العلاقات بين دولتي وادي النيل ( السودان ومصر) علاقات مصيرية لا ينبغي أن تترك لمساجلات حكومية أو مزايدات إعلامية. أولى بالحكماء في البلدين أن ينهضوا لتقويم ما يعتريها من اعوجاج.
1- المدخل الصحيح لحل المشاكل هو تشخيصها بموضوعية فالحكمة دائماً “إذا تباينتم ما تدافنتم”.
فمنذ 30 يونيو 2013م تفاقمت الأمور بحيث عُدت حركة الإخوان المسلمين حركة إرهابية.
هذا بينما النظام الحاكم في السودان أقامته حركة ذات مرجعية إخوانية. وفي مرحلة تأسيسه حظي بدعم الحركة الإخوانية الدولية، وما زال متحالفاً مع أحزاب إخوانية سودانية.
المواجهة بين نظام الحكم في مصر وحركة الإخوان دخلت طرفاً فيها عناصر ذات عداء تاريخي وأيديولوجي مع حركة الإخوان، وهم حريصون على منع أية مصالحة مع الإخوان بل العمل على اجتثاثهم.
2- الحركة الإخوانية في مصر ارتكبت مجموعة أخطاء غذت الحجة ضدها أهمها:
(أ) لأسباب موضوعية أدركت حركة الإخوان أنها غير مستعدة لولاية حكم البلاد وأن البلاد غير مستعدة لقبول حكمها، لذلك أعلنت الترشح في 30% من المقاعد التشريعية، وعدم الترشح للرئاسة. لكن عوامل آتية من خارج المجتمع المصري أقنعت الحركة بالعدول عن ذلك الموقف. هذا التأرجح بدا لكثيرين مجرد مناورة.
(ب) وقف مع د. محمد مرسي في جولة التصويت الأولى 5 مليون ناخب. ولكن صوت له في الجولة الثانية 13 مليون وزيادة. تقديراً لهذه الحقيقة اجتمع الرئيس المنتخب مع ممثلي القوى السياسية غير الإخوانية التي صوتت له. وأجرى معهم اتفاقاً في فندق فرمنت. اتفاق لم ينفذ.
(ج) وفي نوفمبر 2012م أصدر الرئيس المنتخب إعلاناً دستورياً حصن قراراته من نفوذ القضاء.
(د) انسحب عدد معتبر من أعضاء اللجنة التأسيسية المكلفة بكتابة الدستور من القوى السياسية غير الإخوانية كما انسحب ممثلو الكنيسة.
(هـ) الاستقطاب الحاد الذي نشأ في البلاد أدى لتكوين جبهة إنقاذ ضد الحكومة الإخوانية. أنا وزملائي في منتدى الوسطية العالمي أدركنا خطورة الاستقطاب على التجربة الديمقراطية المصرية وذهبت ود. مروان الفاعوري لمقابلة د. محمد مرسي رئيس الجمهورية يومئذٍ، كما اتصلنا بقيادة جبهة الإنقاذ، ووضعنا مشروعاً توفيقياً. المشروع قبلته قيادة جبهة الإنقاذ ووعد د. محمد مرسي بدراسته، ولكن عندما التقينا المرشد ونائبه قال لنا السيد رفعت الشاطر إن الرئيس لن يقبله. والمعنى أننا لا نقبله وسوف نبلغ الرئيس بذلك.
أدركنا أن القرار السياسي في المقطم وليس في قصر الرئاسة. هذه الحقيقة أقنعت كثيرين في مصر أن من انتخبوه لا يحكمهم بل قيادة أخرى. وانتشر شعور بأن الحركة الإخوانية تحكم البلاد بنهج حزبي بث المخاوف لا سيما والتجربة السودانية ذات المرجعية الإخوانية ظاهرة للعيان وظاهر تأسيس حكمها على التمكين وإقصاء الآخرين.
