“التاريخ ليس نصا أو سردا، ولكنه كعلة غائبة لا يتأتى إلا من خلال تنصيص الشكل، ولهذا فإن مدخلنا إليه وإلى الحقيقي نفسه يمر بالضرورة عبر التنصيص المسبق والسردانية في اللاوعي السياسي.”
فردريك جيمسون
هنالك مداخل متعددة للتعامل والتفاعل مع الخطاب ما بعد “الكولونيالي”)ما بعد الاستعماري)، ولعل أفضلها هو التعامل مع المنظور على أنه نقد للتاريخ. وتمثل هذه الأطروحة المحور الأساسي الذي تدور حوله جميع القضايا التي يثيرها روبرت يونغ في كتابه “أساطير بيضاء: كتابة التاريخ والغرب.” وأساطير بيضاء، كما سيلاحظ البعض، مستعارة من مقال جاك دريدا “الأسطورة البيضاء والمجاز في النص الفلسفي.” وبهذه الاستعارة يكشف يونغ عن مديونيته للكتابات البنيوية ومن بينها كتابات ليفي استراوس التي ترفض التفسير الماركسي للتاريخ وتقترح بدلا عنه تواريخ متعددة محتجة بأن التاريخ كوحدة كاملة وجامعة وشاملة ليس أكثر من “أسطورة بيضاء.” وبالإضافة إلى دريدا وفوكو وليفي استراوس، فإن كتاب يونغ يتكئ على بعض المواقف النظرية لإدوارد سعيد وهومي بابا وغاياتري سبيفاك، وجميعهم من أعمدة النقد ما بعد الكولونيالي.
وهنالك جامع بين الذين ذكرت وآخرين بحثوا وكتبوا في كيفية التعامل مع تبعات الاستعمار والانتباه إلى دور السرد في تشكيل الوجدان وإعادة الاعتبار، والجامع هوالاتفاق على أن تحرير الإنسان المستعمر – في المحيط الإفريقي – يتحقق عن طريق استرداده لكرامته التي أهدرتها التجربة الاستعمارية ووظفت لامتهانها عوامل التاريخ والميثولوجيا والأيدلوجيا. والعلاقة بين ثلاثي التاريخ والميثولوجيا والأيدلوجيا علاقة وثيقة قديمة ومتجددة يمثل السرد لحمتها وسداها. ولهذا السبب تداخلت وتشابكت في مساهمات المبدعين الأفارقة، وبخاصة أولئك الذين عنوا بقضايا الهوية الثقافية والقومية مثل أشيبي وسوينكا ونقوقي ونور الدين فرح.
ويهمني عند هذا المنعطف التنويه إلى مركزية إحدى أطروحات علي مزروعي حول الهوية والقومية والسرد والتاريخ في هذا البحث. والأطروحة التي أعني هي تلك التي يمضي فيها على خطى أرنست رينان ليقول “إن العامل الحيوي في تكوين الأمة هو أن تسترجع تاريخها مغلوطا.” فمزروعي يدرك هنا، كما أدرك قبله رينان، أهمية السرد في تكوين وتشكيل الوجدان القومي، وبخاصة ذلك السرد التاريخي الذي يحقق هدفا عندما يؤخذ مغلوطا. ولا بد من التأكيد هنا على أن دعوة مزروعي ليست مسوغا للتزوير أو مبررا للتزييف، وإنما هي دعوة للانتقاء الذكي والتقديم والتأخير والتحوير والتعديل وتغليب الجوانب الإيجابية على المناحي السلبية وانتزاع مشاعر الظفر من بين براثن الهزيمة. وهذا ما دأبت على ممارسته بوعي وانتباه نخبة من الروائيين الأفارقة. ومع أن محاولاتهم أثارت كثيرا من الاهتمام وبعضا من الجدل، فمن الثابت أنهم لم يأتوا بشيء مستحدث تماما أو مستهجن، إذ فعله قبلهم أندريه مالرو الذي تجاهل في روايته “الأمل” هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية الاسبانية وجعل ثقل روايته يرتكز على البدايات الناجحة للجانب الجمهوري، كما فعل ارنست هيمنغوي شيئا مشابها في روايته هو الآخر عن الحرب الأهلية الاسبانية “لمن تقرع الأجراس.”
وعودة إلى السياق الإفريقي نجد أن هذا النسق يمكن رصده عند نقوقي في محاولته إعادة كتابة المواجهات الاستعمارية مع الجماعات الكينية، وعند نور الدين فرح في مشروعه الروائي الذي يهدف به “إعادة كتابة الصومال التي أساء كتابتها سياد بري”، وكذلك سمبيني عثماني الذي آثر أن يحسم الصراع لمصلحة العمال في “غابة الله الصغيرة” التي يحتفي فيها بانتصار العمال في إضراب السكك الحديدية في غرب إفريقيا في 1947، والذي انتهى في واقع الأمر بهزيمتهم. وعلى الساحة النيجيرية فعل ذلك أيضا سباستيان مرو في روايته عن الحرب الأهلية “وراء الشمس المشرقة”. كما فعل ولي سوينكا شيئا مشابها في “الموت وخيّال الملك.” وعندما ثار جدل حول أنه لم يلتزم بحرفية التاريخ، استعاد المدافعون عن المؤلف والمسرحية تفريق الفيلسوف والشاعر والمسرحي الألماني فريدريش شيلر بين المحاكاة التاريخية والمحاكاة الجمالية. والشاهد هنا أن المحاكاة الجمالية هي في كثير من الأحيان أعظم تأثيرا من المحاكاة التاريخية في تحقيق غايات مشروع إعادة الاعتبار وتعمير الوجدان القومي، حتى وإن تناقضت معطياتها مع الوقائع التاريخية.
ويلاحظ أيضا في الإطار الروائي الإفريقي محاولة العديد من الروائيين العودة للاتصال بالنقطة التي مزق عندها الاستعمار نسيج التطور التاريخي للقارة والتوقف عندها، وتأتي بعدها محاولة رتق ذلك الفتق الذي أحدثته نصال التاريخ والميثولوجيا والأيدلوجيا. وتعتمد عملية الرتق بشكل كبير على السرد الذي تحاول بواسطته المستعمرات (الإمبراطورية) أن ترد على الحواضر الأوروبية (المركز). ولهذا تجاوزت مقولة “الإمبراطورية ترد كتابة على المركز The Empire writes back to the Centre” المأخوذة من مقال لسلمان رشدي، مجرد أن تكون صيحة حرب، لتصبح نقطة انطلاق تحتشد عندها الجهود لمواجهة الصلف الاستعماري الذي تغذيه الأساطير البيضاء.
هذه المقدمة، وإن طالت، فهي ضرورية في محاولة معرفة الأسباب التي دفعت الطيب صالح أن يفعل شيئا فريدا في “موسم الهجرة إلى الشمال”، إذ أنه لم يقتنع بالمحاكاة التاريخية عند منعطف هام من منعطفات الرواية واختار بدلا عنها محاكاة جمالية. ولكن خلافا لما هو متوقع فإن المحاكاة الجمالية المختارة لم تحاول تعمير وتعزيز الوجدان القومي، وإنما عملت عملا يناقض تلك التوجهات، ويهزم تلك الغايات. فبدلا عن اختيار جانب إعلاء لحظة ترد فيها الإمبراطورية على المركز ردا يفيض بالبلاغة والكبرياء، اختار تاريخا مغلوطا فرض فيه الصمت والخنوع على واحد من أوائل أبناء الإمبراطورية، إن لم يكن أولهم على الإطلاق، الذين ردوا على المركز نظرة بنظرة، وكلمة بكلمة، ووعدا بوعيد، وهو يرسف في القيود.
