نُشر بهذه الصحيفة (التحرير الإلكترونية) بتاريخ 7/4/2018م خبر اكتشاف المجلس الطبي السوداني عدداً من الكوادر الصحية والطبية الذين يعملون بالمستشفى من دون شهادات، إضافة إلى عمل آخرين في مجالات لا صلة لها بتخصصاتهم؛ إذ يعمل تقني تمريض في وظيفة تقني صيدلي، وخمسة يعملون بالأشعة تتنوع تخصصاتهم الحقيقية بين الحاسوب والإنتاج الحيواني، كما أن هناك خمسة آخرين يعملون اختصاصيين في مجال الأشعة لا يحملون رُخص مزاولة المهنة.
هذا المخالفات الخطيرة أصبحت تتكرر في كثير من المستشفيات، ولا يمر يوم دون سماع أو قراءة خبر شبيه، وأشير هنا كمثال صارخ إلى حالة المحتال الذي ظل يمارس مهنة طبيب الجراحة في مستشفى عطبرة سنوات، كما تزامن حادث مستشفى دنقلا مع اكتشاف 158 حالة من المخالفات المماثلة في ولاية الخرطوم منها 70% حالة لغير المسجلين لدى مجلس المهن الطبية و30% لم يجددوا تسجيلهم.
في ظل هذا الكم الهائل من المخالفات والدخلاء على هذه المهنة الإنسانية، لكم أن تتخيلوا الكم الهائل من أهلنا ممن يكونوا قد طالهم الضرر نتيجة ارتكاب أخطاء طبية، ربما أفقدتهم جزءاً من جسدهم أو أُصيبوا بإعاقات دائمة، أو ربما انتقلوا للدار الآخرة نتيجة تشخيص خاطئ أو صرف أدوية غير صحيحة وغير آمنة، أو لإعطاء منتجات دم لا تناسب المريض، أو ضعف الرعاية الصحية التي يقوم بها من هم ليسوا من أهل الاختصاص.
لقد كرم الله سبحانه وتعالى ابن آدم، وجعل حفظ النفس في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين مباشرة، والمهن الطبية والصحية تتصل بحفظ النفس البشرية اهتماماً بالصحة، وحفاظاً على الحياة، وتعدّ المهنة من أشرف المهن وأنبلها؛ لذا يقال عنها إنها (ربانية المصدر وعبادية المقصد).
إن قوانين العمل الطبي والصحي واللوائح الخاصة بأخلاقيات الممارسة تؤكد ضرورة كفاءة العاملين في المهنة علماً وتدريباً ومتابعة ومواكبة لكل ما يستجد من علم وتطور.
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد فعظم المسؤولية تتطلب من الممارس أن يكون على درجة رفيعة من الخلق والأدب متحلياً بالصدق والأمانة والمسؤولية والصبر والمثابرة، ملتزماً سلوك المهنة وأخلاقياتها التي أصبحت علماً يدرس في كليات الطب بالجامعات المرموقة.
كما تقوم الهيئات الطبية في معظم دول العالم بتشريع القوانين واللوائح التي تنظم العلاقة بين ممارسي المهنة وعلاقتهم بمرضاهم، والعلاقة فيما بينهم وبين مجتمعهم؛ ضماناً للممارسة الصحيحة وحفظاً لأرواح البشر.
ما حدث في مستشفى دنقلا التخصصي يعكس غياب المسؤولية وقمة الفوضى والفساد المستشري في مرافق الدولة في مستوياتها المختلفة؛ نتيجة تسنم مواقع المسؤولية بواسطة أشخاص تنقصهم الكفاءة والقدرة الإدارية وعدم الأمانة لدى بعضهم، ذلك لأنهم قدموا لمواقع المسؤولية في إطار تنفيذ سياسة التمكين، أو نتيجة ترضيات سياسية، وتبادل مصالح ذاتية بين أحزاب لا علاقة لها بهموم المواطنين.
ما حدث أمر لا تقره الشرائع والقوانين، ويشكل مخالفات واضحة لوثيقة الحقوق المنصوص عليها في الدستور، التي تجعل للمواطن حقاً أصيلاً في الحياة والكرامة والسلامة الشخصية، كما يخالف النص الالتزام الدستوري الذي يجعل من مسؤوليات الدولة إنشاء المؤسسات العلاجية والتشخيصية، وتطويرها، وتأهيلها، وتوفير الرعاية الصحية وخدمات الطوارئ.
وفي ظل هذه المخالفات الدستورية فان المسؤولية تطال في المقام الأول والي الولاية والوزراء، وفي مقدمتهم وزير الصحة بوصفهم مسؤولين بالتضامن والانفراد عن صيانة الدستور، والعمل التنفيذي في الولاية .
كما لا نعفي المجلس التشريعي من الفشل في القيام بمسؤولياته ومهامه الرقابية على أداء الحكومة. تأتي في المرتبة التالية من المسؤولية إدارة المستشفى التي اعترفت لمجلس المهن الطبية استيعابها كوادر غير مؤهلة في مجال الأشعة، بحجة عدم توافر اختصاصي أشعة، وأن ذلك جاء خوفاً من توقف القسم.
هذه الحقائق تجعل إدارة المستشفى أمام المساءلة القانونية نتيجة تقصيرها وتعريض حياة المرضى لمخاطر جمة؛ مخالفة لقوانين ولوائح أخلاقيات المهن الطبية القاضية بمراعاة حقوق المرضى وسلامتهم، بتقديم العلاج بواسطة فريق طبي كفء ومتدرب، والوفاء بحق المريض في معرفة أسماء المشاركين في علاجه ومؤهلاتهم، وإن كان بينهم متدربون بغرض الحصول على رعاية طبية مثالية. أما الكوادر التى ظلت تعمل في مجالات لا تتوافق ومؤهلاتهم، فقد ارتكبوا جرائم لا تغتفر يعاقب عليها القانون، تأتي في مقدمتها جريمة انتحال شخصية الموظف العام.
إن هذا الوضع المشين والمسىء والتعدي السافر على حقوق المرضى يتطلب إجراء تحقيقات عاجلة وواسعة وشفافة تشمل جميع المستويات دون استثناء، وتطبيق أقسى العقوبات على كل من ارتكب جرماً أو ساعد فى الارتكاب أو أهمل أو تقاعس عن القيام بواجباته ومسؤولياته الوظيفية في حماية المواطنين.. ولنا عودة.