حكمتك يا رب. من سمع عنتريات الكاوبوي هذا، والجعجعة مع القعقعة الخشبية، أيام كان في برج عذراء الحملة الانتخابية، قبل الانتقال إلى برج جوزاء العلاقات الدولية، لا يملك سوى أن يبتدر الحديث بالحوقلة قبل البسملة.
كان الخليج العربي مجرد فلوس في ذهن الرجل! وكأني به وقد وضع يده على الرساميل لتمويل مشاريعه الخيالية، انبرى معارضاً جدنا عنترة: ولقد ذكرتك والفلوس تحوطني…إحاطة السوار بالمعصم.
في الآونة تلك، نبت في الأذهان تصور أن الرجل سيقود أرمادا من المارينز، في سيناريو مذهل لتغيير المنطقة By hook or crook: يأتي هو من الغرب، ويأتي بوتين من الشرق!
وراحت أبواق استسهال لوغاريتمات العلاقات الدولية، تتسابق على ترشيح من سيلعب له دور “أبو رغال” أيام جيش أبرهة! في القرن الحادي والعشرين، حتى لا يترك حجراً على حجر قائم فيها.
ثم سقطت تلك الخزعبلات سقطة داويةً، مع بوتين الذي زرع تلك الأوهام في “شبر موية”، ودونك الحصاد بدون خرط القتاد.
بيد أنه ما أن بدأ الرجل في تشكيل إدارته حتى جوبه بالحقائق، ليس من الكونغرس الذي قلى مرشحيه على صفيح ساخن فحسب، بل ومن المرشحين لشغل أركان الإدارة أنفسهم، وكان لـ “العسكر” منهم نصيب الأسد.
ماتيس، العسكري المخضرم قالها له، وأكدها له بلا جلاء تيلرسون، الذي يدير الدبلوماسية الأميركية، لأول مرة في التاريخ، من على منصة نفطية، ثم عزز ماكماستر الاتجاه، خاصة وقد حل محل المتهوّر فلين.
كيسنجر كان يقول عن أمير الدبلوماسية السعودية الراحل سعود الفيصل: هذا رجل بثقل اللوبي الصهيوني، قاطبة، في أميركا.
ربما كان الانطباع لا يخلو من مسحة المبالغة، لكنه تأكيد على أنه يظل للسعودية ثقل وازن محل اعتبار في واشنطن، لغاية أن البلدين – وفي ظل رئاسة كاوبوي آخر هو بوش الابن – نجحا في تجاوز برزخ 11 سبتمبر الكارثي، وقد سعى إلى شطر العالم إلى فسطاطين، بالقنبلة والساطور.
ذاك التجاوز لم يكن قط، بكيل يسير.
ترامب جمهوري. بيد أنه جمهوري بالباراشوت. لقد أذهل أقيال الحزب GOP من شاكلة السناتور جون ماكين، في خروجه على الثوابت، فالجمهوريون تعني بشكل أو بآخر “المحافظون”، والمصالح لديهم لا تنفصل عن المبادئ، بل إن المصلحة لديهم هي المبدأ، إنها البراغماتية.
أليسوا حزب القمم الرأسمالية؟ التي حذّر من تحالفها إيزنهاور الجمهوري “شاهد من أهلها”.
وعلى الرغم من أن العلاقة ما بين واشنطن والرياض، قد بدأت على يد روزفلت الديمقراطي، مع الملك عبد العزيز، إلا أن الجمهوريين كانوا دائماً الأقرب إلى التجانس مع الشيوخ في الخليج، عموماً، والدائبين على ترسيخها والدفع بها قُدماً، إلى الأمام.
في الدوافع
أركان الإدارة وضعوا ترامب أمام الحقائق، واضعين نصب أعينهم أن الصراع الاستراتيجي في المستقبل سيكون مع الصين، وليس مع روسيا، كما يتوهم كثيرون.
صحيح أن الصين تتقاسم مع روسيا نبذ القيم الغربية الليبرالية، لكن روسيا تكرر سيناريو آشوريا: التدرع إلى حد الاختناق داخل البزة العسكرية. الصين غير.
