه السياسية ذات الجذور المجتمعية، والبعد التاريخي والثقل الجماهيري، وبمنظماته المدنية الديمقراطية – ورغم قسوة الظروف التي خلقها النظام بسياساته الرعناء الفاشلة – متمسك بمبادئ حسن الجوار، وبقيم العمل الجماعي، لخدمة المصالح المشتركة، بعيداً عن أي تهديد لاستقرار الجيران، وهذا لم يحدث في ظل الأنظمة الديمقراطية المنتخبة.
النظام الديمقراطي في السودان يسعى – كما تؤكد حقائق التاريخ وعلاقات التواصل الحميم مع الجغرافيا ودول العالم كافة – إلى إطفاء الحرائق في المنطقة لا صب الزيت عليها.
هذه قيمة نابعة من ضمير الشعب السوداني، شعبنا مجبول على فعل الخير ومطبوع على الاعتدال، ورفض التطرف والمتطرفين والإرهاب والإرهابيين.
شعبنا سينتصر في نهاية المشوار، على نظام لا يمثل الفطرة الطبيعية، السودانية، السليمة، فادعموه.. لكيلا تتحول سياسة المحور “الإخوانية” إلى طوق وحبل، يخنق الشعب، ويهدد الجيران..
modalmakki@hotmail.com