محمود أحمد
يقول السرد في “موسم الهجرة إلى الشمال”: “حين جيئ لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا.” ولفترة من الزمن وأنا عاكف على دراسة تجمع بين نقوقي والطيب صالح ونور الدين فرح تحت عنوان “سرد الإزاحة”Displacement Narratology of بجامعة نوتينغهام ترنت بالمملكة المتحدة كنت اتساءل كثيرا لماذا عندما أخذ الطيب صالح جزئية من تاريخ بلاده مغلوطة لم يفعل ذلك لتعزيز الشعور بالزهو القومي وإنما ليفعل بها عكس ذلك تماما؟ وعندما نظم مركز الدراسات السودانية بالمملكة المتحدة ندوة في سبتمبر 1998 تحت عنوان “السودان: مئة عام بعد أم درمان: التاريخ والحداثة والهوية” وجدت نفسي قبالة ذلك السؤال اللجوج وأنا استمع إلى مساهمة الأستاذ محمد خلف الله التي حملت عنوان “1898 وما بعده في موسم الهجرة إلى الشمال.” وكان هذا سياق ينادي بطرح السؤال الذي وجهته للمحاضر عن مشروعية ومبرر مجافاة الطيب صالح للتاريخ وفرض الصمت وطأطأة الرأس على محمود ود أحمد في تجاهل لمقومات الخطاب ما بعد الكولونيالي وتطبيقاته السردية. خاصة وأن الواقعة بما فيها من مكونات درامية توفر فرصة رائعة لترتيب منازلة بين الإمبراطورية والمركز تقطع شوطا في محاولة ترويض التوتر الذي ينشب عادة داخل الرواية ذات الطموحات التاريخية بين التماسك المفترض للبنية الروائية وتشظي الوقائع التاريخية، أو إن شئت بين التماسك المفترض للوقائع التاريخية وتشظي البنية الروائية.
وتضمنت مداخلتي إشارات مقتضبة إلى بعض ما فعله وقاله محمود في مواجهته المدوية مع كتشنر وفقا لما أورده شهود عيان جاءوا بمعية الجيش الفاتح. وسرعان ما تبين لي أن الأستاذ محمد خلف الله لم يكن راغبا في تعكير صفو لقاء نهنئ فيه أنفسنا بقيمنا وأخلاقنا وتسامحنا وبأديبنا الكبير الذي لم يعجبه ذلك فتطوع برد مطول اشتمل على مقاربة بين ممارساته الفنية وشكسبير، وحق كل مبدع في إعمال الخيال، كما تحدث عن تفريقه بين بريطانيا والاستعمار، وعن أن روايته تعتبر واحدة من أكثر الروايات الإفريقية معاداة للاستعمار، وأهم من هذا جميعه أكد أنه يقبل النقد، ولكنه يرفض التزوير. قال الطيب صالح ذلك أمام حشد من الباحثين والدارسين والمهتمين مؤكدا بشكل قاطع أنه ليس هنالك من يدري بما دار بين محمود وكتشنر، وإن ما ورد بينهما في الرواية هو نتاج مباح ومتاح لخيال المؤلف. وكما هو متوقع في مثل هذه المواقف التي يتطاول فيها أحد المشاغبين على واحد من الكبار – ليس فقط واحدا من الكبار وإنما عبقري الرواية العربية لا أقل – ظهر ما يشبه الإجماع بين “المعجبين” أنه ليس من الأدب في شيء إفساد الأجواء الاحتفالية بأسئلة عن المشروعية والتاريخانية والأيدلوجية وما بعد الكولونيالية وما إليها، حتى وإن كان الجمع قد التأم أساسا تحت ذريعة البحث في “التاريخ والحداثة والهوية.” لقد رحل الطيب صالح عن دنيانا ولم يعد بمقدوري أن أثير حفيظته أكثر مما فعلت في ذلك اليوم الصيفي الإنجليزي البديع، ولكن النظر إلى أبعاد أعماله، وتبعات أفعاله، وأصداء أقواله لن يتوقف برحيله.
ولن أتوقف هنا إطلاقا عند قرب التماثل أو بعده بين عبقري الأدب الإنجليزي وعبقري الرواية العربية، ولكن لا بد لي من التوقف قليلا عند محاولة التفريق بين بريطانيا، أو أي من الدول الاستعمارية الأخرى والاستعمار، لأقول إن دهاقنة الاستعمار لم يفرقوا بين الاثنين، بل أنهم لم يفرقوا بين الاستعمار والجنس الأبيض. فالاستعمار، مثله في ذلك مثل الاسترقاق، ليس فقط تحقيق لنية توسعية أو مجرد استجابة لحاجة اقتصادية، وإنما هو أيضا تعبير بذئ عن موقف عنصري أحاطت به وعبرت عنه كلمات لورد لوغارد، أول حاكم عام بريطاني لنيجيريا التي تقول في صفاقة مطلقة: “نحن نقبض على زمام الأمور في هذه البلاد لأنها من عبقرية جنسنا أن يستعمر ويتاجر ويحكم.”
كما سأتوقف أيضا قليلا عند الزعم بأن “موسم الهجرة إلى الشمال” واحدة من أكثر الروايات التي كتبت في إفريقيا معاداة للاستعمار لأقول أن تلك مسألة خلافية لا تتفق فيها وجهات النظر، وأن ذلك الزعم قد لا يصمد إذا نظرنا إلى الرواية من ذات المنظور الذي نعاين به روايات نقوقي وا ثيونقو وسمبيني عثماني، وشينوا اشيبي وكامارا لاي، أو حتى إذا قصرنا النظر على روايات إفريقية تحمل عناوين مشابهة مثل رائعة آي كوي ارما : “ألفان من المواسم” أو رواية سوينكا “موسم الخروج عن المألوف.” ثم أنه حتى إذا سلمنا جدلا بأن الرواية هي أكثر الروايات معاداة للاستعمار، فإن هذا لا يمنحها حصانة تضعها فوق النقد والفحص والمراجعة. إن المتابع لقضايا ما بعد الكولونيالية والأدب لن تفوته الإشارات المتعددة في الكتابات النقدية إلى “موسم الهجرة إلى الشمال” مثل دراسة خيري دومة التي تحمل عنوان “عدوى الرحيل: موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية ما بعد الاستعمار”، ودراسة ساري مقدسي “إعادة سرد الإمبراطورية: موسم الهجرة إلى الشمال وإعادة ابتداع الحاضر”. والدراستان تستحقان الانتباه والتقدير، وعلى الرغم من أي نقص أو قصور، فقد سلمتا بشكل عام من مثالب الجزء الغالب من النقد الأدبي العربي الذي يعاني متلازمات الوهن وخداع الذات والانكار والخبل.
