شرفني سعادة السفير الدكتور عطا الله أحمد البشير بإهداء كتابه “ذكريات وتجارب دبلوماسية” بما نصه: (أخي مولانا البشرى يسرنى أن أهديكم كتاب سيرتي ومسيرتي الدبلوماسية، وأنت شاهد، وقد تهمك بعض أحداثها، وشكراً . ما أن اطلعت على الفهرست حتى شعرت بأهمية الكتاب، وأني فعلاً قد أكون شاهداً على بعض ما ورد فيه، وحين بدأت قراءته لم أتوقف؛ لأكمل قراءته في ثلاثة أيام، وهو أمر نادر في قراءتي للكتب، مع كثرتها وتنوعها.
سلك سعادة السفير منهجاً جديداً في الكتابة مازجاً بين سيرته الذاتية وتجربته الدبلوماسية؛ إذ خرج بتجزئة ثلاثية للكتاب، اشتمل في بابه الأول على سيرة ذاتية لمسيرته الشخصية، وتناول في الثاني سلسلة من الأحداث المتعلقة بتجاربه الدبلوماسية في الخارجية وسفارات السودان، أما الباب الثالث فاشتمل على تجربته في قيادة منظمة الإيقاد التي عمل بها دورتين سكرتيراً تنفيذياً، تاركاً لكل قارئ الخيار لقراءة ما يستهويه.
استمتعتُ بقراءة الكتاب بأجزائه الثلاثة؛ إذ كُتب بلغة سلسة، واحتوى كثيراً من المعلومات والتحليل المنطقي والموضوعي للأحداث. ولا أشك في أن الكتاب سيكون ممتعاً لكل قارئ مهتم بقضايا الوطن.
في الجزء الأول من الكتاب حول النشاة والتكوين والمسيرة التعليمية وجدت حالة تطابق مع حالة الكاتب ومسيرتي وكثيرين من أبناء جيلنا، جيل الخمسينيات والستينيات في قرى الشمالية التي ننتمي إليها؛ إذ تتطابق إيقاعات الحياة بشخوصها وشخصياتها النمطية وطقوسها في الأفراح والأتراح، ومختلف أوجه الحياة. كما تتشابه دروب المسيرة التعليمية أيضاً، بدءاً من الدراسة في المدارس الصغرى والأولية، ومروراً بالمدارس الوسطى والثانوية، وصولاً إلى جامعة الخرطوم.
إن من يطلع على هذا االجزء من الكتاب من أبناء زماننا سواء كانوا من الشمالية أو أي منطقة في السودان سيجد نفسه فيه، وتعود به الذكريات إلى أيام الطفولة الغضة، ونضرة الشباب، وما يحلو لأبناء جيلنا تسميته بالزمن الجميل.
وقفتُ في أثناء قراءتي لهذا الجزء من الكتاب عند إشارة للكاتب إلى والده، وكيف أن والدته كانت تدلل ابنها وتلقبه (بابو قرطة)؛ تيمناً بتاجر ميسور كان يجوب المنطقة بتجارته بمركب شراعي متنقلا بين القرى على ضفاف النيل.
كانت المفاجأة أن هذا التاجر، وكان يدعى خالد أبو قرطة، من أصدقاء والدي المقربين، ومقيماً بقريتنا (دبتود) شمال دنقلا على الضفة الشرقية للنيل، وكان من كبار المساهمين في شركة تبو ودبتود وحاج زمار الزراعية التجارية المحدودة التي أسسها الوالد مع اهل المنطقة في عام ١٩٤٥م، مع أنه لم يكن من أهل المنطفة الأصليين.
في الجزء الثاني من الكتاب تناول الكاتب سلسلة من الأحداث المتعلقة بتجربته الدبلوماسية في الخارجية وسفارات السودان عكس من خلالها تجربته في العمل الدبلوماسي لأكثر من أربعين عاماً. وقف الكاتب على تجربة حكومة مايو، خصوصاً عند الفترة التي تولى فيها وزارة الخارجية الدكتور منصور خالد، وعدّها من أكثر الفترات استقراراً وتطويراً للعلاقات الخارجية، كما أشار إلى ما أصاب الدبلوماسية من خلل في الديمقراطية الثالثة نتيجة عدم وضوح الرؤية السياسية، وعدم الاستقرار في قيادة وزارة الخارجية، إذ تعاقب على رئاستها عدد من الوزراء قدموا إليها من قيادات الأحزاب في إطار التسويات الائتلافية بين الأحزاب.
وتناول بشئ من التفصيل في هذا الجزء كيف طالت سوءات النظام الحالي، ومعاول هدمه وزارة الخارجية بدءاً بهجمات الإحلال والتمكين، ومنهجه في ظل ما سُمي بالدبلوماسية الرسالية، وما تبع ذلك من طغيان أهل الولاء على العمل الدبلوماسي، والتصفيات بالفصل التعسفي والنقل، وهو ما أورده الكاتب موثقاً بالقوائم في ملاحق الكتاب.
وتناول بالتحليل نتائج تلك الممارسات وانعكاسها على العلاقات الإقليمية والدولية، فكانت قاصمة ظهر لكل بناء سابق للدبلوماسية السودانية المرموقة، وهذا ما أدى إلى عزلة الوطن والخسران المبين.
