أرى أننا في الوطن، ومن مختلف القوى السياسية والمدنية، نحتاج إلى أن نعي ونتدارس الفهم السليم لأسس استقرار الأوطان، ونحن نتقدم سوياً، لإزالة نظام الإنقاذ، ونضع البدائل له، وقبل أن نحلم بوطن قوي ومعافى.
قديما قيل العدل أساس الحكم. وقد تطورت أنظمة الحكم عالمياً عبر السنين والتجارب الكثيرة، وأصبح ذلك إرثاً إنسانياً موفوراً لكل صاحب بصيرة وضمير سليم.
فبعد أن كان العدل أساسه الحاكم العادل توصل العالم إلى أن الحاكم العادل لا يكفي أساساً وحيداً للعدل. ولا بد من توافر نظام متكامل؛ ليكون أساساً وإطاراً يقوم على قوائم متينة تسند بعضها بعضاً.
ووصلت التجربة الإنسانية والمفكرون في علوم الاجتماع والاقتصاد والادارة والسياسة إلى ما يسمى بأسس الحكم الرشيد، الذي فيه تمييز واضح بين الدول وحكوماتها. وله شروط وقيم محددة لا بد من توافرها.
ومن تلك القيم والشروط وأولها إيجاد وتكوين دولة المؤسسات. إذاً في البدء لا بد من صناعة الدولة ذات المؤسسات الراسخة. والمقصود هنا أن تكون وتؤسس الدولة لتمثل الإطار الاوسع والحاضن الأعم للمواطن، والضامن لحقوقه المتساوية في الكرامة الإنسانية، والخدمات، والمتسعة لطموحاته.
ومن شروط الدولة أن تقوم على مؤسسات قومية التكوين على أساس الكفاءة المهنية، وليس الولاء السياسي أو الفكري أو الانتماء العرقي أو اي اعتبارات غير موضوعية وهازمة لقيم المساواة. ويتم تحديد الترقي في مؤسسات الدولة بقانون ولوائح ومؤهلات حسب نوع المؤسسة.
والشق الاخر في الأوطان هو الحكم، أو السلطة، وهي الجهة المناط بها توفير ما يعين دولة المؤسسات على الاستقرار والاستمرار في تأدية مهامها؛ وفق الدستور والقوانين، وأن تمثل الرقيب على حيادية الدولة، وتعمل على صيانة وحماية الدستور، وتطوير القوانين. وتمارس مهامها في إطار حدود سلطاتها التنفيذية، ووفق برنامجها الذي تنتخب عليه، وبلا تغول على السلطات الأخرى ممثلة في السلطات التشريعية والقضائية والرأي العام.
وعلى كل هذه السلطات أن تتكامل من أجل ضمان استقرار الدولة واستمرارها.
أن يكون الحكم في دولة السلطات المتعددة واحداً من السلطات الأربع، وليس سلطة مطلقة الصلاحيات فوقها جميعاً؛ لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما هو معلوم.
إذاً لا بد أولاً تأسيس دولة المؤسسات، ومن ثم إقامة أسس الحكم الرشيد، وتمكين فرص الاختيار والانتخاب الشعبي، والتنافس الحر، عبر نظام ديمقراطي في إطار دولة المؤسسات؛ حتى يسعد المواطن، ويتم السير الاكيد نحو التطور الأوطان واستقرارها.
ونحن بوصفنا مسلمين نتميز من الآخرين في أننا نمتلك سلطة خامسة غيبية، ولعلها الأهم، ألا وهي الإيمان بالله، وجعله رقيباً على أفعالنا الفردية والجماعية. وهي أداة ردع ذاتية، كفيلة بأن تجعل دولنا أكثر عدلاً واستقراراً وتطوراً، إذا لتزم بها الافراد في أنفسهم، وداخل مؤسساتهم السياسية.
اي اتفاقات للسلام أو مشاركة للحكم في ظل هذا النظام بشكله القائم، لن تحقق أهدافها ولن تصمد في ظل دولة الفرد، والحزب الواحد المتمكنة من الدولة وكل السلطات، إذ لا بد من حيدة الدولة ومؤسساتها الوطنية.
ولا بد من توافر كل أسس الحكم الرشيد قبل الدخول في أي اتفاقات أو حوارات ذات جدوى ونفع.
وأنا موقن أنه في ظل نظام الكيزان المتمكن من الدولة ومؤسساتها والمستغل لها بلا أخلاق أو ضمير؛ وفي غياب أسس الحكم الرشيد، لن يستقر الوطن، ولن يستمر اي سلام يجري التوصل إليه، حتى لو شهد عليه الأنبياء والرسل دع عنك الدول، ولن يتم استيفاء شروط الظروف الموضوعية لقيام نظام ديمقراطي حقيقي في ظل دولة التمكين، ولن ينتهي الفساد مهما كانت الروادع طالما أن هناك أفراداً ومجموعة بل حزباً كاملاً فوق القانون.
ولن ينعم الوطن بالاستقرار طالما أن المرجعية في الدولة لأفراد يمثلون المقرر والضامن الأوحد لحقوق الناس أفراداً أو جماعة، وليس مؤسسات مكفولة الصلاحيات وفق نظام متكامل.
بل يجب أن يكون الحارس للاتفاقات والحقوق القانون والدستور والقضاء الواقف والجالس وحدهما في إطار الدولة القائمة على الدستور والقوانين وفصل السلطات.
لن يستقر الوطن ويبدأ في التعافي ومن ثم التقدم، في ظل غياب دولة المؤسسات، وهيمنة فرد ومجموعة على السلطة والدولة، وبلا انتخاب حر، وبلا مصوغ قانوني ودستوري متفق عليه من جميع الشركاء في الوطن.
إن أي تعامل مع هذا النظام الجائر على أساس أنه يمثل سلطة الأمر الواقع ما هو إلا هروب من المعركة الحقيقية، معركة الشعب السوداني من أجل وطن يسع جميع أبنائه، ويمثلهم بحق وحقيقة.
وطن يجب أن يحتكم فيه الجميع إلى إرادة الشعب، ويرضون باختيار الشعب، بوصفه وسيلة وحيدة مؤهلة للحكم المؤقت.
أي مبادرات او اتفاقات لا تؤدي إلى نهاية دولة الكيزان وتمكين دولة السودان التي يجب أن تقوم على أسس الحكم الرشيد، ستنتهي وتتلاشى، ويغيب دعاتها إلى الأبد، تحت رحمة الكيزان ودولتهم المتجذرة…
الكيزان بدولتهم وأسس حكمهم ونفوسهم الجشعة يجب أن يذهبوا غير مأسوف عليهم. بل أن ذهابهم مختارين أو مرغمين هو الشرط الأول للتعافي الوطني المأمول.
والخير كل الخير في الصمود، وتسجيل الموقف الأخلاقي المحترم في مواجهة هذا الباطل، حتى لو استمر هذا الحال أجيالاً بعد أجيال، ولو لألف سنة. ولكنه بإذن الله، لن يستمر كثيراً؛ لأنه يحمل بذور فنائه بداخله.
وستذهب الإنقاذ اللعينة أسرع مما يتوقعها بعض الناس. ولكنها رغم مرارتها، ستمثل تجربة عظيمة ومفيدة لشعبنا في إطار المساعي الأشمل والاوفق لإعادة بناء الدولة السودانية، وتمكين أسس الحكم الرشيد والمستقر، من أجل خير الوطن والأجيال المقبلة.