وفي دراسته آنفة الذكر يصف ساري مقدسي “موسم الهجرة إلى الشمال” بأنها “مداخلة راديكالية في مجال الخطاب ما بعد الكولونيالي العربي.” وهنا تكمن قيمة مساهمة مقدسي وضعفها في آن واحد. فعلى الرغم من ان رائدين من رواد الخطاب ما بعد الكولونيالي، البرت ميمي التونسي المولد والنشأة، وفرانتز فانون الذي تبنى الثورة الجزائرية وتبنته، خرجا من بين ظهرانينا، فقد ظل ذلك الفكر غريبا يتسول الانتباه على هامش الثقافة العربية. لقد أنتج ميمي وفانون فكرا متحررا ومحرِرا متمثلا في “المستعمِر والمستعمَر” The Colonizer and the Colonized لميمي، و”بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” Black Skin, White Masks لفانون. ولكن ذلك الفكر لم يستطع أن يغرس له جذورا في تربة الثقافة العربية التي لا تثق تماما في أسماء مثل البرت وفرانتز وإدوارد. وعليه، ولأسباب أكثر عمقا، لم يتم استيعاب إدوارد سعيد كاملا ضمن مكونات النقد العربي الذي لم يتجاوز حتى اللحظة “بداياته” Beginnings التي تتناول مكونات الخيال والفعل والكوابح التي تعرقل عمليات الخلق والإبداع التي تنبثق من أعماق النوايا الإنسانية الطموحة لتصطدم بإمكانيات ووسائل التحقيق المحدودة. فالفكر العربي الذي يؤثر فيه سعيد، بعد سنوات من الرفض والشجب والتشكيك والتخوين، هو ذلك الذي تتبدى من بين ثنايا اهتماماته هواجس الاستشراق ونوازع الحداثة، ولكن ليس هموم ما بعد الكولونيالي واهتماماته. ولهذا فإن محاولة مقدسي الربط في السودان بين الخطاب ما بعد الكولونيالي والمشروع العربي للحداثة لم ولن تمضي به بعيدا. فعلى الأرجح أنه لا يدري أن العربية في السودان – لغة وثقافة وتوجها – ليست دائما دافعا للتحرر أو محفزا للتحرير. بل أنها في كثير من الأحيان عامل من عوامل القهر والاستلاب. ولهذا فإنه من السخرية بمكان أن يتصدر حديثه عن الخطاب ما بعد الكولونيالي في النطاق السوداني الاحتفاء بالمساهمات الحداثية لرفاعة رافع الطهطاوي، وهو القائل:
وما السودان مقام مثلي ولا سلواي فيه ولا سعادي
ولولا البعض من عرب لكانوا سوادا في سواد في سواد
وأنا إذ أعيد ما جادت به قريحة الطهطاوي لا تخالجني ذرة إنكار لسواد السودان أو شعور بالدونية حيال سودانويته، ولكني قصدت تعرية هذا الموقف الطهطاوي الذي لا يتجاوز في “حداثته” موقف المتنبي من كافور الأخشيدي.
ورغم إغراء الاستطراد في رصد المظاهر العربية السالبة في رؤية السودان والسودانيين، فسأعود للحديث عن التاريخ والسرد في “موسم الهجرة إلى الشمال” مع التركيز على التناقض الصريح بين تأكيد الطيب صالح رفضه للتزوير وبين ممارسته له. ذلك أن الذي حدث بين محمود ود أحمد والسردار هوراشيو هربرت كتشنر قد ضمته بطون الكتب، ورصدته عدسات الكاميرات، وحملته صفحات الصحف والمجلات. ففي كتابه “السباق إلى فشودة” كتب ديفيد ليفرنق: “لقد انتهى القتال بالنسبة لمحمود، ولكن روحه توقدت عند تقديمه لكتشنر. وقد أعجب واتكينز وستيفنز بالحوار بينهما: “هل أنت الرجل محمود؟” فرد عليه القائد الأبي: “نعم أنا محمود، وأنا مثلك في المقام.” “لماذا جئت للقتال هنا؟” تابع كتشنر بغرابة إذ أنه هو الذي توغل لخمسمائة ميل داخل بلاد محمود الذي رد عليه قائلا: “لقد أتيت منفذا للأوامر، مثلك تماما.”
والإشارة إلى إعجاب ستيفنز بمحمود مسألة بالغة الأهمية إذ أنه شاهد عيان عميق التأثر وشديد التأثير. ففي مراسلاته لصحيفة “ديلي ميل”، كما في كتابه “مع كتشنر إلى الخرطوم” كتب عن مثول محمود ود أحمد أمام كتشنر: “لقد وقع محمود في الأسر. عثر عليه أفراد الفرقة العاشرة السودانية عند تمشيطهم للزريبة. لقد وجدوا محمود مفترشا فروته وإلى جانبه سلاحه على عادة الزعماء المهزومين في استقبالهم للموت، فلم يقتلوه وقاموا بإحضاره حاسر الرأس أمام السردار. كان طويلا داكن اللون بين الثلاثين والأربعين. كان يرتدي جلباب الدراويش الذي يحاكي قميص المهدي المرقع، ولكنه كان يوشيه بالذهب. كان وجهه ضيق الخدين إذ كان عربيا خالصا، وكانت قسماته قاسية ولكنها نبيلة. لم يكن ينظر يمنة أو يسارا وهو يتقدم نحو السردار منتصب الرأس، فسأله السردار: “هل أنت الرجل محمود؟” فرد: ” نعم أنا محمود، وأنا مثلك تماما.” يعني أنه قائد جيشه. “لماذا جئت لتحارب هنا؟” فقال: “لأنني أنفذ الأوامر، مثلما تفعل.” ثم أبعد محمود تحت الحراسة، ولكن إعجاب الجميع به قد تزايد لأنه واجه مصيره غير هياب وبلا وجل.”
وفي كتابه “مذكرات أم درمان 1898″، الذي يحمل أيضا عنوان “إفادات شهود عيان على الحملة الأسطورية”، كتب جون ميرديث: “وجد الجنود السودانيون محمود جاثما وهو جريح في مخبأ بالزريبة وأنقذه ضابط بريطاني من حراب الجنود وتم جره إلى السردار حيث جرت المحادثة التالية عندما سأله كتشنر بالعربية: – “هل أنت الرجل محمود؟” – “نعم أنا محمود وأنا مثلك في المقام.” – “لماذا جئت إلى هنا لتحرق وتقتل؟” – “مثلما تفعل أنت.” وشاهد آخر على ما دار بين كتشنر ومحمود هو وينستون تشرشل الذي كتب في “حرب النهر”: “كان أبرز الأسرى محمود – عربي طويل في حوالي الثلاثين من العمر، وقد مثل مباشرة أمام السردار بعد أسره فسأله: “لماذا جئت إلى بلدي لتحرق وتقتل؟” فرد عليه الأسير متجهما ولكن في قدر من الجلال: “يجب عليّ إطاعة الأوامر مثلما تفعل.” وجاءت ردوده على الأسئلة الأخرى مقتضبة ومرواغة، ولكنه تطوع بأن يقول إن الثأر لهذه المذابح سيتم في أم درمان.”
وآخر الشهادات، وهي أيضا أحدثها وأكثرها استفاضة، هي تلك التي ساقها جون بولوك في كتابه “كتشنر: الطريق إلى أم درمان”: “كان السردار يمتطي صهوة جواده عبر الميدان ومعه هنتر فجاءهما جندي يعدو بفرسه ليخبرهما أن محمود قد وقع في الأسر، وقد أنقذه من الرماح ضابط مدفعية شاب. فاستدارا بجواديهما فشاهدا رقيبا سودانيا يقود رجلا طويل القامة بادي التكبر. كان يرتدي جبة مضرجة بالدماء ويداه مقيدتان خلف ظهره، وعبس في وجهيهما الأمر الذي أثار حنق هنتر فقال مغضبا بالعربية: “هذا هو السردار.” وفي هدوء أمر كتشنر محمود بالجلوس، وكان هذا هو الأسلوب المتبع في السودان والذي سيأتي بعده إما العفو أو الموت. وبدلا عن أن يجثو في انتظار مصيره جلس متربعا دلالة على الندية. كان كتشنر، والعلم المصري يرفرف إلى جانبه ينظر إلى محمود من على ظهر جواده، ثم سأله “لماذا جئت إلى بلدي لتحرق وتقتل؟” فرد عليه محمود: “مثلك تماما. يتحتم عليّ إطاعة أوامر الخليفة كما تطيع أنت أوامر الخديوي.” فابتسم كتشنر وقال لرجاله: “إجابة جيدة.” قالها بالإنجليزية Rather a good answer. وتبعت ذلك أسئلة أخرى رد عليها محمود بلا خوف أو وجل، وهم يأخذونه بعيدا صاح بالسردار: ” ستدفع ثمن هذا جميعه في أم درمان، فمقارنة بالخليفة فأنا لست أكثر من ورقة في شجرة.”
