نعرض في سياق تتبعنا التاريخي لصيرورة ما عرف بظاهرة الإسلام السياسي لشخصيه سيد قطب التي أدت في تقديرنا دورين متميزين، إذ جاء الأول تقليدياً، والثاني ثورياً تجديدياً.
تمثلت تقليدية الدور الأول في مواصلة عمليات التأصيل التي ابتدرها عبد القادر عودة من قبل، وسعي جاهداً بعده في أن تصبح تلك الأفكار الدينية مسندة بمحاولات تأصيلية؛ لتصبح قاعدة أساسية للحياة اليومية.
ولعله تكفينا إشارات سريعة غير تفصيلية لإجمال إضافات سيد قطب في هذا الصعيد، إذ كان أبرزها اهتمامه البالغ بالقضية الاجتماعية، فتناولها تناولاً أنسى الناس اجتهادات البنا وعبد القادر عودة في هذا الخصوص. فشرح قطب في كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” الأبعاد المختلفة لهذه القضية، وتحدث أول مرة في تاريخ الخطاب الأصولي الحركي بدقة وعمق عن مفاهيم مثل العدالة والحرية والقيم والمساواة. كما أنه اهتم بالقواعد الأصولية التي يمكن للحاكم أن يتخذها أساساً إسلامياً للقوانين والقرارات التي تصدر عنه لتنظيم شؤون المجتمع.
ومن هذه القواعد: قاعدة المصالح المرسلة، وقاعدة سد الذرائع، تلك هي إضافات قطب التقليدية.
أما محاولاته الثورية التجديدية فيمكن تحديد معالمها بالتطرق والحديث عن نوعين من الدوافع التي وجهت قطب تلك الوجهة، فالدافع الأول كان الظروف التاريخية التي عاشها، والتي دفعته إلى اتخاذ موقف ثوري من الحكومة، والدافع الثاني كان المؤثرات الثقافية التي دفعت بفكر سيد قطب إلى آفاق مغايرة نوعاً ما لبنية وعي وخطاب الجماعات الدينية، واستجابة سيد قطب لهذين النوعين من الدوافع هي التي أسهمت بفعالية في وضع حجر الأساس في بناء ما عرف “بالصحوة الإسلامية”، وهي التي كانت سبباً في تفرع جماعة الإخوان المسلمين إلى فروع (السلفيون- الإخوان المسلمون- الجهاد- التكفير والهجرة).
والظروف التاريخية التي أشرنا اليها هي ظروف معلومة، وهي ظروف التعذيب والاضطهاد الذي تعرض له قادة الإخوان كرد فعل على تكفيرهم الحكومة، والسعي إلى مواجهتها بوسائل دموية.
وقد أخرج الإخوان في ذلك كتباً تحكي صوراً من بشاعة ذلك التعذيب، الذي يدفع بالإنسان حتماً إلى طلب عون الله في هذه المحنة، وهذه الكتب ما تزال من أدبيات النواح التي توغر صدور جماعات الإسلام السياسي ضد نظم الحكم المستبدة.
تلك كانت الظروف التاريخية التي عاشها قطب بوصفه قائداً من قيادات الإخوان، عليه توجيه خطى الذين انفعلوا بهذه الأحداث، وبلورة ردود أفعالهم واستجاباتهم.
أما علي صعيد المؤثرات الثقافية، فهي تكاد تنحصر في نوعين: الفكر الإسلامي الناشئ في الهند وباكستان الذي يمثله عند سيد قطب المفكران الإسلاميان أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي. وهذان لم يؤثرا في سيد قطب فقط، وإنما امتد تأثيرهما الي جبهة عريضة من البلاد الإسلامية، وكان لسيد قطب فضل نقل كتاب ابو الحسن الندوي (ماذا خسر العالم بتخلف المسلمين؟) إلى العربية، وهو الذي تأثر بهذا الكتاب الي ابعد حد عندما كتب لاحقاً كتبه مثل “المستقبل لهذا الدين”، و”معالم في الطريق”؛ و”خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”.
