بحسب أصول وطبيعة المهنة، لا أعرف قضاء في دولة ترفع لنفسها علم تتخذ “ناطَق رسمي” يحكي باسمها ويُدافع عن قضائها وقضاتها كما يفعل اليوم قضاء الإنقاذ (قضاء حكومة الرئيس عمر البشير)، فالقضاء تحكمه القاعدة التي تقول: “أن الشيء يحكي عن نفسه”.
القضاء يحكي عن نفسه بما يراه الناس من مقدرته على بسط العدل ونصرة المظلوم وشجاعة قضاته في مجابهة جبروت السلاطين وفسادهم، وقد أوفى الأستاذ الكبير نبيل أديب بمهارة واقتدار كبيرين توضيح المآخذ على البيان الذي كان قد أصدره “الناطق الرسمي باسم القضائية” ومدح فيه القضاة وقال إنهم أصحاب “مناسيب عالية” في الاستقلال والمهنية – والتعبير بين القوسين من البيان – ثم انتهى إلى ما يُشبه التحذير من تناول الصحافة للأحكام القضائية. وقد فعل الأستاذ أديب ذلك بتفصيل سنَدَه بسوابق قضائية وتشريعات مُقارَنة، ونُضيف إلى ما أورده الأستاذ أديب أنه ليس من الجائز (قطعاً وفصلاً) أن يقوم قاضٍ بحسم الرأي في مسألة قانون حولها خلاف – مثل تناول الأحكام القضائية بالنشر – في بيان صحافي، فالقضاء يقوم على اختلاف الرأي بين القضاة في الدائرة الواحدة بأعلى درجات التقاضي، وأن الحكم الواحد يختلف الرأي فيه بين القضاة في مراحل التقاضي المُتدرّجة، فيحكم قاضي الموضوع ببراءة المتهم، فتنقض براءته محكمة الاستئناف قبل أن تختلف معها المحكم العليا وتُعيد الحكم بالبراءة مرة أخرى.
بيد أنه، وبخلاف هذا الجانب الفقهي والقانوني، هناك جانب آخر يستحق التناول والنظر حول هذا البيان المُعتَل، وهو: ما السبب الذي دفع الناطق الرسمي باسم السلطة القضائية لإصداره في هذا التوقيت بالذات ولم يسبق له فعل ذلك من قبل في حين أن سيرة القضاء وتناول أحكامه لم تنقطِع بالصحف في يومٍ من الأيام؟
الواقع أن امتناع الناطق الرسمي عن الإشارة إلى سبب صدور البيان يُثبت (عكس) الحيثيات التي قام عليها من تأكيد لارتفاع مناسيب استقلال القضاء والقضاة، فالبيان عبارة عن احتجاج ناعِم ومُبطّن قُصِد به التصريح الذي كان قد نُشِر بالصحف لوالي ولاية الخرطوم عبدالرحيم حسين بعد أيام قليلة من صدور حكم المحكمة العليا الإدارية بتأييد قرار محكمة الاستئناف بإبعاد أشرف الكاردينال عن رئاسة نادي الهلال والذي قال فيه: “جماهير الهلال فقط هي صاحبة القرار في بقاء أو ذهاب الكاردينال وأن الذين يقفون ضد الكاردينال الذي منحه رئيس الجمهورية أرفع وسام يريدون تصفية حسابات شخصية”.
مثل تصريح عبدالرحيم لا يُمكن النظر إليه بوصفه استهانة واحتقارا لأحكام القضاء، حتى يُرَد عليه ببيان بتوقيع قاضٍ يعمل بإدارة العلاقات العامة والمراسم (هذه إدارة أُنشئت حديثاً كان يرأسها قاضٍ بالاستئناف قبل أن تؤول إلى رئيسها الحالي وهو قاضٍ جزئي بالدرجة الأولى)، فالصحيح أن يتصدّى لتحدّي السلطة التنفيذية في أعلى مستوياتها لأحكام القضاء رئيس القضاء نفسه بفعلٍ صارم لا ببيان تأخذه الريح معها، وإن لم يشأ رئيس القضاء المواجهة الشخصية، ففي نصوص القانون، ما يُسعِفه في تحقيق ذلك، ولا أعرف فعلاً يُشكّل جريمة الازدراء وتحقير العدالة والتأثير عليها مثل الذي قام به عبدالرحيم، وهو يُشبِه من حيث النوع (مع اختلاف المقدار) ما حدث في السابقة القضائية التي فشل الزمن في محوها من الذاكرة التي تحدّى فيها مجلس وزراء الديمقراطية الثانية القضاء ورفض تنفيذ الحكم الذي صدر ببطلان طرد أعضاء الحزب الشيوعي من البرلمان.