الروايات أعلاه لا تترك مجالا لشك أو ريبة في أن هنالك من شهد ما دار بين الرجلين ورصده، واستمع لما تفوه به كتشنر وتعجب منه، وانتبه لما قاله محمود وأعجب به. كما أن الشهادات لا تجمع فقط على شجاعة نادرة في مواجهة المصير، وإنما أيضا قدرة متميزة على الرد تقدم نموذجا مبكرا على رغبة الإمبراطورية وقدرتها في الرد على المركز. ولكن الطيب صالح أشاح بوجهه بعيدا عن ذلك جميعه وفرض على محمود الصمت وطأطأة الرأس. وعندما واجهته بذلك أجاب بأنه ليس هنالك من يدري ما قاله محمود ولذلك فإنه يمتلك الحق في أن يضع على لسانه أو يحجب عنه ما يشاء. وللتدليل على عدم صحة ما ذكره تعمدت إيراد أكثر من وجه من أوجه السرد التي احتفت برصد تلك اللحظة المشبعة بالدلالات التاريخية والميثولوجية والأيدلوجية في تاريخ المواجهات الاستعمارية. وهي أيضا لحظة مفصلية مشحونة دراميا في بنية الرواية وفي تطور سردها. ولهذا ظلت تحت مجهر اهتمامي في إطار الأخذ والرد بين المركز والإمبراطورية في سياق الخطاب ما بعد الكولونيالي. ولهذا أفصحت عن اعتراضي على معالجة هذه النقطة في الرواية في حضور المؤلف متوقعا منه بعضا من التوضيح. ولكن الرد الضافي الذي أتى به الطيب صالح زاد الأمر تعقيدا، ولم يترك أمامي غير خياري إما أنه يعرف ويدعي أنه لا يعرف، أو لا يعرف ويدعي أنه يعرف. والحديث هنا تحديدا عن “طأطأ رأسه ولم يقل شيئا.”
في كلمات أحرى، ومهما حاولنا المرواغة، نحن هنا إزاء حالين لا ثالث لهما، ولكل منهما تبعاته: إما أن الطيب صالح يدرك تماما ما دار بين كتشنر ومحمود ومع ذلك اختار لمحمود الصمت وطأطأة الرأس، ثم أنكر ذلك على رؤوس الأشهاد. ويكون بهذا قد أخطأ تاريخيا، وأخفق سياسيا وأدبيا وأخلاقيا. وإما أنه لا يدري فعلا بما دار بين كتشنر ومحمود، ويكون بهذا قد فتح بابا يصعب إغلاقه، ذلك أن مجريات السرد في الرواية تشير إلى أن هنالك من يدري تماما بما دار بين كتشنر ومحمود عند كتابة “موسم الهجرة إلى الشمال”. والسؤال عندها لا بد أن يكون: من هو ذلك الذي انعكست معرفته لما دار بين الرجلين على مجريات السرد في الرواية؟ ذلك أن السؤال المحوري الذي جاء على لسان كتشنر في الرواية “لماذا جئت الى بلدي تخرب وتنهب؟” يكاد أن يكون ذات السؤال الذي جاء على لسان كتشنر بعد واقعة النخيلة في الثامن من إبريل 1898. كما أن عبارة “الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الارض” تكاد أن تكون أتت مباشرة من ديفيد ليفرنق في “السباق إلى فشودة” حيث يقول: ” تابع كتشنر بغرابة إذ أنه هو الذي توغل لخمسمائة ميل داخل بلاد محمود.” أما “طأطأ رأسه، ولم يقل شيئاً” فلم يرصدها أي من شهود العيان، فقد “أعجب واتكينز وستيفنز بالحوار بينهما” (ديفيد ليفرنق)، “لم يكن ينظر يمنة أو يسارا وهو يتقدم نحو السردار منتصب الرأس… ثم أبعد محمود تحت الحراسة، ولكن إعجاب الجميع به قد تزايد لأنه واجه مصيره غير هياب وبلا وجل.” (ستيفنز)، “هل أنت الرجل محمود؟” – “نعم أنا محمود وأنا مثلك في المقام.” – “لماذا جئت إلى هنا لتحرق وتقتل؟” – “مثلما تفعل أنت.” (جون ميرديث)، “فرد عليه محمود: “مثلك تماما. يتحتم عليّ إطاعة أوامر الخليفة كما تطيع أنت أوامر الخديوي.” فابتسم كتشنر وقال لرجاله: “إجابة جيدة.” قالها بالإنجليزية Rather a good answer (جون بولوك)، “وجاءت ردوده على الأسئلة الأخرى مقتضبة ومرواغة، ولكنه تطوع بأن يقول إن الثأر لهذه المذابح سيتم في أم درمان.” (تشرشل).”
إذا كان الطيب صالح لا يدري بما دار بين كتشنر ومحمود – إذ أنه ليس هنالك من يدري بما دار بين الرجلين حسبما قال – وبما أنني لا أعتقد بتوارد الخواطر كوسيلة لمعرفة الوقائع التاريخية، وأن توارد الخواطر ليس هو الذي جعل كتشنر يردد في الرواية ما قاله لمحمود بعد واقعة النخيلة، فلا بد لي من محاولة معرفة ذاك الذي كان يدري بما دار بين الرجلين ووضع منه ما أراد على صفحات “موسم الهجرة إلى الشمال؟” وعليه أقول إن ذاك الشخص، على الأرجح إن لم يكن من المؤكد، هو دينيس جونسون-ديفيز الذي كتب الطيب صالح المسودة الأخيرة للرواية في منزله في سسكس بجنوب إنجلترا. وقد يكون من المناسب هنا استدعاء الملصق الشهير الذي ظهر في 1914 يحمل وجه الفيلد مارشال كتشنر عندما كان وزيرا للحربية البريطانية وهو يشير بسبابته موجها حديثه للشباب يستحثهم للتجنيد تحت شعار “يحتاجك..Wants you”. وتكمن قوة الملصق في النظرات الحادة piercing gaze التي يواجه بها لورد كتشنر الناظرين إليه، وكان الانطباع السائد وقتها وقبلها، وظل عالقا في العقل الجمعي البريطاني لوقت بعدها، هو أن الرجال لا يقوون على مواجهة نظرات كتشنر النافذة فيخفضوا ناظرهم. وهذا، في اعتقادي، بعض ما حمله دينيس جونسون-ديفيز معه إلى “موسم الهجرة إلى الشمال”: المركز الذي يحدق في الإمبراطورية مجبرا إياها أن تطأطئ رأسها، تماما كما فعل محمود ود أحمد رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” مجسدا بذلك صورة للاستسلام والرضوخ والخنوع تنسجم تماما ودعاوى الخطاب الاستعماري.
