الزمان : الساعة الثانية عشر ظهراً وشمس ام درمان ترسل أشعة حارقة كوقع سياط من لهب !
المكان : حافلة ” روزا” تمخر عباب شارع “وادي سيدنا” العتيق ..
تنفست الصعداء وقد أكرمني الله بمقعدٍ وثير بجوار النافذة وخلف السائق تماماً.. فكفاني ذلك شر ” بهدلة”.. “كراسي النص ” وعذاباتها وتباريحها .. فكلما وقعت عيناي علي “كرسي النص” .. تذكرت رائعة التجاني حاج موسي والتي كساها الاستاذ محمد ميرغني بصوته العسجدي روعة وبهاء :
دا الجاني منك ومن تباريح الهوي ..
وصفو يصعب يا جميل !
كشأن كل قادم جديد .. بدأت أتلمس ” جغرافيا ” المكان.. متجولاً ببصري .. فها هو سائق الحافلة .. يبدو عليه أنه من النوع “الزينة وحالف ما يدلينا” ! ..و هناك تجد الكمساري وهو ينتعل ” سفنجة” خضراء بادٍ علي محياها رهق المشاوير البعيدة .. ينثر ” طقطقاته” في ارجاء المكان يمنة وميسرة .. تماما كوقع خطي راقص “اشتر ” .. يفسد علي الآخرين سلامهم الداخلي! ها هو ذا يلتفت ويستدير بخفة البهلوان .. ثم ما يلبث ان يصيح في احدهم وهو يقف “مكرفسا” في مدخل الحافلة:
: ” هااا .. هاااا جر قدام يا عمك .. العربية دي فاضية يااا” ! .. وما هي ” بفاضية” ولا حاجة .. ولكننا أمة من الناس تعودنا ان نسمي الأشياء بغير أسمائها ! .. فتصالحنا مع حتمية وقوعنا .. في أحابيل دنيا من العوالم الافتراضية .. تبعاً لذلك !
لا ادري لماذا تبادرت الي ذهني في تلك اللحظة رائعة الشاعر ابراهيم الرشيد والتي تغني بها الفنان الذري ابراهيم عوض .. ووددت لو خاطبت بدنداناتها.. ذلك “الكمساري ” الحالم.. لعله يستفيق !
يا عايش في دنيا من أوهام خيالك
يا تاعب ضميرك وما رتيان لحالك
ما تودر شبابنا .. روق وهدي بالك
رفقا بي قلوبنا ورفقا بي شبابك
حسناً .. لا بأس من القليل من السذاجة .. فما الدنيا الا مسرح كبير تستوعب خشباته الكثير من السذج !
ولكن ” كمسارينا ” الهمام لا يدعني وشأني ..
” هاااا القلعة يااا .. في زول نازل ؟ ”
القلعة ؟؟؟
يا سلاااام .. حياك الغمام يا صديقي حسن !
اصل الحكاية أن حسن كان عاشقاً لواحدة من حسناوات القلعة.. سميناها حركيا فيما بيننا ” بدور “..تيمنا بـ” بدور القلعة” التي أبدع ابو اللمين في الترويض الموسيقي لكلماتها الرائعات .. و في كل صباح بسبورة فصلنا “الرازي ” كان حسن يخط بالطباشير رائعة الشاعر صالح عبدالسيد ابوصلاح .. بدور القلعة .. فكأني أراها ماثلة ألأمامي الآن :
العيون النوركن بجهرا
غير جمالكن مين السهرا
يا بدور القلعة وجوهرا
السيوف الحاظك تشهرا
علي الفؤاد المن بدري انهرا
اخفي ريدي مرة واجهرا
نار غرامك ربي يقهرا
ظل حسن علي ذات حاله الي ان استبدت “بدور” شأنها شأن كل الفتيات.. حين يحكمن حسن وأمثاله بالبأس والحديد .. فقلّب حسن وجهه صوب قِبلة اخري وفي نفسه شئٌ .. من بقايا طباشير !
وبقدرة قادر .. صارت رائعة الأستاذ عثمان العوض هي دندته المفضلة.. وصار “ترباسي” الهوي .. بعد ان ” تّربس” ذكرياته مع بدور القلعة في جبٍ من غياهب الماضي السحيق .. فكم من مرة ضبطناه وهو يردد وحيدا :
ما بنمشي لي ناس ما بيجونا
في القلعة .. رجعوا يعذبونا
ساعة الفراق ما ودعونا ..
وطول الغياب ما راسلونا..
بينما كنت أغرق في بحر خواطري تلك .. تخترق حاجز صمتي الداخلي عبارة.. اظنها أتت من الناحية الشمالية الشرقية.. تماماً كتلك ” العكسية الارضيّة” التي طالما اتحفنا بها المعلق الرياضي الجميل الرشيد بدوي عبيد ..
