يتهاوى الجنيه السوداني مسرعاً نحو قاع سحيق.
السؤال الكبير: هل يعدّ هذا الأمر مفاجأة للإنقاذ، كما تزعم؟ إننا ننفي هذا الزعم نفياً قاطعاً، ونؤكد أن ميزانية ٢٠١٨م المشؤومة، التي وصلت بالخراب الاقتصادي إلى ذرى شاهقة، لم تكن سوى نتيجة منطقية لروشتة صندوق النقد الدولي. ففي الفترة من ١٣-٢٦ سبتمبر 2017م، جرت مشاورات الصندوق مع الحكومة، وتوجت بمقابلة النائب الأول ورئيس مجلس الوزراء بكري حسن صالح، ووزير المالية محمد عثمان الركابي، ونائب رئيس البنك المركزي حسين جنقول، وبمقابلة عدد آخر من مسؤولي الإنقاذ.
فما أبرز معالم وصفة خبراء صندوق النقد الدولي، التي عولت عليها الحكومة بوصفها المخرج الوحيد من أزماتها الحالية، وفي صدارتها صعوبة الحصول على قروض تفي بالحاجة الملحة إلى تغطية نفقات عدد ضخم من وزراء وولاة ومعتمدين ودستوريين موظفين كبار، فضلاً عن قوى أمن جرارة، وميليشيات قبلية مشهرة سيوفها في وجوه أهل البلد في كل مكان؟ وما الآثار الجانبية لتعاطي هذه الوصفة المرة؟ وهل نتوقع أن تشفي قلب اقتصاد تصلبت شرايينه منذ مجيء الإنقاذ، وتسلطها على رقاب الناس، واستبعادها لهم من دائرة الإنتاج في شتى القطاعات بفعل سياسة التمكين المبررة دينياً، في زعمهم، والممقوتة أخلاقياً ودولياً وعملياً في كل أنحاء العالم.
إن تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بالسودان كان قد صدر في ٢٩ نوفمبر ٢٠١٧م عقب مشاورات أجريت في أواخر العام الفائت. أكد التقرير وجود إجماع بين الحكومة والصندوق حول ضرورة إجراء اصلاحات تصحيحية، وهي تدابير تتبعها تأثيرات اجتماعية كبيرة. من هذه التدابير تحرير سعر صرف الجنيه، فضلاً عن السياسات النقدية والمالية الصارمة، بما في ذلك إصلاح نظام الضرائب والدعم.
نصت التدابير المتفق عليها رفع الدعم عن الوقود والقمح. وأشير في هذا الصدد إلى أن هذه التدابير من شأنها أن تفاقم من حدة التضخم ليرتفع إلى أكثر من ٣٦٪ (مقارنةً بمعدل ٢٣٪ كما في سيناريو الأساس).
لكن هذه النسبة المستهدفة قد تجاوزها الواقع بعد شهر واحد من الميزانية المشؤومة. إذ أوردت صحف الأمس تصريحاً لمدير المركز القومي للإحصاء مفاده أن نسبة التضخم في شهر يناير المنصرم قد بلغت ٥٢,٣٧٪.
فيما يتعلق بسعر صرف الجنيه مقابل الدولار والعملات الأخرى، فقد أصر الصندوق على توحيد السعر وتعويمه، ووافقت الحكومة على ذلك من ناحية المبدأ، بيد أنها ترى أن توحيد السعر ينطوي على مخاطر جمة ليس أقلها القفزة الهائلة في سعر الصرف، وما ينطوي عليه من تأثيرات اجتماعية أكيدة. هكذا، اعتمدت الحكومة على النظام الحالي بسعر تأشيري، بلغ حتى الآن ٢٨,٥٠ جنيه للدولار، وهي محاولة للاقتراب التدريجي من سعر السوق السوداء.
ومن ناحية واقعية، يعدّ سعر السوق السوداء الفيصل الأول والأخير. ومن منطلق هذه المكانة المحورية للسوق السوداء، يصبح الجنيه السوداني قد جرى تعويمه بحكم الواقع.
يهتم المواطن العادي بتذبذب سعر صرف الجنيه اهتماماً واضحاً. وهو اهتمام يرتكز على علم الناس بأن بلدهم يأكل مما يستورد؛ لأن الإنقاذ لم تترك قطاعاً منتجاً إلاّ دمرته تدميراً متعمداً.
أخرجت مشروع الجزيرة من دائرة الإنتاج كلياً؛ عطلت كذلك السكك الحديدية والنقل النهري والخطوط البحرية والخطوط الجوية.
لم تترك شيئاً يعمل بكفاءة، من تعليم إلى صحة إلى تجارة وصناعة وخدمات. قوضت أمل الناس حتى في الزراعة المطرية التي كانت ملاذاً آمناً لسكان الريف، إذ أرهقتها بالضرائب والجبايات والفساد في استيراد التقاوي والأسمدة والمبيدات، فاضطر أهل القرى إلى هجرة قراهم، والانتقال إلى المدن؛ بحثاً عن سبل كسب عيش كريم.