والذي يبدو لمن ينظر طويلا إلى “موسم الهجرة إلى الشمال” هو أن لدينيس جونسون-ديفيز تأثير في الرواية أكثر مما تراه العين: مشاركة تتجاوز دور مترجم الرواية من العربية إلى الإنجليزية. فطبيعة عملهما بشكل لصيق في نص غير مكتمل جعلت دور جونسون-ديفيز يتجاوز، كثيرا أو قليلا، دور المترجم. وأظنه أمر يفيض بالدلالات أنه عندما تقدمت إحدى الجهات بطلب للحصول على امتياز تحويل “موسم الهجرة إلى الشمال” إلى فيلم روائي، طالب جونسون-ديفيز بنصيب كبير في حق الامتياز مما أدى إلى إجهاض المشروع. وأستند في زعمي هذا على رواية الكاتب الكبير محمد سليمان الفكي الشاذلي كما أسرّ له بذلك المؤلف. وقد ظل الشاذلي حتى وفاة الطيب – كما يقول دائما من غير صالح – أقرب أصدقائه إليه وأحبهم إلى نفسه. والشاذلي الذي أعرفه لن يفتري على أحد كذبا، ناهيك عن صديقه الذي يجله ويقدره. وقد أكد الشاذلي أن الطيب استنكر طلب جونسون-ديفيز محتجاً بأنه وجولي- زوجته- قاما بمساهمة كبيرة في إنجاز الترجمة، وأن انهيار مشروع الفيلم، من وجهة نظر الطيب، يعود إلى مطالبة جونسون-ديفيز غير المقبولة في حين أنه كان مجرد مترجم. ولكن هذا يضعنا قبالة سؤال غير مريح، وهو هل هنالك “مجرد مترجم” يعطي نفسه الحق في المطالبة بنصيب في حق الملكية ما لم يكن له دور، عظم أو صغر، في التأليف لا يستطيع المؤلف أن يغمطه إياه؟
ولدينيس جونسون-ديفيز، في تقديري، دور محتمل في وضع بنية الرواية، وهو دور يبرز بغيابه في ثلاثية “بندر شاه” ملحقا بها الترهل والضمور معا. ولهذا كلما تذكرت ما كتبه رجاء النقاش عن أن “مريود” “تستعصي على التلخيص، (و) تقترب من الموسيقى حيث لا يمكن تلخيص الأنغام والسيمفونيات…” استشعرت ذلك الغياب. وإذا كانت النغمات لا تلخص، فإن تلخيص السيمفونيات أمر دارج ومألوف، ولكن هذا الربط بين “مريود” والموسيقى والحديث عن الاستعصاء على التلخيص ليس سوى تبرير معتسف يعكس عدم قدرة النقاش، أو عدم رغبته، في أن يرى الثلاثية/الثنائية على حقيقتها كمادة فلتت من سيطرة المؤلف عليها إلى درجة أنها تحولت إلى ثلاثية من جزئين. أما قوله: “فما تعطيه لنا الرواية من متعة روحية وفكرية في معناها العام…” فإنه يذكر بوصفه لمسرحية “الهواء الأسود” التي وجد أنها “تشرح بوضوح أزمة الإنسان المعاصر.” ومساهمة الأستاذ النقاش “مريود: قصيدة في العشق والمحبة” نموذج لما ينبغي تفاديه من نقد يكيل الثناء بلا حساب، ويحتفي بأشياء متوهمة لا وجود لها إلا في مخيلة الناقد. فالأستاذ النقاش – رحمه الله – لمن لا يذكرون، لعب دورا رئيسيا في أكبر الفضائح النقدية في تاريخ الأدب العربي عندما سقط سقوطا مدويا في الفخ الذي نصبه له الكاتب الصحفي أحمد رجب فأحتفى بهراء “الهواء الأسود” الذي كتبه أحمد رجب هازئا وساخرا من مفهوم المسرح العبثي. وكان الطعم الذي ابتلعه هو اسم فردريش دورينمات الذي ألصقه أحمد رجب بهراء “الهواء الأسود.”
والطيب صالح يمضي مغضبا في حديثه في ذلك النهار الصيفي الإنجليزي البديع في رحاب جامعة لندن، تذكرت نصيحة دي إتش لورنس للقارئ والناقد معا “لا تثق أبدا في الفنان. ضع ثقتك في الحكاية. إن الدور الأمثل للناقد هو أن ينقذ الحكاية من الفنان.” وكان من الممكن وقتها، أو حتى بعدها، إنقاذ الحكاية من الفنان. وعودة إلى “حرب النهر” نجد وينستون تشرشل في شهادته حول المواجهة التاريخية بين كتشنر ومحمود يقول عن الأخير إنه: “نموذج رائع للوحشية المتكبرة، وربما يستحق مصيرا أفضل من أن يظل بلا نهاية رهين السجن في رشيد.” ولأنه لم ينعم بذلك المصير الأفضل في حياة مضى نصفها الأول سريعا على صهوات الجياد، ومضى نصفها الثاني متثاقلا مع جرجرة الأصفاد ورجع صدى الوعيد الذي لم يتحقق عند مداخل أم درمان، فقد يكون هنالك بعض العزاء في إزالة غبن أن يظل إلى ما لا نهاية صامتا مطأطأ الرأس في حضرة الصلف الاستعماري على صفحات “موسم الهحرة إلى الشمال.” ولكن الطيب صالح لم يلتفت إلى جدية ما طرحت ولم يجد في الأمر أكثر من سانحة لترسيخ الأستاذية وترديد مزاعم لم يفكر جيدا عما يترتب عنها من تبعات ودلالات.
ولو كنت من المقربين إلى الطيب صالح لأشرت عليه وقتها أن يفعل شيئا تجاه موقفه من محمود ود أحمد، وهنالك سوابق لذلك في الرواية. ففي الإطار الإفريقي حدث هذا لنقوقي عندما كان يمضي جذلا تحت اسم جيمس نقوقي ووضع ضمن سرد روايته “قليل من الحنطة” حادثة اغتصاب امرأة بيضاء بواسطة مجموعة من مقاتلي الماو ماو. ولكن بعد تطور وعيه السياسي، وابتعاده عن تأثير كونراد، ونبذه لاسم جيمس وتبنيه “وا ثيونقو” اسما وهوية، أدرك أنه من غير اللائق للمقاتلين من أجل الحرية والكرامة ارتكاب فعلة الاغتصاب فعاد عنها وعدل سرده ليضمنه حادثة أحرى تقوم مقام الأولى. ويجدر بالذكر أن نقوقي أدرك قبل غيره أن تأثير كونراد في رواياته الأولى جعلها منقسمة على نفسها، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى أن كونراد، كما لاحظ نقوقي، “لا يرى أي إمكانية للخلاص تأتي من بين المقهورين.”
والحديث عن كونراد يقودني إلى استرجاع ما كتبه فخري صالح على صفحات “الحياة” (9 مارس 2006) تحت عنوان “رواية عربية تحاور “قلب الظلام” لجوزيف كونراد” حيث يقول: “ويمكن القول إن “موسم الهجرة إلى الشمال” إعادة كتابة مبدعة لرواية “قلب الظلام” للروائي البريطاني، البولندي الجنسية، جيمس كونراد إذ يعكس الطيب صالح مسار الرحلة من الجنوب إلى الشمال ويعيد تأويل رسالة كونراد الملتبسة في روايته العظيمة التي يلتحم فيها الراوي بشخصية المروي عنه في الصفحة الأخيرة من “قلب الظلام.” إن تأثير كونراد المزعوم وتفاعل الطيب صالح معه أمر شديد الغموض يحتاج إلى الكثير من البحث والفحص. وأفضل المساهمات هنا هي ما كتبته غاياتري سبيفاك في دراستها “موت نظام” التي تعقد فيها مقارنة بين “قلب الظلام” و”موسم الهجرة إلى الشمال” و”الزاحف المجنح” للكاتبة البنغالية “ماهاسويتا ديفي. وتقدم قراءة سبيفاك نموذجا رائعا لقوة النقد المبدع الخلاق الذي يتجاوز ما يطمح إليه الروائي. ففي حين يرى الطيب صالح أنه قد قسم العالم إلى “شمال وجنوب وليس شرق وغرب”، ترى سبيفاك أنه قد نجح من خلال تفعيل دور المرأة في خلخلة وتجاوز الجوامع الثنائية التقليدية مثل أوروبا وإفريقيا، والشمال والجنوب، ليصل إلى نطاقات أكثر شمولية مثل الذات والآخر، والمألوف وغير المألوف، والغريب والمحلي.