أما النوع الآخر من المؤثرات، فهو الفكر الذي جاءت به الحضارة الغربية، وقد روي عنه أنه كان مأخوذاً بالمفكر الغربي أليكسس كاريل صاحب كتاب “الإنسان ذلك المجهول”، ولعل بصمه هذا المفكر تبدو أشد وضوحاً في سيد قطب كتابه “الإسلام ومشكلات الحضارة”، وهكذا يستطيع قارئ الكتب المشار اليها أن يستبين من دون شك إلى أي حد تأرجح سيد قطب بين تسليمه بأفكار الندوي وتقاطعاته مع كاريل وأبي الحسن الندوي، الذي مثل علامة في طريق سيد قطب “land mark”، وكان يفترض الجاهلية في العالم العربي، ويري أنه خسر كثيراً بتخلف المسلمين، وعجزهم عن قيادة البشرية، والتقط سيد قطب هذه الفكرة، وطفق يرمي المسلمين جميعهم بأنهم يعيشون هذه الجاهلية، رغم ظنهم بأنهم مسلمون.
وكان الندوي يتحدث عما أسماه حاكمية الله، وأنها مغيبة في عالمه الذي يعيش فيه، وهو بلاد الهند ذات الأغلبية غير المسلمة كما هو معلوم، وجاء سيد قطب وتماهى مع الندوي في تصوراته لعالم الهند، ورأى في الحكام المسلمين أنهم غير مسلمين ما داموا يمارسون حياتهم على أن الحاكمية للبشر، وليست لله.
أما كاريل، فقد اتفق معه سيد قطب في مواقف، واختلف معه في مواقف أخرى. اتفق معه في التقدم الهائل في الدراسات العلمية التي تخص العلم الطبيعي، والتقصير في الدراسات التي تخص الإنسان. وأعلن سيد قطب أنه لا يعارض الحضارة التي تقوم علي أساس من العلم التجريبي، وأنه يقبلها على أساس أنها كانت نتاج الحضارة الإسلامية، وأن الغرب قد أخذها عن هذه الحضارة في كل من صقليه والأندلس أي أنها البضاعة التي ردت إلينا.
اما مدار اختلاف قطب مع كاريل، فيكمن في حل المشكلات المحيطة بحياة الإنسان، فبينما يري كاريل أن الحل يكمن في الدراسات العلمية للإنسان، والتقدم والارتفاع بها إلى مستوي الدراسات في علوم المادة، يرفض سيد قطب هذا الحل، ويراه حلاً أملته على كاريل الحضارة العلمية التي يعيشها، ولو انه عاش الحضارة الإسلامية لراي ببصره وبصيرته نجاعة الحل الإسلامي.
والحل الإسلامي عنده ليس إلا الرجوع الي المنهج الرباني الذي يقتضي التسليم بأن الإنسان مهما علا شأنه يظل عاجزاً عن وضع النظام الدقيق الكامل لممارسة حياته اليومية، وحياته العامة، والقادر على ذلك هو المولى سبحانه وتعالى، وكتاب “معالم على الطريق ” هو الكتاب الذي صاغ فيه سيد قطب كيف يمكن أن تتحقق الصحوة الإسلامية، ومن هنا كان هذا الكتاب دستور العمل عند الجماعات الإسلامية.
وقد صاغ سيد قطب منطقه في هذا الكتاب على أساس من فكرة مازالت في حاجة ماسة إلى إعادة التقويم. وهذه الفكرة هي أن المنهج الرباني وضع لتقديم حلول للمشكلات في المجتمعات الإسلامية، وما دامت المجتمعات القائمة اليوم كلها مجتمعات جاهلية وغير إسلاميه؛ فإن المنهج الرباني لا يفيد في تقديم حلول لمشكلاتها، فيجب أولاً أن يوجد المجتمع الإسلامي، ومن هنا فهو يري أن الأولوية لخلق وبناء المجتمع الإسلامي، ذلك هو الدور الذي أداه سيد قطب في حياة جماعه الإخوان المسلمين، وقد أحدث هذا الدور تغيرا علي المستويين المادي والمعنوي للجماعة، الأمر الذي ترتب عليه أولا تفرع الجماعة إلي فروع عرف كل فرع منها باسمها الخاص.
ثانياً: قيام وانخراط هذه الفروع في العمل، وفي سبيل الصحوة الإسلامية، وبعد أن تكونت تلك الجماعات والفروع أخذت كل الجماعة تدعو إلى نفسها، وتحاول أن تستقطب الناس حول فكرتها، ولعل أهم الافكار التي تلاقت عندها جماعه الإخوان المسلمين والجماعات المتفرعة منها هي فكرة العدالة الإلهية، وفكرة عجز الإنسان عن وضع النظم التي يكتب لها الاستمرار، والبقاء، وأن القادر على ذلك وحده هو المولى سبحانه وتعالى.
ولقادة الجماعات الدينية في ذلك مثل تقليدي يضربونه ويؤثرون به تأثيراً بالغاً في الاتباع فيقولون: إن مخترع الآلة الحديثة يضع منشوراً يبين فيه كيف تعمل الآلة، وأنه علي الذين يقومون بتشغيل هذه الآلة إن يراعو بدقة متناهية ما ورد في المنشور من تعليمات، وإلا اختلت الآلة، وعجزت من أن تعمل في تناسق وإتقان. ويرتبون على ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لهذا الكون على أساس من النظام الذي وضعه، وما علينا إلا أن نمارس الحياة في هذا الكون على أساس من هذا النظام الذي وضعه مخترع هذا الكون.
ثم يفسرون الخلل الذي يصيب بعض جوانب الحياة العامة بانه ابتعاد عن النظام الرباني الذي وضعه مبدع هذا الكون، وينتهون إلى أن إصلاح أعطاب الحياة العامة لا يكون إلا بالعودة إلى النظام الرباني والمنهج الإلهي، وهذه العودة لن تتأتى الا إذا تحققت الدولة الإسلامية.
ولعل ذلك ما ساعد على انتشار أفكار هذه الجماعات التي تعمل في مجال ما يسمي بالصحوة الإسلامية، إلى جانب عوامل أخرى محلية وعالمية أكسبت تلك الجماعات قوة الدفع، وفي هذا المقام لا يفوتنا شرف الإشارة الي الدور الذي أدته أميركا، والدور الذي أداه الاستعمار والرجعية العربية في ترسيخ أقدام جماعات الإسلام السياسي بإفساح المجال لها للحصول علي المال والسلاح، وفرص الدراسة والتدريب في محاوله لضرب نظام القومية العربية الذي كان سائداً أيام عبد الناصر، والذي كان الشيوعيون والناصريون من المؤمنين بجدوى ذلك النظام، وقيمته، لذا رأت الرجعية العربية والاستعمار العالمي في ذلك الزمان ضرب فكرة القومية بتمكين أعداء التقدمية التقليديين، وهكذا وجدت دعواهم بعض الصدى والرواج.
ثم كانت الثورة الإسلامية في إيران وقيام حكومة إسلامية هناك، وقد لعبت هذه الفكرة بعقول أعضاء الجماعات الدينية، وأحسوا أنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من النصر من حيث أنهم جند الله، والله سبحانه وتعالى يقول: “وان جندنا لهم الغالبون”، فأخذوا يبشرون بالنصر ناسين أو متناسين الفرق بينهم وبين الثورة الإيرانية، إذ إن هناك نظاماً شيعياً يجعل للإمام سلطة دينية، وإن أوامره مطاعة بدون تساؤل أو سؤال. اما هنا فالنظام سني، وطاعة الإمام أو القائد غير واجبة وجوباً دينياً عند أكثريه السنة.
وقد حددت الجماعات الدينية هدفها من الصحوة بأنه بناء المجتمع الإسلامي الذي يستطيع أن يعيد للمسلمين دولة الخلافة، والخلافة المقصودة هي الخلافة الراشدة، وليست مملكة، كتلك التي كانت تحت حكام الأسر، مثل: الامويين والعباسيين والعثمانيين، وغيرهم.
ومن أجل ذلك عمدت جماعات الإسلام السياسي إلى نفي صفه الإسلام عن المجتمعات المسلمة، وقد وصم سيد قطب كل المجتمعات القائمة بالجاهلية، وبالتالي قدم وصفاً نافياً لتلك المجتمعات. والجماعات الدينية إنما تفعل ذلك كي تبيح لنفسها الثورة على هذا المجتمع، أو ذاك والعمل على إعادة بنائه من جديد، ولعل ظاهرة نفي المجتمعات هي فكرة مركزية عند جماعات الإسلام السياسي، وحيلة تكتيكية تبرز طبيعة الوعي الجمعي لتلك الجماعات، فعندما نجحت الجبهة الإسلامية القومية في السودان في الوصول إلى سدة الحكم كما هو معلوم بانقلاب عسكري على تجربة ديمقراطية منتخبة كان أول الشعارات التي فاجأت بها السلطة الانقلابية المجتمع السوداني هو شعار “إعادة صياغة الإنسان السوداني ” هكذا بكل دوغمائية واستعلاء.
