في لغة أهل السودان.. إبدال بعض حروف الكلمة. وإحلال بعضها.. محل البعض الآخر.. تولد كلمة جديدة تماماً.. قد لا ينتبه كثيرون إلى أصل الكلمة الجديدة. وكلمتنا اليوم.. مصدرها.. بله… بفتح الباء واللام.. والبله هو قلة العقل.. وضعف الفهم وسوء التصرف.. والوصف أبله.. وهو “العبيط.. العوير” ..الغافل.. غير المدرك تماما.. لما يدور حوله من أحداث.
وقد اشتهر كثيرون بالبله.. وقلة الحيلة منهم.. هبنقة.. وباقل وغيرهما.. ويحكى أن هبنقة هذا.. ربط في عنقه عقداً من خرز.. ولما سئل عن ذلك.. قال إنه يعيش مع مجموعة من الناس.. واراد بذلك أن يعرف نفسه من بينهم!!
اما باقل.. فيكفيه شهرة أن ذكره الشاعر أبو العلاء المعرى.. في أشهر قصائده..
إذا وصف حاتماً بالبخل.. مادر..
وعير قسا بالفهاهة باقل..
فاذا كان حاتم الطائي مضرب المثل في الكرم.. وقس بن ساعدة الأيادي.. مضرب المثل في الفصاحة.. و البيان والبلاغة.. فمادر.. وباقل.. هما.. مضرب المثل في البخل.. والعي على التوالي..
أهل السودان يبدلون الحروف.. فتصير بله.. هبلا.. والأبله هو الأهبل.. والجمع هبل.. بالضم في الهاء والباء.. والمصدر.. هبالة..
والاستهبال.. (الاستبلاه) هو التعامل مع الآخر بحسبانه..أهبل..غافل.. يسهل.. غشه.. وخداعه.. والتمويه عليه.. وتمرير كل ما يراد منه.. وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.. فالشخص المستهبل.. يرى فى نفسه ما لا يراه فيه الآخرون.. فيكون فى كثير من الأحيان يلعب على المكشوف..(الفى الدبة بشوف البدى!!) بتشديد الدال في كليهما..
كثيرون من المسؤولين.. يبادلون المواطنين.. لعبة “الاستهبال”. والفهلوة المكشوفة.. بعض ممثلي المواطنين في المحافل العامة.. يمدحون المسؤول في حضرته بما ليس فيه.. طبعاً يقولون عنه في غيبته.. ما لم يقله المهدى فى التمباك.. وفى المقابل يعدهم المسؤول.. بما لا يلتزم بتنفيذه.. وكلاهما يعلم أنه يكذب على الآخر.. فالكذب لا يخنق كما يقول المثل.
يحكى أن أحد شعراء البادية..(هداى) بتشديد الدال.. قد مدح أحدهم وبالغ في الوصف أملاً في عظم الهدية.. فقال له الممدوح.. بعد ان أكرم ضيوفه..(باكر إن شاء ألله نديك ثوراً)..فبات الهداى ساهراً ..يتقلب انتظاراً للفجر ..الذى تطاول ليله.. وفى الصباح استعجل الهداى الرحيل وعينه على زريبة البقر.
فاذا بالمضيف يقود “عتوداً” صغيراً.. هدية للهداى.. الذي خاب ظنه.. واكفهر وجهه .. من هول ما رأى.. فقال للمضيف..(يا اخوى انت قلت.. بتدينى تورا) فقال له المضيف انت البارحة قلت ( كضب )وانا( كمان قلت كضب) فأيهما..استهبل على الآخر؟!! والأمثلة فى الاستهبال السياسى..لا تحصى ولا تعد. .يكفى أن يسأل المسؤول المواطنين..هل حصل كضبت عليكم؟ فيجيبونه..ضحكا ًعالياً.
لقد حسم.. الإمام على كرم وجهه. من حاول أن يستهبل عليه.. بالمبالغة فى اظهار فضائله.. فقال له الامام.. مهلا.. (انا دون ما قلت.. وفوق ما في نفسك..) فصمت الذي نافق.