ورغم أن هنالك الكثير الذي يمكن قوله اتفاقا واختلافا مع سبيفاك، فسأكتفي بالقول هنا إن وصف “موسم الهجرة إلى الشمال” بأنها إعادة كتابة لرواية “قلب الظلام.” أمر خاطئ تماما. ذلك أن لمفهوم إعادة الكتابة في إطار الخطاب ما بعد الكولونيالي متطلباته ومنطلقاته المتجذرة في قلب الممارسة التي تسترشد بمؤشرات التاريخ والسرد والوعي السياسي. ومن الممكن إخضاع تلك المتطلبات والمنطلقات للفحص عند النظر إلى إعادة كتابة التجربة الاستعمارية في الكاريبي في رواية “بحر سارقاسو العريض” التي تعيد فيها جين ريس كتابة “جين إير” لشارلوت برونتي، أو كما حاولت مارينا ورنر في روايتها “أزرق” وأدريان ريتش في روايتها “عن امرأة مولودة” إعادة كتابة “العاصفة” لشكسبير والروايات الثلاث تقتفي آثار “عاصفة” ايمي سيزار وتقدم قراءة بديلة للأساطير البيضاء.
أما “موسم الهجرة إلى الشمال” فإنها ليست جزءا من ذلك التقليد لسبب أساسي لا مجال فيه لاجتهاد في التبرير أو التفسير أو التأويل، وهو ببساطة انعدام النية وغياب القصد. فالطيب صالح، حسبما يقول، لم يفكر وهو يكتب “موسم الهجرة” في إعادة كتابة “قلب الظلام”. إن “موسم الهجرة إلى الشمال” تتبع تقليدا آخر وصفه إعجاز أحمد في دراسته “في النظرية: الطبقات والأمم والآداب” بالأعمال التي تستنطقها الثقافة الغربية فتجد فيها ما يدعم العلاقة التقليدية بين المركز والإمبراطورية. وفي هذا السياق قد يكون هنالك مردود نقدي لافت لقراءة “موسم الهجرة إلى الشمال” مع رواية نايبول “المقلدون” التي تحكي تجربة مشابهة لتجربة “موسم الهجرة”، ولكن مع اختلاف جذري في تقديم الجنس والتعاطي معه. كما أنه من المفيد هنا الانتباه إلى ملاحظة إعجاز أحمد جاءت اعتراضا على دعوة فردريك جيمسون لإعادة النظر في “القائمة المعتمدة” من آداب الإمبراطورية ضمن الدوائر الأدبية والمساقات الأكاديمية الغربية. فبحسب إعجاز أحمد فإن روايات الأمبراطورية/العالم الثالث ليست مهمشة في الغرب، ولكن هنالك ضرورة لإعادة فحص الدوافع والمسوغات التي يتم بموجبها اختيار بعض الأعمال واعتبارها ممثلة للغات وآداب وثقافات.
وكلما استعدت ما ردده الطيب صالح في ذلك النهار الصيفي الإنجليزي البديع في رحاب جامعة لندن ازداد يقينا من أن الطيب صالح لا يعبأ بالتاريخ، ليس فقط عند استرجاعه بل حتى عندما يراه يحدث أمامه. واعود هنا إلى نقطة مبكرة لم أكن لأثيرها لولا أنني قرأت رثاء حسن عبد الله للطيب صالح تحت عنوان “موسم الهجرة انتهى وعاد الطيّب من الشمال إلى الجنوب” حيث يقول: “وموقفه الوطني العظيم عندما قرّر ترك العمل في إذاعة “بي بي سي” احتجاجاً على مشاركة بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.” وكان هذا يمكن أن يكون موقفا وطنيا عظيما لو أنه قد حدث، ولكنه لم يحدث لأن الطيب صالح لم يترك العمل بالإذاعة البريطانية إبان العدوان الثلاثي على مصر، وذاك ما فعله زميله دكتور حسن عباس صبحي الذي توقف عن العمل بالإذاعة البريطانية، وعاد إلى السودان تعبيرا عن شجبه للعدوان الثلاثي.
محمود محمد طه
ولكن المهم عندي في هذا السياق أن الطيب صالح قد فرض الصمت على محمود ود أحمد عند اللحظة الفارقة في حياته، تلك التي تحول فيها من أمير إلى أسير، كما صمت عن محمود آخر عند اللحظة الفارقة في حياته. والآخر هو المفكر “الأستاذ” محمود محمد طه الذي أصدر عليه الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري حكما بالإعدام بعد اتهامه وإدانته بالردة. وكما فعل محمود الأول فعل محمود الثاني ومشى إلى المشنقة في ثبات في 18 يناير 1985. والمحمودان شخصيتان يحتدم حولهما الجدل، ولكن السودانيين الذين قد يختلفون مع الرجل حول كيف يعيش يضربون عن ذلك صفحا عندما يعرف كيف يموت. لقد عرف محمود الأول كيف يقاتل وينازل ويواجه مصيره غير هياب، كما عرف محمود الثاني كيف يحيا، وكيف يناضل، وكيف يموت.
صدر حكم الإعدام على محمود محمد طه وتبعه التنفيذ والطيب صالح يكتب وينشر ويتحدث ويشارك في المنتديات الفكرية والمحافل الأدبية، ولكنه صمت تماما عن محمود ولم يكتب عنه إلا بعد ما يزيد على أربع سنوات من “اغتياله”. فبعد سقوط نميري كتب الطيب صالح على صفحات “المجلة” في 5 يوليو 1989 حاكيا كيف أن باربرا براي اتصلت به هاتفيا محاولة دفعه بأن يفعل شيئا حيال حكم نميري على محمود بالإعدام، ولكنه لم يفعل أكثر من أن “يتضاحك.” وانتهى بأن يقول “في تلك الليلة شعرت بخجل عميق. قلت لها وأنا أعلم أن منطقي أعرج وحجتي جوفاء، أنت تعلمين أننا حين ندخل اليونسكو، كما في المنظمات الدولية، نقسم أن نكون محايدين ولا نتدخل في شؤون الدول الأعضاء في المنظمة.” ولكنه كان يعلم، كما يقول، بأن ذلك ليس صحيحا، وأن السبب الحقيقي هو “من يطعم الزوجة والعيال، ويدفع أقساط المدارس والجامعات؟ كل هذه الأشياء الصغيرة أم الكبيرة التي تكبل الإنسان بقيود يشتد وثاقها يوما بعد يوم، وتجعله يصمت حين يجب عليه أن يصرخ، ويذعن حين يتحتم عليه أن يرفض.”