وهكذا تمضي تلك الجماعات في السبيل التي رسمها سيد قطب عندما رمى المجتمعات المسلمة بالجاهلية، وحدد خياراتها لتقويم المجتمعات الموسومة بالجهل بعد استبعاد أدوات الاصلاح والتقويم السلمية، مثل: الوعظ والإرشاد، إذ ترى جماعات الإسلام السياسي أنها أدوات غير كافية، ومحدودة التأثير، فهي محصورة في رواد المساجد، أما الملاحدة والإباحيون فهم بمنأى عن تأثيراتها، ولذلك استبعدت جماعات الصحوة أدوات التغيير الاجتماعي، مثل: محاربه الجهل والفقر والمرض، وترقيه مستوى الخدمات الاجتماعية، ورأوا في ذلك إصلاحاً لجانب واحد، بينما الفساد الذي تشكو منه المجتمعات فهو فساد متعدد الجوانب، وأن تغيير المنكر باليد” أي بالقوة المادية” واجب لا يسقط إلا بالعجز عنه، وحسب زعمهم ما من منكر أكبر من استحلال الحكم بغير ما أنزل الله، وأن الجهاد لإقامة الحكم الإسلامي فريضة، وأن أهل الباطل نجحوا في استخدام القوة العسكرية، واستولوا بها على السلطة لخدمه باطلهم، أو ليس أهل الحق أولى لاستخدامها لنصرة حقهم؛ خصوصاً وأنه لا أمل في الوصول إلى الحكم الإسلامي بالكفاح السلمي، وبالوسائل الديمقراطية. هكذا تتداعى جماعات الإسلام السياسي تداعياً حراً، وترخي العنان لخطرات النفس، إذ تعتمد القوة المادية إستراتيجية وضمانة كبرى للتغيير، متناسية أن النجاح في الاستيلاء على السلطة بالقوة لا يعني حتماً النجاح في تطبيق المبادئ التي من أجلها كان الانقلاب.
ولعلنا لن نستكمل مقومات هذه الدراسة من دون محاوله استشفاف مستقبل الجماعات الدينية المشتغلة بالسياسة، التي غالباً ما تصف نفسها بأنها إسلامية، وأن تحديد مفهوم الإسلام وفض الاشتباك حوله هو الخطوة الأولى في التعرف إلى طبيعة الصراع بين جماعات الإسلام السياسي وخصومهم.
ومفهوم الإسلام يتحدد بالمصدر الذي صدر عنه الإسلام، فحين يكون المصدر هو المولى سبحانه وتعالى يكون مفهوم الإسلام هو الدين الذي جاء من عند الله، وحمله إلى الناس نبيه محمد عليه الصلاة والسلام وبينه لهم بسنته القولية والفعلية، اما حين يكون المصدر هو الفكر الإسلامي والاجتهاد وإعمال العقل البشري في النصوص والوقائع والأحداث، فإن الإسلام المقصود هنا لا يكون ديناً، وإنما يكون نتاجاً حضارياً وهو ثمرة من ثمرات العقل البشري، ومن ثم لا يكون مقدساً، وتكون درجه الإلزام به مقدرة بمقدار ما يحقق من المصلحة العامة.
وتأسيساً على ذلك، فإن جماعات الإسلام السياسي تخلط خلطاً مشوهاً بين المفهومين، ولاعتبارات دنيوية تعطي الإسلام الحضاري ذات الحقوق التي تعطيها للإسلام الدين. ولهذا خطورته البالغة ليس على الإسلام الدين فحسب، وإنما على الجماعات الدينية نفسها. فمع تنامي مستويات الوعي، ومع الاستهلاك المتكرر بواسطه تلك الجماعات لشعاراتها واطروحاتها الرامية إلى ذر الرماد في العيون تفقد تلك الشعارات جاذبيتها وتأثيرها، بل ومصداقيتها، ويصبح مجمل خطابها “ضغثا علي اباله” _ بتعبير الاستاذ كمال الجزولي.