” السلام عليكم” ..
التفتُ لأجد شابا من ابناء جيلنا تقريبا يجلس في مقعد بجانبي .. قد يصغرني بنحو سنوات ثلاث او أكثر ..أسمر القسمات .. دقيق التقاطيع .. له نظارة طبية سميكة من النوع الذي ينبئك بقدرٍ ما من الزهو المعرفي..بشئ ما .. في مجال ما.. عصي علي مثلي ادراكه .. حين تتطلع فيه يفتضح منه اعتزاز حاك في صدره بشعره ” السبيبي ” .. عبثاً حاول إخفائه !
“وعليكم السلام” .. رددت التحية باسماً ..
فلم يلبث ان عاجلني بغتة ً :
“القلعة وبدورها .. قالوا ابوصلاح كِتل هنا !”
“الزول دا جادي؟ ” .. قولتها لنفسي .. مستعصما بفضيلة الدهشة الصامتة .. ومظهراً بعض الترحاب الحذر بمبادرة ” رفع الكُلفة” المفاجأة .. التي انتاشني بسهامها صاحبنا .. وقبل ان استجمع قواي لاجاريه.. اذا بـ ” كمسارينا القبيل ” يصيح مخاطبا ” سواقنا الزينة” ..
” ارفع صوت الرادي دا يا اصلي .. متّع الأمة دي ياااا”
” جدا يا ود قلبها ” ..
و ” ود قلبها ” لمن لا يعرفون .. هو تعبير ام درماني مستحدث يشير الي ان هذا الشخص ينتمي الي قلب مدينة ام درمان .. إمعاناً في الصلف الامدرماني الذي يراه ابناؤها أمراً مشروعاً .. في إطار حتمية سيادة الثقافة الأمدرمانية ومفرداتها .. وهو مشروع لا يقل حتمية عند هؤلاء عن حتمية قيام مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية في ادبيات الحزب الشيوعي السوداني !
يا أيها الكمساري .. اجلي النظر يا صاحي .. فلتبق ام درمان كما الحرية .. لنا .. ولسوانا !
عودة أخري الي “كمسارينا” و ” سواقنا الزينة” .. الذي رفع صوت “الرادي “.. امتثالا لرغبة صديقه الملحة.. فإذا بال fm100 تتحفنا برائعة صلاح بن البادية للاستاذ محمد يوسف موسي وابن حي العرب.. او “وادي عبقر” الأمدرماني.. الذي اشتهر بشتي فنون “الكفر والوتر ” :
تخاصمني عشان كلمة ؟؟؟
وأحلي قصايدي نظمتها فيك !
دا كلو نسيتو .. وما نسيت كلمة
في لحظة يأس .. انا قولتها ليك !
“لااااااا”
هكذا خاطبت نفسي .. معاتباً هذه المرة.. لقد ظلمناك كثيرا يا ” كمسارينا”.. ونحن نتهمك زورا وبهتانا ” بالسطحية المعرفية” .. فقد أبنت عن ثقافة غنائية عالية و ضمير موسيقي مرهف.. يحاصر بروعته .. أوهام من يحسبون انهم ” انتلجنسيا” ثقافية تنير دروب المعرفة لك ولأمثالك .. المعذرة يا صديقي .. ” الما يعرفك .. يجهلك” .. ومن الجهل ما حمل صاحبه علي الافتئات السطحي علي الآخرين .. كحالتي معك .. ومن المعرفة ما حملت صاحبها علي التواضع الصوفي والبساطة السودانية الآسرة .. تماماً كحالك يا ” كمسارينا” النبيل !
” هاااااا عبدالله خليل يااااا.. في زول نازل ” ؟
” ايوة” ..
قلتها وانا “اطقطق” أصابعي بتلقائية من وصل اخيراً الي وجهته .. بعد ان تبدلت قناعته الزائفة رأساً علي عقب في تلك الرحلة القصيرة .. كما تتبدل ذات القناعات بفعل تجارب الانسان ومقدراته المكتسبة في مشاوير العمر الطويل !
وعندما وقفت الحافلة امام منزل الأميرلاي الراحل عبدالله خليل .. رئيس السودان الأسبق في الزمن الجميل .. نظرت حينها للكمساري وانا أقول :
” شكرا ليك يا اصلي ”
فرد صاحبي :
” العفو .. يا معلمها ”
ثم همهمت في نفسي : ” الحياة مدرسة .. فلا تستنكفن ان تكون تلميذاً فيها .. مهما ظننت وأنت في عليائك المتوهمة أن هناك من هو دونك في مراقي المعرفة .. ولتعلم انك إن علمت شيئاً .. فقد غابت عنك اشياءُ !