(و) هذه المآخذ أدت إلى حركة 30 يونيو 2013م، وما اعقبتها من تداعيات، حتى فض اعتصامات الإخوان وأهمهما في مسجد رابعة بالقوة المفرطة. هذه المواجهة أدت إلى تصريحات نارية: “قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، حنولعها فيكم، حنسحقكم، ما يحدث في سيناء سوف ينتهي فوراً عندما يعود محمد مرسي للرئاسة.”. وهلم جرا.
(ز) أصدرت الهيئة الشرعية للإخوان قرارات بإجازة الاغتيالات ثأراً. وأكدت الالتزام ببيعة د. محمد مرسي، وصدر نداء الكنانة إعلاناً للحرب على نظام الحكم القائم.
3- الحكومة التي تكونت في 3 يوليو 2013م اتخذت إجراءات يعاب عليها:
(أ) فض الاعتصامات الإخوانية لا سيما في مسجد رابعة بالقوة المفرطة.
(ب) اعتبار الحركة الإخوانية حركة إرهابية تماماً مثل بيت المقدس، وأجناد مصر، والقاعدة، وداعش.
(ج) إلحاق كل المعارضين للنظام الجديد حتى شباب الثورة بالإخوان وقبض الحريات.
(د) إفساح المجال لأعداء الإخوان التاريخيين والأيديولوجيين لشيطنة الإخوان وللطعن في ثورة 25 يناير 2011م وإجراء محاكمات انتقامية.
هذا الاصطفاف لمعارك حتى كسر العظم أزعجني لإدراكي ما سيعود لمصر، ولنا في السودان، بل وللمنطقة من مضار، ووجدت أن واجبي أن أعمل بكل ما أستطيع لنزع فتيل هذه المبارزة. ومع أنني من ضحايا فرع “إخواني” في السودان استبد بالسلطة انقلابياً وأذاق أهل السودان الويلات، اهتديت بالتوجيه الرباني: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ)[1]. واهتممت بمقولة السيد إبراهيم منير نائب المرشد وأمين التنظيم الدولي الذي تخلى عن القصاص. ورفض العنف ضد الدولة. وشبه الداعين له بشباب محمد الذين خرجوا على الشيخ حسن البنا باتهامه بالتهاون مع السلطة وأكد أن الإخوان خطهم: سلمي وسطي.
وتذكرت المراجعات التي حدثت في ثمانينيات القرن العشرين للجماعة الإسلامية المصرية، وكتبت خطاباً مفتوحاً للرئيس عبد الفتاح السيسي أناشده أن يستخدم سلطاته لإصدار عفو عن المحكومين بالإعدام ليفسح المجال لمراجعات تثمر مصالحات. هذه المناشدة لم تجد استجابة بل دفعت بعض اليساريين المهمومين بتصفية حساباتهم مع الإخوان لاستنكار المناشدة بل وإعلان أن الرئيس نفسه لا يستطيع إصدار عفو عن هؤلاء المجرمين لأن سحقهم إرادة شعبية غالبة.
4- كان المرحوم نجم الدين أربكان مؤسس الحركة السياسية التركية ذات المرجعية الإخوانية زميلي في المجلس الإسلامي الأوروبي، وكان حزبه يحظى بشعبية لأن الشعب التركي قوي الانتماء للإسلام، ولكن كلما حقق الحزب نصراً انتخابياً حرمته القوات المسلحة التركية من قطف ثمار تأييده الشع
السيد رجب طيب أردوغان من زملاء المرحوم نجم الدين أربكان، وهو وزملاؤه قرروا مفارقة حزب أربكان واستصحاب الواقع العلماني الذي تحرسه الدولة العميقة في تركيا.
قاد حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان تجربة ناجحة في إدارة بلدية اسطنبول، وفي الانتخابات العامة نال أغلبية برلمانية، وكون الحكومة، وصار دون شك القوة السياسية الشعبية الأكبر في تركيا. قيادة حزب العدالة والتنمية حققت نجاحاً تنموياً وسكتت عن الصفة الإسلامية، وتصالحت مع الدولة العميقة في تركيا.
