إن شجاعة الشعب السوداني تتجلى كأوضح ما تتجلى في المحن وأوقات الشدة. تجدهم، مثلاً، كالجبال الشوامخ في نفير تداعوا له من أجل بناء بيت قوضته السيول في الخريف، أو حرث مزرعة عجز أهلها عن تعهدها، أو إيواء أسرة احترق بيتها في حر الصيف اللافح. في أوقات مثل هذه، تدهشك الحميمية التي تأخذ بجماع قلوبهم، ومستوى التضحية ونكران الذات في سلوكهم التلقائي.
ها نحن اليوم أمام نفير ينتظم السودان من أقصاه إلى أقصاه. إنه نفير يتعذر التنصل من واجباته الملحّة. إنه نفير مهمته الرئيسة هي وقف الانهيار الذي لحق ببلادنا منذ يونيو ١٩٨٩م، وأخذ بتلابيب شعبنا أخذاً آسراً. تحول البلد في ظل هذا الانهيار إلى حزبين كبيرين: حزب الإخوان المسلمين الذي ينعم أعضاؤه والموالون لهم برغد عيش لا تخطئه العين؛ وحزب الكثرة الكاثرة من أبناء الشعب الغلبانين الذين لوحتهم شمس الهاجرة جرياً وراء رزق شحيح، وتمخض عن ذلك ذبول حيويتهم المعهودة. يجرون جري الوحوش وراء لقمة عيش صعبة المنال وشحيحة المقدار، كأنما هي منصوبة فوق «مشلعيب» يزيد ارتفاعاً يوماً إثر يوم بفعل الجبايات والضرائب، وتدهور العملة المحلية.
بالأمس واليوم ولأيام تالية ربما تطول وربما تقصر، سيحرص أهل السودان على الخروج معلنين على الملأ عن معارضتهم القاطعة لحكومة الإنقاذ التي أفسدت حياتهم في نواحيها كافة.
خنقت الاقتصاد والزراعة والتجارة والصناعة والتعليم والصحة والثقافة والحياة الاجتماعية. قضت على الأخضر واليابس. أدخلت التمكين في حياة الناس، وتوسعت فيه، وبمقتضاه تولى الإخوان المسلمون زمام الأمور، في الخدمة المدنية والعسكرية والأمنية، كما في السوق، وكل موقع نفوذ، وأقصت أفراد الشعب الآخرين من دائرة العمل المنتج.
سلطة قوامها طفيلية إسلاموية تقتات من البنوك، وتنغمس في مضاربات مصرفية تتجاهل تجاهلاً تاماً الإنتاج الحقيقي في القطاعات الحيوية للبلد.
في المحصلة، أصبح الجميع أمام تدهور يستعصي على الوصف ويعز على التصديق. لاذ السودانيون بمهاجر دانية وقصية، وهي مهاجر أغلبها لا يقدّر الناس حق قدرهم، إذ يعلو فيها قدر المتملقين والمداهنين والحذاق في اللف والدوران، وكلها سمات يندر أن تجدها بين الأصلاء من أهل السودان.
هكذا فقدت الإنقاذ كل مبررات حكمها لهذا الشعب الطيب، الذي لا يستحق كل ما حاق به من ظلم وإفقار. وبإعلانها عن ميزانية السنة الجديدة التي تفاقم بشاعة ذلك الظلم وفداحة هذا الإفقار، تكون الإنقاذ في حكم نظام مات معنوياً في نفوس الشعب دون أسف عليه، ودون أن يتطوع أحد بمواراة جثته الثرى. لكن تبقى ثمة دروس ينبغي أن نستقيها من تجربة الإنقاذ، وسنواتها العجاف، ومن مواجهاتنا المستمرة لها على مر السنين، لنسترشد بها في سودان الغد القريب.
الدرس الأول الذي استقيناه من مجازر انتفاضة سبتمبر 2013م هو أن الإنقاذ نظام اقصائي مدجج بالسلاح، لا يتورع عن الاستخدام المفرط للقوة، وتجاوز الدستور، والقانون، والمواثيق الدولية السائدة في كل مكان، ومن ثم يجب التعامل معه بقدر كبير من الحيلة والمثابرة. من الممكن للناس أن يخرجوا في مسيرات متزامنة في مناطق متعددة، بذلك يتسنى إنهاك قوى الأمن، وتبديد جبروتها، وتخفيف غلوائها.
ينبغي أيضاً توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، ورفعها في وسائط التواصل الاجتماعي. ومن خلال التعليق عليها من هنا وهناك، نستطيع أن نستحدث إعلاماً موازياً للإعلام الرسمي المأجور الذي صدعنا بسطحيته، ووضوح أيدولوجيته الحريصة على مصالح فئة فاسدة مفسدة.
الدرس الثاني ألا نترك لليأس طريقاً إلى عقولنا وقلوبنا. إذ إننا أمام معركة طويلة، تحتاج صبراً وافراً، وتكتيكات كثيرة… وفي هذه الأثناء يستطيع مجتمعنا المدني أن يستعيد بعض قدراته التنظيمية، وجرأته النضالية بعد سنوات من الاستهداف المتعمد من الإنقاذ.
من الواضح مثلاً أن الالتفاف حول اللجان الشعبية في الأحياء، وحول المنظومة الأمنية المحيطة بالناس إحاطة السوار بالمعصم، نقول إن كل أولئك يبدو أمراً صعباً، لكنه يكون ممكناً بفضل وسائل الاتصال الحديثة.
ومن بين قائمة الأولويات أن تشكل لجنة في الخارج يناط بها التخطيط الإستراتيجي لهزيمة الإنقاذ بأقل الخسائر في جانب الشعب المكلوم أصلاً. هذه اللجنة لا بد أن تشمل كل ألوان الطيف المعارض، وكل الكوادر المهنية المؤهلة في مجالاتها من اقتصاديين وإعلاميين وقانونيين وأطباء وصيادلة وأساتذة جامعات وطلاب وعمال ومزارعين، وما إلى ذلك من مهن. وأن تتاح فيها فرص واسعة لمشاركة المرأة. تتمثل مهمة اللجنة في وضع استراتيجية شاملة لإسقاط الإنقاذ، والاستفادة الكاملة من مقدرات الشعب السوداني، واستنفار أصدقاء السودان الحر لدعم هذا الصراع الجبار. ولربما أصبحت هذه اللجنة بخبراتها المتراكمة نواة للعمل الدستوري المطلوب في عهد ما بعد الإنقاذ.
في هذا الصدد، لا بد من التنويه بورقة مهمة كان الراحل الخاتم عدلان قد أعدها في أبريل 1993م بعنوان: «تكتيكات فعالة للنضال ضد السلطة الديكتاتورية»؛ ولا بد من التنويه أيضاً بأهمية محاضرة رائعة للصحفي الفذ الحاج وراق، وهي محاضرة متاحة على اليوتيوب. بالطبع يمكن التوسع في الموضوع ليتضمن حكمة جمعية أوسع نطاقاً، وأكثر شمولاً وأعمق تبصراً.
هناك نقطة من المهم ابتدار نقاش حولها بمنتهى الوضوح والصراحة. وهي ضرورة أن يتواطأ السودانيون على استبعاد الدين من عالم السياسة حتى لا يستغل المقدس لإغراض دنيوية دنيئة، مثلما فعلت الإنقاذ طوال سنوات حكمها التي أعلت فيها من شعار «هي لله لا للسلطة ولا للجاه»، لتثبت لنا، من خلال معدلات الفساد ومستوى استشرائه في دولاب الحكم، أن الأفعال كثيراً ما جاءت مناقضة للأقوال!