صدر قبل أيام كتاب صديقنا الأديب المبدع والمترجم الحاذق محمد حمد مفرح (سحر المكان) ومن اسمه تعرفونه، وهو كتاب ضمن سلسلة كتب بشرنا ود حمد بنشرها تباعا.
وللمكان في هذا الكتاب سحره وألقه وطعمه إنه عند الكاتب سفينة للعبور بالمعاني الى الماورائيات وموجه تحمل الآمال وبساط ريح يقطع البحور ويطوي الفيافي ويتجاوز الرقابة ليصل بنا إلى حيث نرغب ونسعى.
ومع أن الكتاب ذكريات (ود حمد) نفسه ولكنه يبدو وكأنه ذكريات من يقرأه فلطالما حاول الكاتب توحيد الفرح والحزن أو مزجهما معا في سطوره وخاصة جذبنا الى الحنين للمكان وللأفراد وللناس. وفي كل كان متميزاً لحد التفرد والتجاوز، وخاصة في عدم التكرار وبالذات عندما ينقل القارئ من مكان لأخر، وكانه يحاكي القماري في الرحيل ويردد الغناء والموال والرمية والنم وعندما يقترب بالتأمل من القمر ويستغرق القارئ في الذكريات قديمها وحديثها فيما يشبه جدل الواقع والخيال، إنه يفرض علينا أو على ذاكرة هربت منا التحديق في المرآة لرؤية التناقضات في مراحل العمر.
ود حمد حين يستعيد تلك الرحلات يذهب كل مذهب في الإنسانيات السودانية ولكنه تميز باستخدام مهاراته الأكاديمية وخاصة بداياته في الأدب والمسرح الإنجليزي ما انعكس ارتفاعاً في قامته الإبداعية وتجاوزاً سامقاً فوق العادي والمتاح في طرحه لأدب الرحلات في سوداننا.
هكذا باتت حروف ود حمد شاهقة المعاني، لا يطالها مقلد، ولا يحد ارتفاعاتها سقف، حتى يتبدى أن ود حمد يحاول مغافلة الرقابة فيرفع من جرعات التحليق بعيداً في فضاءات تحتاج لأكسجين معرفي لاستيعابها.
وبعيداً عن التحيز العاطفي لكتابات ود حمد، فإن سحر المكان من المؤلفات السودانية النادرة التي جسدت معانى أدب الذكريات والرحلات، فضلاً عن الإبداع في توثيق الإنسانيات السودانية إن شئت.
السودانيون الذين كتبوا عن المكان أخذهم دائما الحنين الحزين، وكانوا يشبهون في ذلك بعضهم بعضاً ولكن(ود حمد) كسى حروفه وموضوع كتابه بالبساطة التي تحاشت الابتذال، فحلق بنا في صحراء التيه السودانية الحقيقية والمتخيلة، وحاول تنويع ما تناول وفق قراءة تأملية عميقه لمعنى الأسفار ومعاني الرحلات و الزيارات الاجتماعية، التي تحولت الآن لذكريات ينقلها سواء إبان دراسته الثانوية والجامعية وأثناء حياته العملية في السودان، أوفي بلاد الاغتراب.
الكتاب يشبه ميلودراما أخاذة لحد الإدهاش، فهو يأخذك في أحلام شاب يدرس في خورطقت، ثم تأملات ورحلات وطموحات شاب جامعي يبحث عن الحقيقة والأحلام المتكسرة ويحاول كتابة القصة ثم الرواية فالشع،ر لا عجب ان يحلم فقد زامل المبدعين من جيل الثمانينات الذين غنى لهم سيف الجامعة، الذي زامل الكاتب في جامعة الخرطوم.
ثم ينقلنا الكاتب إلى بيئة عربية مغترباً هذه المرة بالسعودية، وجماليات مدينة ابها عروس الجنوب، و التي قضی بها حوالی ثمانية و عشرين عاماً، ثم إلى مصر، فالبحرين وفي كل يأسرنا بسحر المكان ولغة الكاتب وبجماليات الطبيعة التي رسمها بكلماته ونسج مشاهدها وصور جمالياتها المبهرة بعباراته، موثقاً للكثير من المواقف والأحداث التي ظلت محفورة بذاكرته.
ود حمد في هذه اللونية من الكتابة اعتبره من أفضل الذين قرأت لهم وخاصة في محاولته كسر الرتابة والمحاكاة والنقل، ولهذا حرر أدب الذكريات والرحلات والإنسانيات السودانية من قيد الشكل والكليشيهات السمجة.
ود حمد في كسره لهذه النمطية يقترب من الناس، ومن الأماكن، فنسمع الحكايات ونعيش معه وأبطاله أحلامهم وذكرياتهم وانكساراتهم وتكسر النصال فوق بعضها. وبين هذه وتلك يمسرح ود حمد الأحداث، فيبدو المشهد مثل وردة أو نسمة أو ينتقل به بين خطوط الطول والعرض، وكل ذلك في سطر أو جملة أو عبارة ،تجمع الخريف إلى الشتاء والصيف في أم درمان، حيث كلية التربية إلى مراتع الصبا في الخوي وعيال بخيت وأم كريدم وارفع صدرك وأبو حراز أو صقع الجمل وأم كدادة.
ومثلما حذق الكاتب في المقال الصحافي وأبدع في الترجمة على طول وعرض ربع قرن من الزمان فلا عجب أن يأخذنا بالدهشة في سحر المكان ولن أضيف لأن القراء يعرفون ود حمد من مقالاته الراتبة بصحيفة الخرطوم خلال العقدين الماضيين.
كما أنه عرف بإيجازه البليغ في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ناشط بموقع النهود الالكتروني السابق وبموقع أحد مراتع الصبا التي كست سحر المكان بذكريات دار حمر، حيث ظل المكان يرحل معه على نحو ما ترحل عصافير الخريف وقد أثرى شتی المواضيع، وعطر وسائل التواصل الاجتماعي وعشرات المجموعات والصحف الالكترونية كـ”التحرير” فضلاً عن الراكوبة وسودانايل.