ويلخص أهلنا في شمال الوادى.. علاقة الاستهبال بين المواطن والمسؤول..(يستقبلون المسؤول.. عند تعيينه..(بالورود ..ويودعونه عند عزله ..بالطوب)..فالمهم هو الموقع وليس الشخص.
إن التكلف.. والتملق والنفاق ..والتزلف و”الدهنسة”.. ومسح الجوخ.. والأحذية.. من علامات الاستهبال و الاستخفاف والفهلوة.
وقديما قالوا.. كلهم يمشى رويدا..ي طلب صيدا..الا عمرو بن عبيد.. واين عمرو بن عبيد الزاهد.. فى زماننا المستهبل هذا.
كان هامان يريد أن يوهم أهل مصر.. بعد أن اوهم فرعون.. بأنه هو ربهم الأعلى.. والغريب أن الكذبة الكبرى قد صدقها فرعون نفسه! فقال ممتنا على هامان..ذات يوم .. كما تقول الروايات.. (راسك الكبير دا.. يا هامان ..اتعبنى كثير عندما كنت اخلق فيك)..فتبسم هامان ساخرا..وقال.. على هامان يا فرعون!!!
لقد استخف فرعون قومه فاطاعوه.. فاوردهم المهالك..وهذا مصير كل من استخف قومه واستهبل عليهم فاطاعوه..
وفى أزمنة الاستبداد.. يكثر المدعون “المستهبلون” من الدجالين والمتشعوذين.. الذين يزعمون.. كذبا.. بأنهم يمكنون لمن اراد الحكم ويشفون المريض.. ويضاعفون مال.. من يريد الغنى ويجلبون النصر للفرق الرياضية والعرسان والعوانس ويثبتون الموظفين في ومواقعهم.. فتزدحم مجالسهم.. بضعيفى الايمان ..من نائمى الهمة.. يقظى الهوى.. فاقدى الثقة فى أنفسهم..فيتبادلون معهم الغش و”الاستهبال” فتمتلئ جيوب الدجالين ..فكيف يعطى الفقير المعدم.. السلطة.. والمال والجاه.. والشفاء. لغيره وهو الأحق بها.. لو كانوا يعلمون.. طبيب يداوى الناس وهو عليل.. ويعطى المال وهو فقير.. ويعطى الجاه والسلطان وهو حقير!!!
وهو يسخر منهم ويضحك عليهم ..في سره…(مال ساقه لي كريم.. من غشيم).
و”الاستهبال” ليس حكراً محصورا على الثقلين.. الانس والجن.. ولكن هنالك مستهبلون من الحيوانات.. والطير..
من الحيوانات ذكروا الثعلب بمسمياته المتعددة.. بعشوم..أبو حليمة.. بأنه ذكي و”مستهبل”.. ويعرف من أين تؤكل الكتف.. يزعمون أن الأسد..ملك الغابة..طلب من الذئب .. وهو مشهود له بالغفلة ..تقسيم ..صيد ذلك اليوم عليهم الثلاثة)الأسد..الذئب .. الثعلب.. فقال الذئب الغافل.. الثور لك..والحمار لى.. والغزال للثعلب..فغضب الأسد من هذه القسمة الضيزى..وهجم الأسد عليه..ومزق مؤخرته.. فافلت بأعجوبة.. والدماء تسيل على رجليه.. يتلوى من الألم.. ويحمد الله على السلامة.. والثعلب الماكر يرمقهما من طرف خفى.
ولما أمره الأسد ان يعيد القسمة..قال الثعلب.. الثور لفطورك.. والحمار لغدائك.. والغزال لعشائك..تبسم الأسد.. وقال له..من علمك هذه القسمة العادلة..ر د الثعلب بمكره المعروف.. تعلمتها من صاحب السراويل الحمر!! أو كما قال..
*سياسي قيادي وكاتب