لم أندهش أبدا لفشل محادثات برلين هذا الأسبوع، حيث تصادمت و تناقضت فيها أهداف و أجندات الفاعلين الأساسيين.
فالنظام كان يريد من برلين ورقة علاقة عامة (لإلحاق حركتي العدل و المساواة و تحرير السودان بوثيقة الدوحة)، تدعم مناخ الحريات الكذوب الذي صمم بمكر لدفع جهود رأس النظام الطامح إلي فترة رئاسية جديدة تمر عبر عملية دستورية أحادية و انتخابات جديدة مزورة في العام ٢٠٢٠، ترسخ سلطة نظام الأمر الواقع، وتجدد شرعيته المفقودة.
النظام أتي إلىي برلين مستنداً إلي عاملين داعمين لموقفه: أولهما: ميزان القوي في دارفور الذي اختل لصالحه حتي الآن، ثانيهما: الغطاء الإقليمي و الدولي الداعم له لقاء الأدوار الوظيفية التي يقوم بها لخدمة اللاعبيين الإقليميين و الدوليين في مجالات مكافحة الإرهاب و الهجرة، إضافة إلي دعم صراعات و حروب التنافس علي النفوذ في المنطقةِ.
أما حركتا تحرير السودان بقيادة مناوي و حركة العدل و المساواة بقيادة جِبْرِيل فكانتا تريدان من برلين الحضور الدبلوماسي و السياسي و الإعلامي الدولي الذي يعزز شرعيتهما في مواجهة ضغوط الاتحاد الأفريقي وبعض اللجان الأممية المتخصصة، كما أن مفاوضي الحركتين كانوا يريدون المناورة للحصول على مفاوضات ” كاملة الدسم” ، وليست مفاوضات إلحاق بـ “وثيقة الدوحة لسلام دارفور” !
من جانبه، المجتمع الدولي و أقصد تحديداً الولايات المتحدة الأميركية و ألمانيا- عرابتا لقاء برلين، قد تلاقت أجندتهما في إطار سعيهما إلي ما يوصف بـ ” الهبوط الناعم للنظام” . فموقف ألمانيا المتشابك والداعم للنظام ليس بجديد، فهي قد سبقت معظم الدول الأوربية في التقارب مع النظام و لذلك حيثيات وتفاعلات ليس هنا مكانها.
أما الولايات المتحدة الأميركية فتسعى إلى ورقة أو عملية تهيىء لها المناخ للدخول في المرحلة التالية من الحوار مع نظام البشير- و هي مرحلة الحوار حول رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إضافة إلي قانون محاسبة و سلام دارفور Darfur Peace and Accountability Act ، و هذه قضايا ومظان معقدة للكونغرس الأميركي فيها سلطة و قرار. من جانب آخر، بقية دول الاتحاد الأوربي تريد رفع الحرج عن نفسها جراء انتقادات المنظمات الحقوقية للاستمرار في تعاونها مع النظام في قضايا الهجرة، فبريطانيا مثلاً، ما زالت تواصل ما يسمي بحوارها الإستراتيجي مع النظام الذي ستدشن مرحلته الثالثة في الثالث والعشرين من الشهر الجاري في الخرطوم. أما الأمم المتحدة و أعضاء مجلس الأمن فيريدون غطاءً لخروج اليوناميد أو تعديل تفويضها في يوليو القادم، لذلك ليس غريبا أن يشارك الممثل الخاص المشترك لليوناميد بفعالية في لقاء برلين .
عوامل فشل برلين:
١- النظام الذي لا يستجيب إلا لمنطق القوة و الضغوط، فهو يعتقد علي نحو راسخ أن ميزان القوة علي الأرض قد اختل لصالحه، و أنه لا وجود للحركات في دارفورء، و أن نزاع دارفور قد انتهى، وأنه الطرف المنتصر. لذلك، أرسل أمين حسن عمر المتعجرف الذي لا يحظي بدعم وتفويض من نظامه، إذ أنه يغرد خارج سرب العصبة التي تعمل علي إعادة ترشيح رأس النظام في العام ٢٠٢٠. من الواضح، أن أعلي سقف تفاوضي جاء به أمين إلي برلين هو إلحاق قيادات الحركتين بوثيقة الدوحة، واستيعابهم في وظائف مثلهم مثل الذين سبقوهم إلى نادي السلطة في الخرطوم!
٢- النظام كذلك يستخف بالوزن السياسي لمفاوضي الحركتين، فهو لا يري فيهم تمثيلاً متنوعاً لأهل الإقليم، و ذلك وفقاً لفهمه الضيق للقضية السودانية في دارفور التي يحصرها في الإطار الإثني و العرقي.
٣- النظام مستمر في نهجه الذي يقوم علي ” الانبطاح للخارج لقمع الداخل” ، فهو يعتقد أن تنازله و انبطاحه للمجتمع الدولي كاف؛ لأن يعمل المجتمع الدولي لحشر الحركات في حضنه. بكلمة أخري، النظام يفضّل التنازل للخارج بدلاً من أن يقدم أي تنازلات لأطراف الأزمة الوطنية في الداخل.
خلاصة القول، برلين فشلت و ستفشل غيرها من جولات التفاوض ما لم يتغير و يتبدل ميزان القوى الحالي لصالح قوى التغيير الحقيقية. تحضرني في هذا السياق واقعة مهمة، عندما كنّا في خواتيم مفاوضات أبوجا في مايو 2006م قال لنا كاتب مسودة إافاقية سلام دارفور عندما احتججنا علي ضعفها و ظلمها وتقاصرها عن طموحات و تطلعات أهل الإقليم، قال لنا: “هذا وزنكم الحقيقي علي الأرض، فالاتفاقية تعكس موزاين القوى علي الارض”.
قولته المستفزة تلك، كانت تدفع و تشجع بوضوح إلى الحرب لتغيير موزاين القوى. للأسف، هذه هي المناهج و الأسس التي تنهض عليها نظريات علم حل النزاعات. أقول ذلك، والجميع يدرك أن النظام ليس قوياً كما يزعم ، لكنه يستغل آلة الدولة ليخدم بها الخارج فيستقوي به لقهر الوطن و أهله، الذين حتماً سيثورون عليه قريباً، ويقتلعونه بإرادتهم الحرة .