قد يكون قدر الإنسان العادي الانشغال بإطعام الزوجة والعيال ودفع أقساط المدارس والجامعات، ولكن هذا لا ينبغي أن يكون قدر الكاتب والفنان. وهذا هو الفارق بين الطيب صالح وكاتب مثل ولي سوينكا نهض في مواجهة الطغمة العسكرية في نيجيريا لأنها تمارس السلب والنهب وتصدر أحكام الإعدام على صغار اللصوص وتغض الطرف عن كبارهم. ولذلك دفع الثمن كاملا، كما ظل يفعل دوما، دفاعا عن مواقفه ومبادئه. ورمت السلطات النيجيرية بسوينكا في غياهب السجن الانفرادي حيث ظل لمدة خمسة وعشرين شهرا بقصد تحطيمه ليس فقط كفنان، وإنما أيضا كإنسان. ولكي يحتفظ بعقله ويحافظ على إنسانيته كتب في مخيلته وعلى بعض قصاصات الورق “مات الإنسان”. والإنسان الذي مات، كما يقول سوينكا، ليس السجين وإنما الذي يحرم الإنسان من حقه في الفكر والقول والفعل. وعلى نقيض ذلك صمت الطيب صالح عن جريمة اغتيال مفكر. “تضاحك” والحبل يلتف حول عنق شيخ يناهز الثمانين، وعاد إليه بعد بضع سنين ليقدم نموذجا آخر للإخفاق في عملية التعامل الجاد والمنهجي مع جدلية التاريخ والسرد والوعي السياسي. ويزيد من وطأة ذلك الإخفاق أنه تحول إلى مساهمة إضافية في مشروع “إطعام الزوجة والعيال ودفع أقساط المدارس والجامعات.” وأكثر من هذا سخرية ومرارة أنه في الوقت الذي يتأسى فيه الطيب صالح على الأشياء التي “تجعله يصمت حين يجب عليه أن يصرخ، ويذعن حين يتحتم عليه أن يرفض” فإن لجنة تحكيم “جائزة محمد زفزاف للرواية العربية” وجدت لديه ما يكفي للإشادة بدفاعه “الضمني والمباشر عن التعددية وقيم الحرية والعدالة الإنسانية.”
والمقتبس الأخير لا يعدو أن يكون نزرا يسيرا من حيثيات منح “جائزة محمد زفزاف للرواية العربية” للطيب صالح. وتمضي الحيثيات لتؤكد “نجاح الطيب صالح بمعظم رواياته في تكريس الهوية المحلية والحرية المنفتحة على آفاق كونية رحبة. – تمثل الروائي لروح العمل الفني ورسالته واتقانه المتفوق لأدواته وفق المقاييس والامكانيات التي تضعه في مصاف كبار الروائيين العالميين. – تفوق المبدع في التعبير عن ضرورات التسامح، وربط تلك القيمة الأساسية في السياق الحضاري بالكبرياء الإنساني الذي يصبح التسامح دونه مجردا من المعنى. – المساهمة المحمودة في إيجاد مزايا لأسئلة الوجود الكوني تساهم دون أن تقطع باليقينيات في إغناء الفكر والشعور. – الحفاوة الفائقة بالفرح والسلام الداخلي، وكافة أوجه التألق المغتبط الذي يعلي من شأن الكرامة الإنسانية ومنجزات المعرفة.” والطيب صالح يستحق أن يفوز “بجائزة محمد زفزاف للرواية العربية” وغيرها، ولكن ليس استنادا على مثل هذه الحيثيات التي تنطبق على كل كاتب ولا تنطبق على أي كاتب في ذات الوقت. وإذا قارنا هذه الحيثيات، وهي أهمها فقط، كما ورد في صحيفة “الشرق الأوسط” بتاريخ 8/8/2002، بحيثيات منح جائزة نوبل للآداب لبعض مستحقيها للمسنا الفارق بين ما يستطيعون وما لا نستطيع. فالغربيون يستطيعون ليس لأنهم جماعات أكثر خصوصية، ونحن لا نستطيع ليس لأننا جماعات أقل خصوصية، وإنما لاختلاف بيننا في أساليب البحث والرصد والمتابعة. فبينما يؤسس الغربيون معارفهم وأحكامهم على قواعد التراكم والتعددية، نؤسس نحن معارفنا وأحكامنا على قواعد التكرار والتبعية، ونعول كثيرا على العنعنة التي هي عندنا ليست فقط دليل إثبات، وإنما أيضا أسلوب حياة ونهج ومنهجية.
وعودة إلى حيثيات نوبل للآداب نجد أنها تقول في حال غابرييل غارسيا ماركيز “لرواياته وقصصه القصيرة التي يجتمع فيها الخيالي والواقعي في عالم ثري من مكونات الخيال لينعكس في حياة قارة بأكملها.” وفي حال ديريك والكوت “لإنتاج شعري عظيم الجلاء نجح في تكريس رؤية تاريخية ناتجة عن الإلتزام بالتعدد الثقافي.” وفي حال نجيب محفوظ “لأنه استطاع من خلال أعمال عامرة بالتميز، تبدو واضحة في واقعيتها حينا ومستثيرة في غموضها حينا آخر، صياغة سرد عربي في متناول جميع البشر.” ثم أنه لو أعدنا قراءة حيثيات جائزة محمد زفزاف مقارنة بحيثيات جائزة نوبل للآداب لأدركنا مدى هلامية وترهل وتهاون النقد العربي الأدبي وتجاوزاته المسؤولة عن توليد ورعاية أجواء الوثنية الثقافية التي تصنع أصناما يسجد لها ويسبح بحمدها الخاصة قبل العامة.
إن الذي تتضمنه الحيثيات المشار إليها من عبارات عبثية مثل “ربط تلك القيمة الأساسية في السياق الحضاري بالكبرياء الإنساني الذي يصبح التسامح دونه مجردا من المعنى”، وبهلوانيات لفظية على غرار “لقد كان شرق الطيب صالح وغربه وشماله وجنوبه هو الإنسان”، وأوهام رغبوية مثل “وهذا يعطي لأعماله الروائية كعرس الزين، وموسم الهجرة إلى الشمال، وبندر شاه نكهة عالمية ساعدت على ترجمتها -الروايات- لكل اللغات”، قد يوفر مادة طيبة للحديث بين الأصدقاء في المقاهي والصالونات الأدبية، ولكن لا يصمد أمام الفحص النقدي الصارم. إن “عرس الزين” ليست رواية. بل أن “موسم الهجرة إلى الشمال”، وفقا للقياسات السردية، ليست رواية novel وإنما هي novella. و”النوفيلا” شكل سردي له وجود في الأدب العربي ولكن ليس له مسمى. ومن نماذج هذا الجنس الأدبي “قلب الظلام” لجوزيف كونراد، “العجوز والبحر” لإرنست هيمنغوي، و”المسخ” لفرانز كافكا، و”موت في البندقية” لتوماس مان، و”رجال وفئران” لجون شتاينبيك، و”الغريب” لالبير كامو ، وجميعها أعمال أدبية متميزة ولكنها ليست روايات وفقا للتصنيف الأدبي الذي يؤسس وصفيا، وليس معياريا، مستندا على الطول الذي يتراوح عادة بين 30 و50 ألف كلمة. وتتبع “موسم الهجرة إلى الشمال” في هذا التصنيف “ضو البيت” و”مريود”. ولهذا إذا أراد المرء أن يعلق على “عبقرية” النقد الأدبي العربي، فيمكنه أن يقول مازحا وساخرا في ذات الوقت إن “عبقري الرواية العربية” لم يكتب رواية واحدة.