تجربة العدالة والتنمية في تركيا وجدت من كثير من المؤمنين بدور في الحياة العامة للإسلام تأييداً، وباركناها باعتبارها قدمت أنموذجاً ناجحاً. ولكن الذين ما زالوا مسكونين بالفكر الكمالي لم يرضهم هذا النجاح، ولا شك أنهم كانوا وراء المحاولة الانقلابية للقضاء على مشروع حزب العدالة والتنمية.
عندي معارف من أعضاء حزب العدالة والتنمية هنأتهم على القضاء على المحاولة الانقلابية، ولكنني نبهت أن ردة الفعل على الانقلاب كانت عنيفة وشملت معاقبة أبرياء وقلت لهم إن اعتبار جماعة الخدمة بقيادة السيد فتح الله قولن إرهابية، والعمل على استئصالها اتجاه خاطئ، فهذه الجماعة متوغلة في المجتمع التركي بل وعالمياً في كثير من الأنشطة الاستثمارية والتعليمية والمدنية، ولا يمكن محوها بإجراءات أمنية، والخط الصحيح هو إجراء مصالحات معها لا سيما وهي تعلن البراء من أية صلة بالمحاولة الانقلابية.
كما أنني في لقاء مع أحد قادة الحكم التركي في إسلام أباد قلت له إن نجاح حزب العدالة والتنمية تحقق عن طريق التزواج بين الواجب والواقع، ولكن الحركة الإخوانية في مصر وفي السودان لم تجر أية مراجعات مطلوبة، فإن التحالف معها وتبني قضيتها يتناقض مع نهج حزب العدالة والتنمية داخل تركيا فكأنما هذا الحزب تجاوز نهج أربكان داخل تركيا ولكنه تحالف معه خارج تركيا.
وفي 12/12/2017م زارني السفير التركي في السودان وأبديت له ترحيباً بزيارة الرئيس أردغان المزمعة للسودان وقلت له إنني منذ حين صرت لا أصف الدور العثماني في السودان بالتركية بل أصفه بالعثمانية باعتبار (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ)[2]والأجدى لتركيا الجديدة أن تترك تقييم تلك الحقبة للتاريخ، وأن تطل على العالم بالوجه الجديد.
5- زيارة الرئيس أردوغان للسودان حققت مكاسب في إطار التواصل بين الشعوب والتعاون التنموي والتجاري ولكنها وقعت في ثلاثة أخطاء هي:
أولاً: التجربة الخديوية والعثمانية في السودان مستنكرة للغاية اتخذت طابعاً إمبريالياً، وبدأت بمطالب ظالمة للمك نمر في شندي أن يدفع أتاوة من ألف أوقية ذهب، وألفين من الرقيق، وألف بعير، وكذلك من الأبقار والضأن وأن يركع المك نمر للباشا.
المك نمر استنكر هذه المطالب ودبر حرق الباشا بالنار. نتيجة لذلك أرسلت حملة الدفتردار الذي فرض عقاباً جماعياً دامياً على السودانيين بصورة أفزعت الشعور السوداني، ثم أقام الغزاة حكماً ظالماً خلده السودانيون بمقولة “عشرة رجال في تربة ولا ريال في طلبة”.
إشادة الرئيس التركي الزائر بهذه التجربة خطأ، وكان أولى به كما ذكرنا لأصدقائنا الأتراك أن تعتبر تلك فترة تاريخية مضت لا ينبغي جعلها أساساً للعلاقة مع تركيا الحديثة.
ثانياً: الحركة الإخوانية في مصر وكذلك في السودان لم تجر المراجعات المطلوبة للتوفيق بين والواجب والواقع. ولكن الرئيس الزائر تبنى الموقف الإخواني وفي كل المناسبات في السودان حرص على رفع شعار “رابعة” بيديه.
