على الصعيد النظري، وبحسب الأعراف والسوابق الدولية، ليس هناك شيئ يُؤخذ على تهجير مقيمين أو حتى مواطنين في دولة ما إلى دولة أخرى بما يُحقِّق مصلحة البشر والدولتين معاً، ففي عهد الرئيس جمال عبدالناصر جرى ترحيل ألوف الفلاحين المصريين مع عوائلهم إلى أستراليا بغرض الإستفادة منهم في زراعة المساحات الشاسعة للأراضي في أستراليا التي كانت – ولا تزال – تُعاني نقصاً كبيراً في عدد السكان قياساً بمساحة الأرض، وعاد ذلك بالفائدة على أستراليا والفلاحين المصريين بأن أتاح فرص تعليم وحياة أفضل لأولادهم وأحفادهم، وهو نفس الأساس (نقص السكان) الذي يجعل دولاً أخرى مثل كندا ونيوزيلندا تفتح أبوابها لإستقبال راغبي الهجرة من مختلف بلاد العالم.
والحال كذلك، فأين تكمن القضية في توطين بضعة آلاف من جماعة “البدون” الكويتيين بحيث أصبح ذلك حديث الساعة!! وما الذي جعل جماعة “بدون الكويت” يرفضون جنسية وجواز سفر السودان بالحد الذي جعلهم يخرجون في مظاهرة إحتجاجية، وجعل السودانيون يقابلون هذا الخبر بسخرية واستنكار!!
السبب في ذلك أن “بدون الكويت” يعلمون حقيقة أن معظم سكان السودان الأصليين هم أنفسهم من “البدون”، يعيشون بلا حقوق في العمل بالوظيفة العامة وبلا حريات، وأن وثائق الجنسية وجوازات السفر التي لديهم يحتفظون بها في “الدواليب”، وأن غاية ما يتمناه شخص من “بدون” الداخل وهو صاحب شهادة عليا وخبرة عملية في مجاله، هو أن يحصل على “فيزة” راعي بهائم بأي دولة خليجية مثل الكويت. وفي هذا العالم الذي أصبح صغيراً مثل قرية، لا بد أن يكون “بدون الكويت” قد علموا حقيقة أن الشعب في الوطن الذي يريد أن يأويهم لا يتساوى في الحقوق والواجبات، والصحيح أنه يوجد به شعبان، شعب كادِح يقوم ب (الواجب)، وآخر من أبناء النظام ( نظام الرئيس عمر البشير) ينفرِد بـ (الحقوق)، شعب عليه واجب تعبئة خزينة الدولة بالأموال، وشعب آخر ينفقها على نفسه، وهم يعرفون أن التلميذ والتلميذة من “بدون السودان” يجلس بمراكز الإمتحانات في العراء الطلق على قالب “طوب” تحته وآخر أمامه يكتب عليه، ورأوا بالصورة والصوت كيف يقوم الجنود النظاميون بجلد “البدون الأصليين” من الرجال والشيوخ بالسياط في قرى دارفور أمام زوجاتهم وبناتهم وهم مُستلقون على بطونهم بهدف إنتزاع إعترافات جنائية.
الذي جعل “بدون” الكويت يرفضون الجنسية والإقامة في السودان، أنهم على دراية بأنه لا قيمة لحياة الإنسان من أبناء “بدون الداخل”، وأن الواحد منهم إذا خرج في مظاهرة سلمية مطلبية مثل التي خرج بها “بدون الكويت”، سوف يتلقفه شبح مجهول برصاصة على رأسه أو قلبه ويموت في ثانية زمن، وهم (أعني بدون الكويت) يعلمون أن “البدون الأصليين” في السودان معظمهم ضحايا ومفصولون، وأن الخريج الجامعي من أبنائه وبناته يهيم على وجوهه “بدون” عمل ولا أمل ولا هدف ولا مستقبل، ويعلمون أن هناك جماعة محدودة هي التي توزّعت خيرات الوطن وثرواته ووظائفه فيما بينهم، يفتك المرض والجوع بـ “بدون الداخل” وتريد منهم هذه الجماعة أن يدفعوا لهم الضرائب و”المكوس” والرسوم لينفقوها على مباهج الحياة، يموت مواطن “البدون” في السودان وهو في عرض مائة جنيه لشراء قنينة دواء، وينفق من يدفع له الضريبة عشرة مليارات في حفل زواج كريمته، ومحنتنا نحن “البدون الأصليون” أن كثيراً من أمثالنا من “البدون” السودانيين قد تم غسل أدمغتهم بحيث أصبحوا يُشاركون هذه العصابة في طغيانها.
أما لماذا إستنكر السودانيون توطين “بدون الكويت” في بلادهم برغم كونه شعب مِضياف وقد سبق أن فتح ذراعيه وأبدى إستعداده لإستقبال الفلسطينين، وكان من بينهم الرئيس ياسر عرفات حينما طُرِدوا من بيروت في العام 1982 ثم علِقوا على ظهر باخرة في عرض البحر المتوسط وهي تسير بلا وجهه، وإنتهى الأمر بإستضافة جزء منهم في السودان وإتجه معظمهم إلى تونس، كما أن الشعب السوداني يستضيف برحابة صدر ويعيش اليوم في أرضه ملايين الأجانب الأفارقة والعرب، ويستطيع الواحد منهم الحصول على الجنسية وجواز السفر بالسهولة التي يحصل بها على شريحة هاتف مُتحرّك أو على شهادة دكتوراه من جامعة محلية، فما الذي جعل الشعب السوداني الطيّب يقبل ملاييين المقيمين من جنسيات أخرى ويرفض بضعة آلاف من “بدون” الكويت !!
السبب في ذلك أنه ومع كون المواطن السوداني لا يرفض الضيف الذي يستجير بأرضه، ولديه إستعداد لأن يُخلي له فراشه وينام على الأرض، لكنه يرفض الضيف إذا عرض عليه مقابلاً للمبيت عنده، ويلفظه لفظاً إذا أبدى الضيف تأفّفه من تواضُع بيته والأثاث الموجود به، أو إستحقر حاله، هذا سبب، أما السبب الآخر والأهم أن الشعب السوداني يعرف أن الذين أجروا هذه الصفقة “نخّاسون” يريدون قبض ثمن هذه الصفقة ويحولونها لمنفعتهم الشخصية وليس لهم علاقة بدواعي الإنسانية، فمثل هذا العدد الذي يريدون معالجة مشكلته من “بدون الكويت” يوجد أضعافه من أبناء الوطن الذين تقطّعت بهم السبُل ولا يُعرَف لهم عنوان، بعضهم في قلب الصحراء وآخرون في عرض البحر ومثلهم بين صخور جبال اليمن.
*مستشار قانوني
saifuldawlah@hotmail.com