سعر الجنيه أيضاً يهم المغترب في بلدان المهجر. المغتربون يهتمون بالتحويل لذويهم على أساس منتظم، وعندما يقومون بالتحويل صباحاً، يشعرون بأن الغبن قد حاق بهم ليلاً بسبب التراجع في قيمة الجنيه. فمن المسؤول عن هذا العبث؟ هل يعقل حدوث تدهور في عملة بلد بهذه الوتيرة المتسارعة؟
الحكومة، من ناحيتها، لا تزال تمني النفس بحلول عجائبية من قبيل الأثر الاقتصادي الحميد والسريع لرفع العقوبات الأمريكية، أو العثور على اكتشافات ضخمة من النفط أو الذهب أو أن تأتيها ليلة قدر منفلتة من أوانها، دون إدراك أن ليلة القدر ليست من نصيب المفسدين ذوي الضمائر الميتة!
في واقع الأمر، أن أهل الحل والعقد في الإنقاذ يعلمون يقيناً أن تدهور الجنيه ما هو إلاّ الرأس الظاهر من قمة جليد ضخم يمثله التدهور الشامل لكل أوجه الحياة في السودان.
إنهم يعلمون أيضاً أن هذا التدهور ليس وليد اليوم، بل بدأ مع مجيء الإنقاذ، وظل مستمراً حتى اتسع الفتق على الراتق. ويعلمون أن قوة العملة الوطنية أو ضعفها يمثل مؤشراً بالغ الدلالة على قوة اقتصادها، أو ضعفه، وعلى القدرة الانتاجية قبل كل شيء.
لا يوجد أدنى شك أن هذا الدمار الذي شمل كل أوجه الحياة قد تفاقمت وطأته على الاقتصاد، ومن ثم، زاد تأثيره السلبي الفاحش في معيشة المواطن الغلبان. وسوف تستفحل المعاناة مزيداً من الاستفحال مع مرور الوقت في ظل الإنقاذ.
وبحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) بتاريخ ٢٦ يناير ٢٠١٨م، ارتفعت أسعار القمح والذرة والدخن في نوفمبر وديسمبر من السنة المنصرمة بنسبة تتراوح بين ٢٠ إلى ٥٠٪ عن أسعارها في أكتوبر من السنة نفسها. وفي خطة الاستجابة الإنسانية لسنة ٢٠١٨م، قالت الفاو: “إن هناك نحو 5 ملايين شخص يهددهم الجوع الفاتك، بينما هناك قرابة 600 ألف طفل تحت الخامسة من العمر يعانون من سوء التغذية”.
في ظل هذه الظروف القاسية، يضطر المواطن إلى الخروج إلى الشارع معلناً عن سخطه واستيائه من سوء إدارة اقتصاد البلد.
ولن تتوقف مظاهر الاحتجاج على سياسات الحكومة على الرغم من قوة بطش النظام في التصدي لها. فلا يوجد ما يخشاه السوداني، كما أثبتت ذلك الأيام القليلة الماضية.
الجدير بالتنويه أن من الضروري على المجتمع المدني، من أحزاب معارضة وتنظيمات شبابية، ونقابيين، وطلاب، أن يستعيدوا تنظيم أنفسهم ويبدعوا أساليب ذكية ومرنة ومراوغة.
كما ينبغي تفادي رفع توقعات الناس بنتائج فورية للمظاهرات، إذ إن هذه الحكومة التي عذبت الشعب السوداني نحو ثلاثة عقود يجب تدمير أعصابها، وتكدير نوم قوى أمنها، وتحويل حياة قياداتها إلى جحيم حقيقي.
معنى ذلك أننا نستحسن سياسة النفس الطويل دون أن ينتابنا الملل، ودون أن تُوهن لنا عزيمة. ففي نهاية الأمر، سوف تسقط الإنقاذ حتماً، مهما اتخذت من حيل إبليسية، وتدابير أمنية لتمديد فترة حكمها.
إن هذا الدمار الواضح يتعذر الخروج من دائرته السيئة دون تفكيك الإنقاذ، ومن ثم، التخلص من فكر إقصائي مستبد وفاسد. ففي بلد «حدادي مدادي» كالسودان، حيث تتنوع الأعراق، وتتعدد الانتماءات الثقافية، وتتباين المذاهب الدينية، يصبح فرض منهج تفكير واحد في ممارسة الحكم أمراً عسيراً، بدون لجوء الحاكم إلى القبضة الأمنية الباطشة والمكلفة إنسانياً واقتصادياً واجتماعياً.
وبناءً على هذا النهج، وجدت الإنقاذ نفسها منذ البدء مضطرة إلى إقصاء الآخرين، وتمكين عضوية الإخوان المسلمين وحدهم، وتسليطهم على البلاد والعباد؛ بصرف النظر عن كفاءاتهم، واقتدارهم للقيام بما يناط بهم من أدوار. أدى ذلك بطبيعة الحال إلى فساد مالي وإداري وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
إن الديمقراطية التعددية، وبصرف النظر عن الشوائب، بل المعايب التي تعوق مسارها في بادئ الأمر، هي الحل الوحيد لأزمة الحكم في السودان منذ الاستقلال، وبخاصة بعد المعاناة التي تكبدها الشعب السوداني في عهد الإخوان المسلمين.
ولنتذكر جيداً أن مظاهرات الشارع إبان عهد الديمقراطية الأخيرة، وتحديداً في أواخر ١٩٨٨م، كانت تردد هتافاً يقول: «العذاب ولا الأحزاب»، ويبدو أن هتافهم ذلك قد صادف لحظة استجابة دعاء، فها نحن قد عشنا قرابة الثلاثين سنة من عذاب الإنقاذ، وها نحن ندرك، بأثر رجعي، أن الأحزاب كانت، وستظل، أفضل عشرات المرات من عذاب الإخوان المسلمين وفسادهم!!
yassin@consultant.com