ثالثاً: الخطأ الثالث مرتبط بتفريط المضيف السوداني وإعطاء الانطباع أن جزيرة سواكن سوف تمنح لتركيا والإشارة لوجود اتفاق على ذلك وملحق سري.
هذه الإشارات غير مقبولة لدى أهل السودان، وهم يؤيدون الاهتمام بتطوير سواكن ويرون أن ذلك يجب أن يتم عبر قانون لتطوير سواكن، وتحديد إجراءات تقوم بها الحكومة السودانية في سبيل ذلك، ودعوة تركيا بموجب هذا القانون أن تساهم في هذا التطوير بصورة تحدد الحقوق والواجبات.
أما إعطاء تركيا “كانتون” في سواكن لتفعل به ما تشاء فغير مقبول.
نحن نعتقد أن لتركيا دوراً دولياً وإسلامياً مهماً ونقول باستمرار أن الأمن والسلام في منطقتنا يتطلب معاهدة أمن وتعايش عربية، تركية، إيرانية، وبالنسبة للسودان ينبغي إبرام اتفاقية أمن وتعايش أفريقي مع جيرانه في شمال وجنوب الصحراء.
أما ما رشح في زيارة الرئيس أردودغان للسودان من: دفاع عن التجربة العثمانية الخديوية، وتبني الإخوانية الدولية، فهما جانبان يرفضهما الشعب السوداني وإن امتثل لهما نظام مرتبك ويائس يتهافت من أجل علاقات مع الآخرين دعماً لشرعية متآكلة.
6- تميزت رسالة الإسلام بأربع حقائق فاقت كل ما عداها وصارت قابلة للتجدد في كل قرن تزاوجاً بين الواجب والواقع هي: تأكيده أن للإنسان حق وكرامة لمجرد إنسانيته(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[3].
- تأكيده أن الرسالات كانت لأقوام ولكنه للناس كافة (مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[4].
- تأكيده أن النصوص تتطلب التدبر (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )[5].
- إفساحه المجال لمصادر إنسانية للهداية هي الحكمة، والمقاصد، والعقل، والمنافع، والإلهام.
انطلاقاً من هذه الحقائق علينا أن نعرف هداية الإسلام في عصرنا.
فيما يتعلق بالأمور الثابتة وهي التوحيد، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة فإن هداية الإسلام ثابتة.
ولكن فيما يتعلق بأمور المعاملات والعادات فنحن مطالبون على أساس الواجب الإسلامي والواقع الفكري، والثقافي، والاجتماعي وعلى ضوء تجاربنا أن نجتهد في بيان أمرنا لا سيما في أمر الحركات الموصوفة بالإسلام السياسي وعلى رأسها حركة “الإخوان المسلمون”. المطلوب إجراء مراجعات على العشرة أسس الآتي بيانها:
1- لا يجوز لبشر التحدث باسم الله أو ادعاء أن موقفه هو موقف الإسلام إنما حقه أن يتحدث باسم اجتهاده أو اجتهادهم الإسلامي في القضية المعنية.
ولذلك فإن مسألة ولاية الأمر مسألة اجتهادية بشرية لا ربانية. الوحيد الذي كانت ولايته بأمر إلهي هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن حتى أول خليفة أبوبكر رضى الله عنه فإن ولايته بشرية أكدها هو نفسه بقوله في خطبة بيعته: “وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ (بشرياً) وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ (جواز ولاية المفضول) فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي (المساءلة) الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ (الشفافية) والضَّعيف فيكم قَوِيٌّ عندي حتى أرجِّع عَلَيْهِ حقَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضعيف عندي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (سيادة حكم القانون)”.
ولكن لغياب المشاركة واعتماد السلطة على القوة ادعى خلفاء آخرون لأنفسهم ولاية أمر إلهية. خليفة بني أمية الأول معاوية قال إنهم ولاة الأمر بإرادة إلهية، وأن الله إن لم يرض حكمهم لغيّره.