ولخصوصية العلاقة مع المملكة العربية السعودية إحدى كبريات المحطات الخارجية، تناول الكاتب تجربة عمله هناك بشكل من التفصيل وبجرأة لم يسبقه عليها أحد تحت عنوان (سفير لمهمة مستحيلة)، تناول خلالها بالسرد والتحليل أحداث وأزمات ما خلف الكواليس كانت تدور بين قيادات البلدين؛ ليزيح عنها االستار أول مرة.
وقد أشار إلى صعوبة الظروف التي تولى فيها المهمة، فهي جاءت في ظل تداعيات الفترة اللاحقة لغزو الكويت، وإيواء السودان أسامة بن لادن، والحملات الإعلامية المحمومة على السعودية، واتهام السودان برعاية الإرهاب، ومحاولة اغتيال حسني مبارك.
كشف الكاتب النقاب عن مجموعة من الأسرار حول علاقة الإسلاميين مع المعارضين السعوديين من أمثال د. المسعري المقيم بلندن، والشيخ العودة في الرياض، وكيف أن الترابي وجماعته كان لديهم طاقماً غير دبلوماسي للتنسيق معهم. واحتوي الكتاب على الموقف السعودي من د. حسن الترابي وجماعته والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وموقف الدولتين من بعضهما في عدد من القضايا.
تمت الإشارة أيضاً إلى التسهيلات التي قدمتها السعودية للجالية التي تزعمها معارضون في السعودية، وما اعترى العلاقات السعودية السودانية من توتر، وما بذله من جهد مع الحكومة السعودية، إضافة إلى اجتهاداته في الجانب الشعبي؛ لحل قضايا الجالية، وتمكينها من القيام بدورها، في ظل الممارسات الحكومية لإقصاء الآخر، وتمكين الموالين.
تناول الجزء الثالث والأخير دور الكاتب عندما كان سكرتيراً تنفيذياً لمجموعة دول الإيقاد التي ظل في قلب أحداثها دورتين متتاليين، وهذا مكنه من متابعة مفاوضات السلام السودانية تحت مظلة الإيقاد. تناول الكاتب الظروف والملابسات والتعقيدات الني لازمت المفاوضات، وتذبذب نهج الحكومة في مواقفها، وتبادل رؤساء الفريق الحكومي بدءاً من غازي ونافع ثم محمد الأمين خليفة فمطرف وغازي مرة أخرى؛ لينتقل الأمر في نهايته إلى علي عثمان.
كانت نتيجة كل ذلك الأثر البالغ في مسيرة المفاوضات، وتدويل القضية؛ إذ منحت الحكومة الفرصة لمنظمة الإيقاد للتوسط، بينما كان لكل دولة من دولها خلاف مع السودان، فأصبحت دول الإيقاد هي الخصم والحكم.
وفيما بعد فتح الباب ليلحق بالمفاوضات أصدقاء الإيقاد مراقبين، تلاه انضمام الولايات المتحدة الأميركية وتحول الأصدقاء لاحقاً إلى شركاء؛ ليتوسع التدخل الخارجي بلحاق الصين وروسيا وكندا والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، وبلغ التدخل ذروته بعقد مجلس الأمن الدولي جلسة طارئة خاصة بالسودان في نيروبي في عام 2003م.
ومن أهم النقاط التي تناولها الكاتب الكيفية التي جرى بها إبعاد د.غازي صلاح الدين عن ملف المفاوضات؛ لمواقفه المبدئية من أن حدود الشمال والجنوب المعروفة شرعاً ودولياً في العالم هي حدود 1956م، ورفضه إدراج منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق ومحلية أبيي كجزء من الجنوب.
ختم الكاتب هذا الجزء بإجراء مقارنة بين نقاط القوة والضعف لأطراف التفاوض؛ محدداً إخفاقات الحكومة، وما لحق بالوطن من خسائر، وكيف جاء تقرير المصير كأكبر الكبائر.
إن ما يميز هذا السفر العظيم في مجمله هو جزالة الأسلوب، وذخيرة الحقائق والمعلومات التي وردت فيه، والتحليل الموضوعي والمنطقي للأحداث.
كما التزم الكاتب الجرأة والمصداقية والمهنية وهو يستعرض الاحداث ويحللها، وهو الذي كان جزءاً منها، ولاعباً أساسياً، وصانعاً لبعض أحداثها؛ وهذا ما يعطي أهمية قصوى للكتاب؛ بوصفه وثيقة مهمة لمسيرة السياسية الخارجية، وللدبلوماسية السودانية، وقضايا الوطن، وتشخيصاً يعتمد عليه في أي معالجات مقبلة؛ خصوصاً أن الكاتب طرح في نهاية الأمر كيف يمكن تجاوز القصور، والخلل الذي حدث خلال هذه الأعوام السوداء في تاريخ الوطن.
إن خدمة سعادة السفير الطوبلة في مجال الدبلوماسية السودانية متجولاً بعدد لا يستهان به من البلدان بدأها من محطة الكويت لتتمدد وتشمل عدة محطات في قارات العالم، إضافة إلى عمله في فترات برئاسة الخارجية بإداراتها المتنوعة، وهذا ما مكنه من تقديم مادة قيمة للقراء، وننصح الطلاب والدارسين والمهتمين بالسياسة بالحرص على الاطلاع عليها.