تجويع شعب السودان وإذلاله وخداعه ظلت سياسة الإنقاذ منذ استيلائها على السلطة. حتى بيانها الأول الذي بررت به الاعتداء الغاشم على الحكم كان إمعاناً في الإذلال والخداع. مضت الإنقاذ قدماً في هذا الدرب من تجويع وإذلال وخداع، وكانت الوسيلة الأنجع هي التمكين باسم الدين، الأمر الذي أتاح لعضوية الإخوان المسلمين الاستحواذ على مقدرات البلد في كافة الصعد. أما من يقف معارضاً لأفكار الإخوان وممارساتهم، فهو في نظرهم مجرد «مارق» يحق لهم فصله من الخدمة، بمسوغ الصالح العام، بل وتجويعه بارتفاع الأسعار ثم إذلاله بالضرائب الفادحة والجبايات التي تتغير مسمياتها وتتضخم مقاديرها باطراد مذهل. ومن لم تجدِ معه التدابير السالفة الذكر، فهناك بيوت الأشباح والملاحقات الأمنية ووسائل شتى للتضييق على الناس في معاشهم، بل وفي مساكنهم أيضاً. هكذا ضاقت سماء السودان بأهلها. وانساح السودانيون في المنافي يمنة ويسرة.
بهذا التسلط على رقاب الناس، خرج الشعب برمته من دائرة الانتاج المثمر، ولم تعد قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات ذات جدوى لأغلبية الجماهير. وضربت كافة أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية في مقتل. في المقابل أصبح الأمن والسلاح والأدوات الخشنة لممارسة السلطة، فضلاً عن منظومة دينية ومؤسسة إعلامية انيط بهما مهام حشد الشارع وتطويعه ودغدغة مشاعر الركون إلى جبرية صارمة بأن حكم الإنقاذ قدر محتوم لا محيص عنه، كل أولئك أصبحت الاستراتيجية الأمثل للإخوان ليحققوا من طريقها استدامة حكمهم زمناً متطاولاً رغم المخازي الكثيرة الواضحة والأخطاء الشنيعة مما لا يقتصر تأثيره على الحاضر بل يتعداه إلى المستقبل أيضاً.
تلك العقلية ظلت تحدد أولويات الإنفاق الحكومي منذ مطلع تسعينات القرن الفائت. وكان الهاجس الأمني في صدارة أولويات الحكومة ومن ثم ظل الأمن يستأثر بما يتراوح بين ستين إلى سبعين في المائة من موازنة دولة فقيرة أصلاً. في المقابل، كان حتماً أن يتضاءل الاهتمام بالزراعة والصناعة والتعليم والصحة.
لما كان الاقتصاد، بمعناه البسيط متمثلاً في أكل الناس وشربهم وسبل كسب عيشهم ووسائل تنقلهم، قد بلغ هوة سحيقة ليس لها من قرار، يجد الناس أنفسهم مضطرين للخروج على حاكم استنفذ فرص تصحيح مساره ولم يعد قادراً على تلبية طموحات شعبه في حكم عادل رشيد. بالطبع هنالك مشكلة مستعصية تكمن في أن خروج الشارع ونجاحه في إحداث التغيير يحتاجان إلى قيادة تضطلع بالتنسيق والإدارة والتوجيه. وقد ظلت النقابات والأحزاب والطلاب ومنظمات المجتمع المدني الأخرى تقوم تقليدياً بهذا الدور كما حدث في ثورتي أكتوبر وأبريل. بيد أن الإنقاذ عملت، خلال فترة حكمها، على خنق النقابات المستقلة والأحزاب المعارضة وكل منظمات المجتمع مدني الحرة، وتشريد الشرفاء من أبناء السودان لتخلو لها الساحة تماماً من كل معارض قادر على استنفار الشارع بشكل فعال. وهي بهذا التدمير المتعمد للمجتمع المدني، استطاعت تمرير وصفات مقيتة من قبيل إنفصال جنوب السودان، وحرب الإبادة في دارفور، والفساد المستحكم في دواليب الدولة والمستند على شهية مفتوحة للنهب في قمة الهرم، والتراجع المستمر في قيمة الجنيه إذ لم يعد يساوي قيمة الورق والأحبار اللازمة لطباعته، والارتفاع الحاد في معدل التضخم والتقلبات المطردة في أسعار السلع الاستهلاكية وانهيار الخدمات الصحية في حدها الأدنى وتراجع جودة التعليم.. وما لا يحصى عددا من ضروب التدهور.
