إن مقترح المشاركة في الانتخابات المقررة في 2020م يمثل انتحاراً سياسياً للمعارضة وعملاً أهوج لن يتمخض إلاّ تمديد عمر الإنقاذ ،وتطاول شقاء الشعب السوداني، وحدوث مزيد من الدمار في أوجه حياته.
ذلك أن الإنقاذ، أو بالأحرى، جماعة الإخوان المسلمين، قد درجت على تزوير الانتخابات، وأتقنت ذلك إتقاناً لا مراء فيه. فمنذ مطلع سبعينيات القرن الفائت، ظلوا يصارعون جاهدين للاستحواذ على الاتحادات الطلابية بشتى السبل، وفي صدارتها التزوير والترويع.
وقد زادت دربتهم على هذه الممارسة في عهد الإنقاذ، إذ توسعوا فيها لتشمل النقابات العمالية والاتحادات بكل أنواعها. وحتى التمكين الذي تبنوه في مطلع التسعينيات يمثل تزويراً في ممارسة الحكم الراشد، لا سيما في ظل دستور ينص بصريح العبارة على أن «جميع الناس متساوون أمام القضاء، والسودانيون متساوون في الحقوق والواجبات في وظائف الحياة العامة، ولا يجوز التمييز فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدينية، وهم متساوون في الأهلية للوظيفة والولاية العامة ولا يتمايزون بالمال»، ذلك حسب المادة (21) من دستور 1998م. أما في دستور 2005م، وتحت ضغوط محادثات السلام، أذعنت الإنقاذ بقبول مادة محورية تفضي بأن «تكون المواطنة أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين».
ورغم كل هذه الضوابط الدستورية، ظل التمكين سيد الموقف حتى يوم الناس هذا.
من جهة أخرى، فإن الإنقاذ اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تعدّ في أحلك أزمان حكمها من ناحية تدهور الأوضاع الاقتصادية تدهوراً يفاقم من قوة الظرف الموضوعي لقيام الانتفاضة المرتقبة، ونجاح العصيان المدني الشامل.
نعم تبدو المعارضة، والتنظيمات الفاعلة من بين صفوفها أكثر ضعفاً وأقل قدرة على القيادة، لكن نجاح الانتفاضة والعصيان المدني سيأتي عبر تراكم طويل للتجارب، وتمحيص السبل، وانتقاء الأنجع من بينها. لا شك أن الأمر يتطلب مزيداً من الصبر. ولا بأس بذلك!
منذ الإعلان عن ميزانية 2018م، دخلت البلاد منعطفاً خطيراً. فقد تدنت قيمة الجنيه السوداني إلى مستوى ينذر بسحق شعب تبلغ نسبة الفقراء بينه نحو 60٪، على أقل تقدير؛ علماً بأن البنك الدولي كان في 2016م قد حدد نسبة الفقر بمعدل 58٪ في الريف؛ و26٪ في المناطق الحضرية. مع الإشارة إلى أن ثلثي سكان السودان يعيشون في الأقاليم بعيداً من الحواضر.
وإذ يقوم معاش الناس على السلع المستوردة، من زيوت طعام وألبان مجففة وصلصة وفول مصري وملابس وأحذية وأواني منزلية، فإن المواطن السودان يواجه اليوم أشرس ظرف معيشي في تاريخه.
وكانت «الراكوبة» تكلمت بالأمس عن وثيقة يقر فيها المؤتمر الوطني بفشله الاقتصادي الذريع، كما يتمثل ذلك في الارتفاع المطرد لأسعار المواد الاستهلاكية، ومعاناة المواطنين اليومية سواء في الحصول على الطعام أو التنقل في ظل أزمة الوقود الحالية.
بيد أن التدهور لا يقتصر على الاقتصاد وحده، بل يتعداه ليشمل أوجه الحياة كافة. فحتى أخلاق الناس عصفت بها الإنقاذ عصفاً. ففي 25 أبريل الجاري، كشفت وزارة الداخلية عن ارتفاع مهول في بلاغات جرائم المخدرات لتصل إلى نحو 11 ألف بلاغ. وأضافت الداخلية أن الفترة من أبريل 2017م إلى مارس 2018م شهدت وقوع حوادث مرور بفعل تعاطي المخدرات، وأن هذه الحوادث أسفرت عن وفاة 2152 شخص (جريدة الجريدة، 25 أبريل).
في هذا الصدد، يجب عدم إغفال حقيقة أن خوض الانتخابات يعني ضمنياً الإغضاء عن الأخطاء الجسيمة التي اقترفتها الإنقاذ طوال سنوات حكمها البئيس.
ويأتي انفصال الجنوب في صدارة هذه الأخطاء. وتطول قائمة أخطاء وجرائم الإنقاذ إلى درجة تند عن الحصر، لتشمل الإبادة العرقية في دارفور والحروب المستعرة بدوافع عرقية أيضاً في جنوب كردفان والنيل الأزرق. كذلك تشمل القائمة تدمير مشروع الجزيرة وتقويض السكك الحديدية وبيع كثير من مؤسسات القطاع العام لعضوية الإخوان المسلمين بيعاً ينطوي على أبشع أنواع الغرر بالنسبة للمواطن السوداني.