وإذا كان غياب المصطلح العربي novella يفسر الخلط غير الدقيق بين الأجناس الأدبية، فإنه ليس هناك ما يبرر الادعاءات المضللة مثل “ساعدت على ترجمتها – الروايات – لكل اللغات.” وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى أن رواية باولو كويلو “الخيميائي” تعدّ أكثر الروايات المعاصرة ترجمة حيث أنها ترجمت إلى بضع وسبعين لغة حتى الآن. ولكن إذا وضعنا في الاعتبار أن لغات العالم المكتوبة تقارب 4000 لغة، فإن أكثر المتحمسين لباولو كويلو لن يحلم بأن رواياته ستترجم لكل اللغات.
وبعيدا عن فلتات وانفلاتات النقد العربي نجد أن دروب الطيب صالح وسوينكا ظلت تتقاطع لتظهر تباينا بينا بين تجليات التفاعل واختلافات المواقف عندهما، وفي الحالين يحدث ذلك وفقا لجدلية التاريخ وتنويعات السرد واختيارات الوعي السياسي. وموقف الطيب صالح من سوينكا يقدم نموذجا آخر على عدم قدرته استيعاب الدلالات التاريخية للأحداث حتى عندما تدور في فلك اهتماماته. فعندما منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم ولي سوينكا جائزة نوبل للآداب في 1986 لم يستطع الطيب صالح أن يحتفي بفوز أول إفريقي بالجائزة، بل أنه لم يستطع أن يخفي امتعاضه لذلك، وراح يحط من قدر سوينكا من خلال مقارنته بمن يرى أنهم أفضل منه على الساحة الإفريقية. وبعد إشارات مبهمة إلى أشيبي ونقوقي مضى ليؤكد في عنصرية لا تكاد تستر سوأتها أن “ذلك النيجيري” لا يستحق الفوز بالجائزة. ومن المدهش حقا أن الطيب صالح رأى أن غراهام غرين، رجل المخابرات البريطانية، أجدر من سوينكا بذلك التكريم. وفي سرد لاحق له عن جائزة نوبل يقول: “الأستاذ نجيب محفوظ كان يستحق الجائزة، وأعماله الروائية خير دليل على ذلك، أما الجائزة نفسها فقد نشأت في الغرب، وموجهة في الأساس إلى الإبداعات الغربية، وعندما توجه إلى الإبداعات العربية أو الإفريقية فهذا يكون شيئا عارضا.. وهي تخفي دائما وراءها أبعادا سياسية.”
ومع يقين الطيب صالح بوجود أبعاد سياسية متخفية للجائزة فإنه لم يتفضل بتوضيح “الأبعاد السياسية التي تختبئ” وراء فوز محفوظ وقورديمار وكوتزيه ووالكوت وماركيز بالجائزة. ومع ذلك فإن ما قاله أعطى ببغاوات النقد العربي الجرأة على أن يخوضوا فيما لا يعرفون. ومن أولئك جاسم المطيري الذي سارع بعد تقديم تهنئته للطيب صالح بجائزة “ملتقى القاهرة للإبداع الروائي” في 2005 إلى أن يلفت الانتباه إلى “دور بعض المؤسسات الصهيونية في بعض قرارات المحكمين، وحرمان الكاتب العبقري العالمي ليو تولستوي من جائزة نوبل هو خير مثال بسبب أفكاره الروائية والسياسية المناوئة للعنصرية الصهيونية.” يقول المطيري هذا غافلا عن أن أفكار تولستوي السياسية تعد من روافد الفكر الصهيوني. ويمكن للباحث الجاد أن ينظر إلى ذلك في كتاب عموس أوز “قصة الحب والظلام” الذي يزاوج فيه بين أفكار تولستوي والصهيونية، أو إلى كتاب ولتر لاكوير عن تاريخ الصهيونية والذي تكفي قراءة عنوانه للتدليل على وجود تلك العلاقة: “تطور العمل الصهيوني: من تأثير تولستوي إلى الكيبوتز الإسرائيلي.”
ويمكن القول إن الفرق بين روايات الإمبراطورية التي ترُد على المركز، وتلك التي يستنطقها المركز، هو الفارق بين نهجين، أولهما يتعامل مع السرد كوسيط للوعي يضرب بجذوره عميقا داخل معطيات التاريخ والأيدلوجيا، ويحاول جاهدا أن يمضي إلى ما هو أبعد من مجرد رصد الحقائق التاريخية المتناثرة والمواقف الأيدلوجية المبتسرة. وهذا لن يتأتى إلا من خلال توفير مرجعية تحتوي على رؤية فنية تنجح في تطوير التداخل والانسجام والتنافر بين التاريخ والسرد والوعي السياسي، وتحتويهم في الوقت نفسه. أما النهج الثاني فيراود فيه السرد بلا انقطاع هواجس التأويل وتهويمات التخمين، وتراوده هي الأخرى حتى تقنعه بأن يضع مسئولية التفسير على ناصية الحدس. والآن مع بلوغ هذا السرد نهاياته لا بد لي من التنويه إلى أن التصدير الذي وضعته على رأس المقال مأخوذ من كتاب فردريك جيمسون “اللاوعي السياسي: السرد كفعل اجتماعي رمزي” The Political Unconscious: Narrative as a Socially Symbolic Act وقد فضلت اللاوعي على اللاواعي كترجمة لكلمة Unconscious لأنها تحمل الدلالات التي تنسجم مع ما تنشده حججي ونواياي.
وعلى الرغم مما حققته “موسم الهجرة إلى الشمال” وما ستحققه، فإنها تظل في تقديري نسيجا بديعا يمتلئ بالثقوب. فبالنسبة لرواية يحمل اسمها دلالات جغرافية، تترك الأخطاء المكانية شعورا أقل ما يوصف به هو عدم الارتياح. فعندما يقول الراوي “كان المأمور يغط في نوم مريح حين مر القطار على خزان سنار الذي بناه الإنجليز عام 1925 متجها غربا إلى الأبيض.” لا تدري أي خيار تختار: اتهام الراوي بالكذب أم رمي الروائي بالإهمال؟ ذلك أن القطار في رحلته من الخرطوم إلى الأبيض لا يمر على خزان سنار، ولا يعبر النيل الأزرق.
أخيرا، قد يكون مناسبا ومن قبيل الاعتذار لجوزيف كونراد – الكاتب البريطاني الجنسية والبولندي الأصل كما يحلو للنقاد العرب أن يستهلوا حديثهم عنه – والذي تعود المهتمون بالخطاب ما بعد الكولونيالي أن يغلظوا عليه، أن أسوق بعض ما قاله مع اختلافي معه: “على الذي يريد أن يقنع الآخرين أن يضع ثقته ليس في الحجج الصحيحة، وإنما في الكلمات المناسبة، إذ إن شدة الأصوات تظل دائما أعظم تأثيرا من قوة الحجج”.
لقد حاولت خلال هذا المقال أن أضع ثقتي في الحجج، وأن أكبح جماح الأصوات، أو هكذا أظن. ثم إن لهذا المقال غايات أخرى أهمها التدليل على أن هنالك ضرورة لمحاولة تقديم قراءات سودانية فاحصة لرواية “موسم ألهجرة إلى الشمال” تتجاوز قراءات النقاد العرب الذين يعرفون قليلا عن الأدب، ولا يعرفون شيئا عن تاريخ السودان أو جغرافيته أو إنسانه. فالراوي في “موسم الهجرة إلى الشمال”، من دون قصد من المؤلف، غير موثوق به، والبطل لا يُعتد بمزاعمه التحريرية، والوعي السياسي عند المؤلف يتأرجح بين غواية السرد وصرامة التاريخ.
أحمد حسب الله الحاج، أستاذ سابق للأدب الإفريقي بجامعة نوتينغهام ترنت بالمملكة المتحدة.