إن الظاهرة التي يمكن إن تسمي بالظاهرة الدينية، والتي يمكن أن يكون فيها الإسلام ديناً ودوله هي ظاهرة النبوة والرسالة، من حيث إن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختار الأنبياء، ويرسلهم إلى الناس، فهو بهذا يمنحهم السلطة، وتكون طاعتهم على هذا الأساس هي طاعة لله، وهذا النظام قد انتهي من الوجود عندما جعل المولى عز وجل محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم- خاتماً للأنبياء والمرسلين. ومن ثم، تصبح صيغه ما يسمى بالحكومة الإسلامية إن وجدت حكومة بهذا التوصيف إشارة يقصد بها الإسلام الحضاري، وليس الإسلام الدين، وعليه يصبح كل نظام حكم قائم في حياتنا المعاصرة هو نظام مدني مهما كانت درجه الشعار الديني الذي يستند إليه ذلك النظام.
ولا غرو أن تجربة الدولة الدينية في نماذجها السنية المعاصرة قد وضعت علي المحك الصعب بعد إفلاس التجربة الطالبانية على قصر عمر حركه طالبان -خمس سنوات – فقد قدمت الحركة أحد النماذج الصارخة للإسلام الحاكم، إذ لم تكن تعبر عن روح الإسلام أو حتي منهج أدبيات الحركات العاملة بالإسلام، وقدمت للعالم الخارجي صورة بائسة ومواقف تبدو عصيه على الاستيعاب، والعالم يلج القرن الحادي والعشرين، إذ تعاملت بتشدد وقصور أفق خصوصاً فيما يتعلق بموضوع المرأة: خروجها وتعليمها وعملها ثم تعاملها مع أدوات الإعلام والترفيه من تلفاز وغناء وأفلام، ولا غرو في ذلك، إذ تعدّ حركة طالبان فقهياً امتداداً للحركة الديوبنديه؛ المذهب الحنفي التقليدي، وهو منتشر في أفغانستان والهند وباكستان، وطبيعة هذا المذهب لا تسمح بالتساهل والمرونة في احكام الدين، ويعدّ حكم المذهب قولاً واحداً لا يحتمل الأخذ والرد. (الديوبندية طائفة من طوائف المسلمين تنسب إلى جامعة ديوبند – دار العلوم – في الهند. وهي مدرسة فكرية عميقة الجذور طبعت كل خريج منها بطابعها العلمي الخاص، حتى أصبح ينسب إليها).
كما رفضت الحركة استعمال لفظ الديمقراطية؛ لأنها تمنح حق التشريع للشعب، وليس لله، ولم تر الحركة اهميه لوضع دستور، أو لائحة لتنظيم شؤون الدولة، وترى القرآن والسنة هما دستور الدولة الإسلامية، ومع ذلك فقد امتازت حركه طالبان على النموذج الذي قدمته الحركة الإسلامية السودانية بالصدقية والتوجه الإيماني الخالص، والمتأمل لتجربة الحركة الإسلامية السودانية منذ بزوغ فجرها كامتداد لحركه الإخوان المسلمين في مصر يلاحظ أنها كانت محاوله جادة من بعض طلاب المدارس والمعاهد العليا، ومن بعض الذين لديهم قدر من الالتزام الديني السلوكي للبحث عن طريق ثالث في ظل سيطرة وسيادة الاتجاه الطائفي في الحياة السودانية بمجملها، والمتمثل في طائفتي الختمية والأنصار، وتنحدر الأكثرية الساحقة من عضوية الحركة الإسلامية السودانية من فقراء الريف، ومن كادحي المدن الذين عكف أسلافهم علي خدمه الطائفية، ربما كابراً عن كابر؛ لذلك نستطيع أن نجزم في هذا الخصوص بأن المدخل للانتماء إلى تيار الاتجاه الإسلامي في السودان كان مدخلاً طبقياً ينم عن بعض مؤشرات الغبن الاجتماعي أكثر من كونه مدخلاً فكرياً أو إيمانياً. فهو انتماء كان ولا يزال ذا دلالات تتصل بالحيل الدفاعية النفسية”self _defence mechanism” وقد تساءل السيد الصادق المهدي ذات مرة في إحدى مقارباته عن سر القسوة والغلظة والاتشاح بثقافة العنف المميزة للإسلام السياسي السوداني بما يتنافى مع طبيعة ومزاج وتكوين هذا الشعب الموسوم بالسماحة والاعتدال وصفاء الخاطر، وأكد أن الحركة الإسلامية السودانية لم تصادف في مسيرتها ما صادفته مثيلاتها من الحركات الإسلامية الأخرى من عنت وهوان وتضييق وسجون واضطهاد من قبل سلطة باطشة، كما كان الحال مع الحركة الإسلامية في مصر عبد الناصر والسادات، أو في مواجهة اضطهاد السلطة والمجتمع كما كان الحال في هند أبي الأعلى المودودي.