وكان قد أصدر الحكم القاضي الجليل صلاح حسن وقد انتهى الموقف بتقديم رئيس القضاء بابكر عوض الله استقالته احتجاجا على ذلك، وقد كتب فيها: “”لقد عملت ما في وسعي لصيانة استقلال القضاء منذ أن كان لي شرف تضمين ذلك المبدأ في ميثاق أكتوبر ولا أريد لنفسي أن أبقي علي رأس الجهاز القضائي لأشهد عملية تصفيته وتقطيع أوصاله وكتابة الفصل المحزن الأخير من فصول تأريخه”.
هذه ليست المرة الأولى التي يستخدِم فيها عبدالرحيم حسين مقام وظيفته علناً في الإساءة للقضاء والتأثير على سير العدالة بشكلٍ مُنتِج وفعّال، فهو صاحب سوابق في هذا المضمار، فقد وقف قبل ذلك إلى جانب مدير التلفزيون السابق وسانده علناً حينما سعى لإطلاق سراحه من الحراسة قبل أن يبدأ التحري معه في القضية التي أُتّهِم فيها بإساءة التصرّف في المال العام، وحينما حصل المتهم على البراءة، وقد حدث ذلك برغم اعتراف المتهم بوقائع الاتهام وانحصر دفاعه في حصوله على موافقة وزير المالية على تلك التجاوزات (وهو دفاع يؤدي إلى جعل وزير المالية شريكاً في الجريمة لا لحصول المتهم على البراءة)، ونُشِرت بالصحف الصور الفوتوغرافية بوقائع زيارة عبدالرحيم له وتهنئته بالبراءة برغم أن القضية التي كانت لا تزال قيد النظر أمام المحاكم الأعلى، وقد تم تأييد براءة مدير التلفزيون وهو يشغل الآن منصب نائب والي الخرطوم.
ليس هناك دليل على امتهان القضاء مثل أن يستعين على كسب هيبته واحترامه عند السلطة التنفيذية عبر المنشورات الصحافية التي (تلتمس) منهم مراعاته وعدم المساس، وما فعله عبدالرحيم من تحدٍ وتأثير على سير العدالة سوف يظل ماثلاً وسوف تكشف الأيام القادمة من الذي سوف تتغلّب كلمته، القضاء الذي قال كلمته ببطلان ولاية رئيس نادي الهلال أم والي الخرطوم الذي قرّر أن الكلمة العليا في ذلك هي لجماهير النادي!!
تُخطئ إدارة القضاء إذا اعتقدت أن القاضي يكتسب هيبته ووقاره من واقع ما تقوم بتوفيره من مبانٍ وأثاث وسيارات وأكشاك حراسة أمام منازل كبار القضاة ومن بينهم من يتحرك من منزله إلى المكتب وإلى بيوت الأفراح والمآتم في موكب تتقدمه (سارينا) شرطة المحاكم، فقد كان نائب رئيس القضاء دفع الله الرضي – وهو أيقونة قضاة السودان في العلم والمعرفة – كان يأتي إلى مكتبه على عربة تاكسي يملكها أحد أقربائه، وفي آخر النهار كان ينزل من مكتبه لينتظر تحت ظل الأشجار بالجناح الغربي لمبنى الهيئة القضائية عودة سيارة التاكسي لتأخذه إلى المنزل الذي كان يستأجره بمنطقة شعبية بالقرب من ميدان نادي الأسرة بالخرطوم ثلاثة.
ما يمنع أعضاء الجهاز التنفيذي للدولة وغيره من أفراد الجمهور من المساس بالقضاء وعدم التجنّي، هو أن يتحقق للقضاء استقلاله الفعلي لا بالنص عليه في الورق، ويتأتّى ذلك بوجود قضاة شجعان لديهم استعداد للتضحية بالوظيفة وما هو أكبر منها من أجل تحقيق ذلك، فالذي جعل قاضٍ لأن يُنازل المحامي الذي يقف أمامه ب “البونية والشلّوت” كما حدث قبل أيام بمحكمة الحاج يوسف، ليس عدم وجود نص في القانون يمنع القاضي من فعل ذلك، بقدرما يرجع ذلك إلى تراجع قواعد سلوك المهنة نتيجة انقطاع تواصل الأجيال حتى جاء الزمن الذي ظهر فيه القاضي (الموبايل)، وهو قاضٍ يتمدد اختصاصه في نظر القضايا إلى المدى الذي يمكن أن تصل إليه سيارته، فينظر القضايا بالقسم الشرقي الخرطوم ثم ينتقل بعد الفراغ منها لمحاكمة قضايا بمحكمة أمبدة بأمدرمان ثم يسرع منها إلى محكمة الحلفايا … وهكذا.
بتصريح عبدالرحيم تكون قضية الكاردينال بلغت دور تصفيات النهائي وتحديد المُنتصِر، سلطة القضاء أم السلطة التنفيذية !!
*مستشار قانوني