وادعى العباسيون على لسان أبي جعفر المنصور ولاية إلهية بقوله: إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه.
هذه الادعاءات الثيوقراطية باطلة. وهي ودمج السلطات الثلاث في يد واحدة مدى الحياة حولت الخلافة لعظم نزاع دموي مستمر، بحيث اغتيل الذين خلفوا النبي في العهد الأول واغتيل خمسة من خلفاء بني أمية، واغتيل اثنا عشر من خلفاء بني العباس، ما جعل الفقهاء يمنحون الشرعية لمجرد التغلب كما قال ابن حجر العسقلاني وما جعل الشهرستاني يقول: ما سل سيف في الإسلام على نحو ما سل في أمر الإمامة والخلافة.
الخلافة التاريخية ليست أنموذجاً يتبع وليس لها سند من قطعيات الوحي بل هي اجتهاد بشري لم يحقق مقاصد الشريعة السياسية في الشورى، والعدالة، والحرية.
والتطلع لإقامتها على كافة بلاد المسلمين غير وارد بل كانت فترة دولة الخلافة الموحدة قائمة لمدة 150 عاماً أي 10% من التاريخ الإسلام لتعقبها دول متعددة.
كذلك ادعاء أن الحاكمية في أمر ولاية الأمر لله سبحانه وتعالى ادعاء غير صحيح، فأمرها بشري على نحو ما قال الإمام على رضى الله عنه في رفض مقولة الخوارج.
ادعاءات خلفاء بني أمية وبني العباس في التاريخ القديم، ومقولة الحاكمية والتعيين الإلهي للأئمة وولاية الفقيه كلها أنماط ثيوقراطية بينما ولاية الأمر شأن بشري يحدده الناس شورى بينهم.
2- الدولة الوطنية الحديثة هي وحدة النظام السياسي الحديث، وفي إطار دستورها تراعي الواجبات الإسلامية وفي علاقات تعاهدية بين الدول الوطنية يمكن تحقيق الاتحاد الاختياري الممكن.
والنظام الدولي المعاصر اليوم يقوم على التعاهد من أجل السلام والتعاون الدولي.
إن لمثل هذا التعاهد أساساً في مبادئ الإسلام، ولكن النظام الحالي أسسه المنتصرون في الحرب الأطلسية الثانية وخصوا أنفسهم بنصيب الأسد فيه. مبدأ إقامة علاقات من أجل السلام والعدالة صحيح، ولكن نظام الأمم المتحدة الحالي غير عادل ما يتطلب إصلاحه.
3- صحيفة المدينة التي أصدرها النبي صلى الله عليه وسلم تحتوي على نواة دولة مدنية تتطلب من كل سكانها التزاماً واحداً لحفظ أمنها والدفاع عنها، وتمنحهم حقوقاً متساوية في إدارة شؤونهم الملية والمالية.
لا يوجد كيان قُطري اليوم خالٍ من تنوع ديني بين سكانه، وحتى إذا كانوا اتباع ملة واحدة فبينهم اختلافات طائفية. ويوجد تنوع إثني وثقافي. عوامل تعدد تتطلب توفيقاً لطيفاً بين الوحدة والتنوع في إطار المواطنة الواحدة.
4- كفالة الحرية الدينية تكفل للمسلمين حق تكوين هيئات دعوية لممارسة واجبات الدعوة والإرشاد على ألا تنافس في المجال السياسي على ولاية الأمر تولياً لها أو نقداً لولاة الأمر.
5- فيما يتعلق بولاية الأمر السياسي فإن طبيعة الأشياء فيها تنوع الآراء والتنافس الذي إذا لم تتوافر له قنوات سلمية اتخذ وسائل أخرى.