وتأسيساً على ما سبق تعدّ الحركة الإسلامية السودانية غريبة على نفسها، إذ اكتسبت جوهراً مناقضاً لصياغها التاريخي، ولظروف ومحيط نشأتها، ثم هي غريبة على شعبها الرحيم المتراحم المعتدل.
ولعلهم يستشعرون تلك الغربة جيداً، ويحسونها في أعماقهم، إذ كان أول الشعارات التي رفعتها السلطة الانقلابية بعد أن دانت لها الأمور شعارها: إعادة صياغة الإنسان السوداني، كما ذكر سابقاً.
والحركة الإسلامية السودانية وهي ترفع مثل هذا الشعار، إنما تفعل ذلك لتعطي نفسها مبررات الثورة، والانقضاض على هذا الإنسان السوداني، وهي أيضاً بذلك تتماهي مع اطروحات حركات الإخوان المسلمين في مصر، عندما اعلنت كفر المجتمع، ثم تجاوزت مجتمعها الصغير لتعلن ما أسمته بجاهلية القرن العشرين.
وبذلك تعيد الحركة الإسلامية السودانية تأكيد غربتها عن شعبها، وتثبت عدم صدورها عن أصالة في اجتهاداتها تجاه قضايا أمتها.
وقد كانت السلطة ومقاليدها امتحاناً عسيراً سقطت في فخه الجبهة الإسلامية، التي كانت إبان التجربة الديمقراطية الثالثة تملأ الدنيا، وتسد الآفاق بضجيج الشعار الديني من شاكلة: “لا ولاء لغير الله، ولا تبديل لشرع الله”، ثم كانت تحشد الحشود، وتحرك الجموع فيما أسمته بثوره المصاحف والمساجد، حتى قفزت إلى سدة الحكم بليل، فمثل ذلك محكاً فاصلاً بين لغو الشعار والادعاء وجد الممارسة والتطبيق.
وهكذا انساقت الحركة الإسلامية السودانية إلى الاصطدام بأقدارها، ولعل المتأمل لتجربة حكم الإسلاميين في السودان لا يجد أدنى قدر من العناء لتأكيد أن التجربة قد عرت الإسلاميين السودانيين دينياً وأخلاقياً وإنسانياً، وبدت سوءاتهم شاخصة. ورغم اقتران التجربة بالإسلام اسماً إلا أن النظام اعتمد ومنذ البداية على أدوات ووسائل لا ترقى إلى الإسلام، ولا تمت إليه بوشيجة، ابتداءً بالوصول إلي السلطة باغتصابها، وهي “أي السلطة”، وعبر أكثر الرؤي المنهجية اتساقاً مع قيم زماننا لا تكون إلا بتكليف من الرعية، ولا تنزع إلا بذات الآلية، ففرض الذات حسب المنظور الإسلامي هو اغتيال لمبدأ “وأمرهم شوري بينهم”، ثم انها اعتمدت في تكتيكاتها المستمرة للحفاظ على العرش المغتصب على العين الحمراء، واليد الحديدية والعنف الجسدي والمعنوي تارة، ثم المساومات الرخيصة والكذب والتضليل تارة أخرى.
والبرهان على تلك النواقص الإنسانية التي اعتمدها النظام أنه ليس للإسلام الذي بعث نبيه لإتمام مكارم الأخلاق أثر يذكر في فكر ومنطلقات هؤلاء القوم الذين أسرفوا على أنفسهم كثيراً باعتماد مبدأ “إرضاع الذات من اللذات” حتى صارت مقولة: من أين أتى هؤلاء؟ تساؤلا يجري مجرى الحكمة.