وهنا يستوقفنا سؤال مهم جدا ـ ألا وهو: على من تقع مسؤولية الديون العبثية التي تراكمت طيلة فترة حكم هذه الفئة الفاسدة؟ إذ يقدر صندوق النقد الدولي، وضمن مشاوراته مع الحكومة تحت المادة الرابعة والتي أجريت في ديسمبر 2017م، أن الديون الخارجية للسودان ستصل في 2018م إلى معدل 97,7٪ من إجمالي الناتج القومي. ومعنى ذلك أن خدمة الديون ستكبل أية محاولة للتنمية، مهما خصلت النوايا!
من الناحية النظرية، يبدو منطقياً المحاججة بأن الانتخابات سوف تتيح فرصة لتنشيط العمل السياسي للأحزاب المعارضة عقب فترة متطاولة من الجمود القسري الذي فرضته الإنقاذ بأساليب شتى من بينها الاعتقالات المتكررة للقيادات السياسية المعارضة، وتهديم المجتمع المدني بوصفه حاضنة تتبلور فيها المواقف السياسية وتأخذ شكلها المجتمعي الواضح. بيد أن السؤال الذي يقوض حجية هذا الحديث هو: هل ستقبل الإنقاذ بمشاركة ذات مغزى؟
إن أكبر وأوضح دليل على ديدن المراوغة لدى قادة الإنقاذ يتمثل في النتائج التي أفضت إليها عملية الحوار الوطني. لقد بادروا بالحوار وأطلقوا عليه صفة الوثبة!
زاعمين أن سيؤدي إلى تغيير جذري في شكل الحكم، ومن ثم تحقيق الرفاه الاقتصادي الاجتماعي الذي ظل الشعب شغوفاً بانتظاره طوال حكم الإنقاذ. لكن لم تعقبه إلاّ خيبة المآلات ناهيك عن الهدر المتعمد لموارد بلد فقير. وتستطيع أن تستشعر هذه الخيبة في حديث أهل الإنقاذ كما في حديث الذين شاركوا، سواء حصلوا على حصصهم من المناصب أم استعاضوا عنها بكاذبات الوعود.
أما الحديث عن الشباب بوصفه الشريحة الأكبر في المجتمع، وهي شريحة غير مدرجة في قوائم الأحزاب السياسية، ولديها الحيوية والابتكار لاستحداث التغيير عبر الانتخابات بحكم الغالبية الكاسحة، فهو أيضاً حديث لا معنى له في الواقع. ذلك أن إنهاء حكم قوامه الغوغائية والتحاف رداء الدين ليس سهلاً دون تسخير الفكر ومداورة الأيدلوجيا. ومن ناحية عملية، استطاعت الإنقاذ أن تقوض المجتمع المدني بأسره، بعدما قضت تماماً على الدور التقليدي للنقابات، وفي صدارتها نقابات العمال، وهي بهذه القدرة الهدامة تستطيع تفريغ الدور المرتقب للشباب من مضمونه. وتزخر جعبة الإنقاذ بأدوات أمنية تحتل قائمة أوجه إنفاق الدولة، فضلاً عن آليات للابتزاز والإغراء المألوفين في ممارستها للحكم والبقاء على المقاعد لأطول وقت ممكن.
وفي ظل غياب الدور المؤثر للنقابات والغيبة شبه التامة لمنظومة المجتمع المدني بكاملها، تصبح المشاركة في أي انتخابات مع الإنقاذ لعباً في ميدان يتسيّده الإخوان المسلمين. وهم أصلاً لا يعترفون بتداول سلمي للسلطة، وإلاّ لما قاموا بانقلابهم في يونيو 1989م للقضاء على الديمقراطية الثالثة. نعم كانت عقبات شتى تعترض طريق تلك الديمقراطية وتقلل من قدرتها وفاعليتها؛ لكن ذلك من شأنه أن يمحص التجربة ويغرسها عميقاً في مستنبت المجتمع المدني الخصب.
يضاف إلى ذلك أن الإخوان المسلمين قد تأكد فسادهم وبالتالي لم يعد الشعب السوداني غراً لخداعه بتدين مظهري فاقع وشعارات جوفاء من قبيل «هي لله.. هي لله». وبعد أن اعترفوا بأنفسهم أن الفساد قد استشرى في عهدهم استشراء غير مسبوق أدى إلى ضرب حياة السودانيين في مقتل، بحيث لم تسلم منه القطاعات ذات الأولية في التنمية البشرية من صحة وتعليم وزراعة وصناعة وتجارة، نقول بعد كل ذلك فإن حياة السودانيين لن تقوم لها قائمة إلاّ بهدم الهدم.. أي التخلص مرة واحدة وإلى الأبد من حكومة الإنقاذ ومن جماعة الإخوان المسلمين وتفكيكها فكرياً وسياسياً وتعطيل آلتها الاقتصادية المصرفية الطفيلية وفحشها التنظيمي وكشف تلاعبها بالدين والقبيلة والسوق.
معنى ذلك، في الختام، أن الانتفاضة والعصيان المدني هما السبيل الأمثل والأنجع والأجدى نحو ديمقراطية مستدامة يجدر بالشعب السوداني أن يعيشها.