6- ينظم التدافع السياسي عبر منظمات سياسية أي أحزاب تؤسس بصورة تكفل وسائل المشاركة فيها ووسائل انتخابات القيادة فيها. وينبغي أن تكون هذه الأحزاب مفتوحة لمشاركة كل المواطنين الذين يرتضون برامجها.
هذه الأحزاب ينبغي ألا تتخذ لنفسها أسماء دينية بل أسماء تشير للمبادئ التي تدعو لها كالعدالة، أو الحرية، أو المساواة، أو الإصلاح، أو السلام.
الدولة المنشودة توصف بأنها مدنية لمساواة مواطنيها في الحقوق وقطعاً لا تنسب لدين لأن هذا يجعلها ثيوقراطية. ولا تنسب للعلمانية لأن العلمانية فلسفة تنكر حقائق الغيب. ويجوز للدولة أن توصف بصفات مقبولة لكل مواطنيها مثل: العقلانية، والديمقراطية، والمساواة.
7- الدعوة لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية دعوة مشروعة على أن تقوم على اجتهاد جديد يزاوج بين الواجب والواقع، ويحدد الأولويات، ويراعي حريات الآخرين الدينية وحقوق المواطنة ويلتزم بالآلية الديمقراطية.
8- الشعار الإسلامي دخل مجالات التطبيق في العصر الحديث في عدد من البلدان كما في التجربة السودانية والتجربة المصرية، في مجال المرجعية الإخوانية. وتجربة طالبان في أفغانستان، وتجربة داعش في مجال تطبيق تجارب ماضوية.
المطلوب دراسة هذه التجارب وبيان مالها وما عليها بصورة موضوعية فلا يكفي أن نقول ما فيها من إيجابيات بل نحدد تلك الإيجابيات للاقتداء بها. ولا يكفي إدانة سلبياتها بل تذكر لتجنبها.
وأهم درس مستفاد أن تجارب التطلع الإسلامي ينبغي أن تتجنب أساليب العنف، لأن هذا نهج الغلو والإرهاب، ومن شأنهما شيطنة الدعوات المعنية خاصة تجنب مقولة إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف ومن تشبه بقوم فهو منهم.
هذا ليس الأسلوب النبوي، ولا هو بالنهج القرآني الذي فيه (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [6] وفيه (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[7]. وهو يجافي الواقع فأين الساعة بعد ألف ونصف الألف من زمان النبي؟
كما ينبغي أن تدرس التجارب العلمانية اللبرالية، والقومية، والشيوعية، والنظم العسكرية للاستفادة مما جرى فيها، فكل تجربة حتى إن أخطأت تبين لنا طريق آخر من تجنب الخطأ.
9- كذلك تدرس نظم التضامن الإقليمية والدولية لتحديد مدى تطابقها مع أهدافها، وتحديد ما تتطلب من إصلاحات على أساس مبادئ الإسلام ومبادئ النهوض الإنساني الذي أثمرته التجارب الإنسانية الفاضلة.
إن الذين يرفعون شعارات إسلامية من المنسوبين لصفة “الإسلام السياسي” مطالبون بإجراء هذه المراجعات لأن كثيراً من أقوالهم وأعمالهم أضرت بقضية الإسلام وبررت شيطنة شعاراتهم.
وعلى صعيد أوسع من حركات “الإسلام السياسي” فإن الأمر يتطلب أن يتنادى العلماء والمفكرون إلى مؤتمر بعنوان (الإسلام والعصر الحديث) لدراسة الأمر والاتفاق على وثيقة هادية.
* إمام الأنصار، ورئيس حزب الأمة القومي، ورئيس منتدى الوسطية العالمي، وعضو اللجنة التنفيذية لنادي مدريد.
[1] سورة المائدة الآية (8)
[2] سورة البقرة الآية (134)
[3] سورة الإسراء الآية (70).
[4] سورة سبأ الآية (28).
[5] سورة محمد الآية (24).
[6]سورة البقرة الآية(256)
7] سورة النحل الآية(125)