الإنقاذ بحيلها المعروفة تسعى جاهدة لصرف أنظار الناس عن تدهور حياتهم، وبالتالي النأي بأنفسهم عن الدواعي الملحة للخروج إلى الشارع وتغيير الوضع. من هذه الحيل، الاستخدام الواضح لطاقم إعلامي ذي دربة عالية على التمويه والمراوغة ولي عنق الحقيقة. وهو طاقم يجد مساحة رحيبة في قنوات فضائية إما أنها ممولة بالكامل من تنظيم الإخوان المسلمين أو يؤثر الإخوان فيها على القرار من خلال الإعلانات الحكومية. تجد هؤلاء يلجئون إلى تصعيد النزاع الحدودي والحرب الكلامية مع كل من مصر وإريتريا. واضح جداً أن مرتكزات النزاع في القضيتين ليست وليدة اليوم، بل تطاول عهدها جداً. إنما يتمثل الهدف الآني من إثارتها في تجييش المشاعر الوطنية خلف الإنقاذ. لكن هيهات!
في ضوء ذلك، لا بد من حلول مبتكرة لاستنفار الشارع. وهنا نجد أنفسنا أمام اعتبارين على قدر كبير من الأهمية: أولهما أن من الممكن استغلال وسائط التواصل الحديثة إلى أقصى حدود الاستغلال. وثانيهما أن الطلاب هم الشريحة الأكثر جرأة وشجاعة على ابتكار الحلول والمغامرة بوضعها موضع تجريب، سواء كان ذلك فيما يتعلق بتوقيت العمل الشعبي وتحديد كيفيته ونطاق المشاركة فيه. وحسناً فعل الحزب الشيوعي بمبادرته للخروج إلى الشارع يوم 16 يناير. إلاّ أن مثل هذه المظاهرة كان يجب أن تتزامن معها مظاهرات عديدة في مدن أخرى، وهو أمر من شأنه أن يصيب الماكينة الأمنية للإنقاذ بالخبال، ويضاعف من تآكل ذخيرتهم من الغاز المسيل للدموع، على أقل تقدير. كما يساهم ذلك في استعادة المجتمع المدني لحيويته التنظيمية المعهودة في الماضي.
في هذا الصدد، يستطيع الطلاب أيضاً ابتكار سبل تفضي بالناس إلى توثيق أية انتهاكات لحقوق الإنسان عند تصدي الإنقاذ للمظاهرات. إن التوثيق أمر على قدر كبير من الأهمية، ويمكن أن يعجل برحيل هذا النظام دون حاجة إلى إراقة دماء من الجانبين.
اعتقد أن الفرصة الآن مواتية أكثر من أي وقت مضى، لا سيما وأن الشارع أكثر استجابةً لأي دعوة للخروج طالما انطوت على قدر ملموس من المصداقية. فلم يعد للناس ما يخشونه. ولأن يموت «الزول» ذوداً عن مصالح شعبه خير له من الموت جوعاً، كما يخطط الإخوان لذلك ويحرصون.
من ناحية أخرى، وهو أمر مهم جدا، تبدو الإنقاذ اليوم في أضعف حالاتها، على صعيد تحالفاتها الإقليمية، وعلى صعيد بنيتها التنظيمية الداخلية وعلى آمالاها العريضة بنتائج فورية تتمخض عن رفع العقوبات الأمريكية.