الصين قوة شاملة قادمة. وهي قوة جديدة وصاعدة. قوة متنامية متعددة الأبعاد.
بالأمس، انخرطت في تجربة لمزاحمة بوينغ وإيرباص على تسيّد فضاء الطيران. هذه واحدة.
الثانية، هذا الإقليم صانع التاريخ: الشرق الأوسط، لا يمكن النظر إليه بسطحية أو بخفة في المعالجة.
ربابنة الإدارة الجديدة رأوا أن أوباما خاطر ببناء شراكة إقليمية مع خصم غير مضمون في إيران، على حساب منظومة حكم راسخة وصديقة في الخليج، ظلت بمثابة حليف طوال عقود من تغيرات السياسة الدولية.
بشوت الشيوخ أم عمائم الملالي؟ البشوت تكسب مع الجمهوريين، على الأخص.
صحيح أن الطرفين الخليجي والإيراني يتفقان على عدم ملائمة القيم الغربية الليبرالية لمجتمعات المنطقة المحافظة، إلا أن القاسم المشترك هذا ليس بالعامل الوحيد، ناهيك من أن يكون الكافي.
في نظر ثالوث إدارة ترامب: ماتيس، تيلرسون وماكماستر، إيران ليست مجرد رأس في معسكر مناهضة الغرب فحسب، بل هي خطر على المصالح الأميركية على الأرض، الآن وفي المستقبل.
اقتصاديات دبلوماسية النفط
يستغرب البعض استمرار العلاقة بين الرياض وواشنطن، على الرغم من انهيار سقف أسعار النفط، وتراجع الثقل الوازن لمنظمة أوبك، في تحديد اتجاهات السوق العالمية، خاصة مع ثورة الطاقة الأميركية، على خلفية إنتاج النفط والغاز من السجيّل Shale هذه أيضاً نظرة خاطفة، لا تفيد.
صحيح أن أميركا قد تحولت خلال بضعة أعوام من مجرد مستوردٍ صافٍ للطاقة إلى العكس، ولم تعد بالتالي بتلك الحاجة الماسة إلى نفط الخليج أو غيره.
على أن المسألة تتعلق بالصناعة في نطاقها الواسع بما يعني الاقتصاد، إذ أنه لا يستسيغ أي من الخيارين المتطرفين: لا الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، ولا انهيار سقف الأسعار، أيضاً.
الإدارة الاقتصادية ترفض الارتفاع لأن من شأنه مفاقمة التضخم من جهة، وزيادة البطالة من الأخرى، وهكذا يجد الاقتصاد نفسه أسيراً لوضع تضخمي-ركودي محيّر لا فكاك منه بالأدوات الكينزية أو النقدية المعروفة.
غلاء أسعار المنتجات جراء ارتفاع تكلفة الإنتاج بزيادة فاتورة المحروقات، وعجز الناس عن الاستهلاك في ظل المعاناة من البطالة، سيدفع بدوره الشركات إلى التوقف عن تحريك الدواليب وعدم تشغيل الناس.
هذا هو مبرر الشراكة النفطية الجديدة.
ويبقى أن مستشاري ترامب قد أشاروا له إلى أن الحرب على الإرهاب، بالصورة التي قادها كل من بوش وأوباما، طوال الأعوام التي تلت فجيعة 11 سبتمبر، لم تؤت ثمارها، وأن تغير الاتجاه رهن بالتحالف مع الرياض، في ذلك المسعى، وأن البديل هو استمرار الطوفان، على حاله.
الرئيس الأميركي “ديكتاتور دستوري”، لكنه بطة عرجاء، بلا حول ولا طول، أمام خدمة المصالح القومية الأميركية، التي تحددها إملاءات المجمع المالي-الصناعي-العسكري، فهو لا يملك في النهاية إلا التوقيع عليها، توقيع ملك/ملكة بريطانيا على حكم إعدامه، إذا ما صادق عليه البرلمان!.