وعوداً على بدء نؤكد أن هؤلاء أتوا من صميم الغبن الاجتماعي المستبطن كما أسلفنا، والذي يشكل أقوى مداخل الانتماء لتيار الإسلام السياسي في السودان، وبذلك يمكن اعدّ تيار الإسلام السياسي في السودان بأنه ثمرة من الثمرات المرة لتجربة الاستغلال الطائفي الذي رزح تحت نيره قطاع واسع من بسطاء شعبنا، فانحدر من أصلاب اولئك البسطاء المستغفلين من استبطن في لا وعيه إعاقات علاقة المريد بالسيد، وما يتمخض عنها من ضعف في فرص التكافؤ الاجتماعي، حيث تكون مصائر العباد محسومة ونهائيةـ إذ إن الشرف معطى وراثي، والمهانة خاصية جينية.
تلك هي التراكمات التاريخية التي صنعت وجدان أغلب المنتمين تاريخياً إلى تيار الإسلام السياسي في السودان، إذ وجدوا في اطروحاته الاستئصالية الداعية للثورة على المجتمع الرئة والمتنفس.
وتأسيساً على ما سبق، فلا عجب أن جاءت تجربه حكمهم وبالاً علي شعبهم المحتقر في وعيهم. فبدت التجربة كأنها محاولة منظمه للانتقام من هذا الشعب. فكوت الجبهة الإسلامية أحشاء السودانيين بسياسات التمكين، وقضت علي الروح السودانية، وأعاقت تطور الشخصية السودانية التي أضحت في المخيلة العالمية مرادفاً بل ورسولاً للحرب والإبادات، ومن ثم، تجاوز السودان عملياً مرحلة الفقر بمعناه المادي والاقتصادي إلى الفقر بمضمونه الإنساني، وكل ذلك تحت لافته دولة موسومة بالإسلام، وهي لا تبالي بأن نالت أرفع الأوسمة والنياشين العالمية في الضعف والفساد وسوء الإدارة والأخلاق، وإزاء كل تلك التطورات والنعوت التي تلحق بالدولة السودانية، والتي في حقيقة أمرها ما هي إلا تحالف بين العسكرتاريا والراسمالية الطفيلية عبر استغلال الدين والعرق وتوظيفهم في الصراع السياسي تكون فرص صعود الدولة الدينية في مجمل المنطقة العربية والإسلامية آيلة للتضاؤل والانكماش، رغم بوادر وإرهاصات تصاعد محدود لبعض جماعات الإسلام السياسي هنا وهناك، فهو تنام لا يعتد به كثيراً؛ لأنه يتم في ظل سيادة فكر الأزمة سواء بسبب بعض الشموليات المزمنة التي بقيت زمناً طويلاً ومملاً رازحة علي صدر شعبها، أو في ظل أزمة بسبب أوضاع الاحتلال، وتعثر ومحدودية الخيارات الوطنية كما هو الحال في تجربه الشعب الفلسطيني، وصعود حركه حماس التي استفادت من مناخ اليأس والإحباط، الذي عادة ما يدفع اليائسين إلي مواقف غير مدروسة تتم علي سبيل التجريب.
إن النموذجين الطالباني والإنقاذي جعلا دعاة الدولة الدينية يسيرون على الأشواك، ففيهما تذكرة لكل من له قلب. فالمستقبل للفكر الحر القائم على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، والسعي بين الناس بالحسني؛ وصولاً إلى كل ما من شأنه الارتقاء بالحياة الي الأفضل، والدور الوحيد الذي يمكن إن يؤديه الإسلام السياسي مستقبلاً هو استمرار المزايدة على تطبيق الشريعة الإسلامية صارفاً النظر عن بناء المجتمع الإسلامي، وقيام دولة الإسلام بالكيفية التي يدعيها الإسلام السياسي في خطابه وشعاراته.
وستمضي القافلة، ولن يعيقها الأدعياء من دعاة التكسب بالدين، وعلى العكس سيكون المستقبل على حسابهم، وقد بدا الانحسار.
وسوف يكفي الله المؤمنين شر القتال: “إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ” (هود: 81).