قال تعالي: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * (العلق: 3-5).
القارئ الكريم، أرجو أن نعطي لأعيننا بعداً آخر يجوب بها على مراكب ما وراء البصر لكل ما تقع عليه من حولنا، فنتعلم منها ما لم نتعلمه سابقاً.
أقول: علمني الكتاب أنه بإمكانك السفر إلى عوالم وثقافات مختلفة، وأنت في مكانك. إنك ستجني من ذلك السفر سفراً آخر في أعماق ذاتك، خصوصاً إذا كنت منتشياً في السفر الأول؛ ولذلك اجعل من عقلك مطاراً تكثر فيه تلك الرحلات الداخلية والخارجية.
وعلمني الكتاب أن بين دفتيه تجد الغالي والنفيس، وخصوصاً إذا كنت من الماهرين في انتقاء تلك الدرر، وإذا كنت أكثر مهارة بأن تباشير بعد الانتقاء بتزيين حياتك بما انتقيت، لتضفي لك قيمة، فابدأ فيه من اللحظة.
والتعلم لا يأتي بالسكون والخمول، بل بالجد والاجتهاد والحركة، فلا تستطيع التعلم منه من دون تحريك أوراقه؛ ليؤكد لي أنه بالفعل “الحركة بركة”، فعلى قدر جهدك وعطائك سيكون حصادك.
وعلمني أيضاً أنه حين تتعارك أفكارك وتتشاكس لتصفو فكرة مبدعة، فثق أن من حولك لن يعلموا بما حدث خلفها، فحين تتراقص نظراتك بين أسطر الكتاب متمتماً هامساً أو معبراً عن شدة اعجابك به، فتأكد إن ما وصلك هو النهاية التي تصارعت قبلها أحلام البداية، فكن كالكتاب ظاهرك مشرق وخافيك مغلق، فالبشر لا يحتملون الهم والقلق.
كما علمني الكتاب أنه بحر لا مرفأ له، لجته العقل وساحله الفكر، ولكي ترسو عليك أن تنشئ ميناءك بنفسك. قد تنسب كلمات الكتاب إلى بنات أفكار أحدهم، ولكن فهمها ينسب إليك، هكذا تكون حياتك، كن ميناءً نابضاً بالخير لكل من يرسو معك. فأنت من تحدد أسلوب فهمك لغيرك.
علمني الكتاب أنه جواز لا تأشيرة له، ولا مقامات، ولا دبلوماسية، كذلك هو الكتاب، فما ينبس عن شفتي فقير قد لا ينبس من شفتي غني، وما يولد تحت قلم طالب قد لا يولد تحت قلم أستاذ، وقد يكتب من تحت الحصار والحرب والسجن ما لا يكتبه من ينعم بالحرية والسلام والأمن؛ فلتكن أفكارك كتاباً للناس تروح بالخير، وتغتدي بالخير، مهما كنت في شدة وضير.
كما تعلمت أن كل فكره وليدة لحظة قد تكون إلهاماً أو نتاجاً لظروف معينة قد تراها عابرة، لكن إن راعيتها ومنحتها اهتماماً قد تتمخض عن سماوات من الإبداع.
فالكتاب فكرة رعاها كاتبها، فأثمرت أدباً أو حياة أو عبرة، فلا تستهن بفكرك، فقد يبهر غيرك، وينظم حياة كانت تائهة المسلك.
فالحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم.