يعيش المؤتمر الشعبي السوداني حالة من فقدان التوازن والسيولة في مواقفه السياسية، إذ إن بعض قياداته، وفي مقدمتهم أمينه العام د. علي الحاج، يتجاذبهم حنين العودة إلى حظيرة المؤتمر الوطني للالتحاق مرة أخرى ببريق السلطة والمال، بينما هناك آخرون، معظمهم من القيادات الشابة، ترى أن مصلحة الحزب تقتضي قفل باب العودة، واللحاق بالمعارضة بما يضمن لهم حجز موقع متقدم في أي تغيير مرتقب.
هذا الوضع أحدث هزة كبيرة في الخطاب السياسي للحزب، وجعل أمينه العام يمارس نوعاّ من المخادعة والمداهنة في خطابه السياسي، وذلك عوداً إلى مدرسةٍ نهلوا منها خطابهم الميكافيلي “الغاية تبرر الوسيلة”.
ولعل عدم ثبات الخطاب نابع من أن هناك خلافاً واضحاً داخل الحزب حول الغاية المبتغاة لاختلاف الرؤية السياسية، وربما غيابها بين قياداته.
هذا الأمر وضع الأمين العام في موقف لا يحسد عليه، فموقفه ومعه بعض الأعضاء يمنون أنفسهم بالتقارب من المؤتمر الوطني، والعودة إلى الشراكة مع الحكومة، الأمر الذي يحتم عليه مغازلة المؤتمر الوطني، وإرسال إشارات في هذا الاتجاه، ذلك في الوقت ذاته الذي يخشى فيه من موقف كثيرين من قيادات وقواعد حزبه التي تتوق إلى الخلاص من النظام الحالي والانضمام إلى التغيير المقبل.
هذا الوضع المعقد جعل كل حديث وتصريح يدلي به د. علي الحاج يحمل التناقض بين جنباته بصورة مفضوحة، فكل عبارة يطلقها تحمل المعنى ونقيضه في الوقت ذاته بشكل يحيّر العقول، وإن كان ذلك ليس مستغرباً ممن يسمون أنفسهم الإسلاميين.
في هذا المقال لن أذهب بعيداً، فقط سأتوقف عند التصريحين اللذين أطلقهما خلال زيارته الأخيرة كردفان، وقد سبق نشرهما في هذه الصحيفة “التحرير”.
التصريحان يفصل بينهما ثلاثة أيام فقط، إذ جاء الأول في لقاء مفتوح مع التنظيمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بولاية جنوب كردفان بتاريخ 28 أبريل 2018م أكد فيه أنهم لم يكونوا طرفاً في اتفاقية نيفاشا، على الرغم من أنهم ليسوا ضدها، مضيفاً أن الأمل كان معقوداً أن تحل نيفاشا مشكلة البلاد، ولكن واقع الأمر اليوم غير ذلك، وأن الاتفاقية فصلت الجنوب، ولم تحل مشكلة الحرب، وأن المشكلة ليس مشكلة من وقعوها ولكنها عظة وعبرة.
الملاحظة المهمة أنه تناسى دوره بوصفه عراباً لاتفاقية فرانكفورت التي فتحت الباب أمام تقرير المصير، ورغم حصره عيوب الاتفاقية، وعدم مشاركتهم يؤيدها، ويلتمس العذر لمن وقعوها.
الغريب في الأمر أيضاً أنه ذهب إلى أبعد من ذلك، وهو يبرئ ساحة موقعيها؛ ذاكراً أنها ليست مشكلتهم، ولكنها عظة وعبرة.
التصريح يحمل بين طياته الطعن في الاتفاقية والموافقة عليها في آن واحد، وما كان لرجل في موقف الدكتور علي الحاج وقامته أن يطلق مثل هذه التصريحات على مستمعيه، وقرائه، إذ إنهم ليسوا بالسذاجة حتى تمر عليهم مثل هذه الأمور.
أما اللقاء الثاني، فقد كان مع هيئة شورى حزبه في ولاية شمال كردفان بالأبيض في الأول من مايو 2018م، حيث ذكر أنهم أكتووا بنار الشمولية، ولا يرغبون في تكرارها؛ ومشيراً إلى أن فصل الجنوب كان كارثة. كما صرح بأن أي خروج عن مخرجات الحوار الوطني في أي مرحلة من المراحل سيفتح الباب للخروج على كل ما تم الاتفاق عليه، موضحاً أن الانتخابات لا تحتاج إلى دستور، ويمكن تعديل الدستور الحالي.
أما عن شكل الحكم فقد أوضح بأنهم في الحركة الإسلامية والمؤتمر الشعبي ما زالوا مصرين على أن يحكم السودان حكماً فدرالياً حقيقياً عن طريق انتخابات حرة، وبربطه هنا بين المؤتمر الشعبي والحركة الإسلامية يود أن يؤكد بشكل غير مباشر مشاركتهم الرأي للمؤتمر الوطني الموقف ذاته
.
هذا التصريحات أيضاً جاءت متضاربة تحمل في طياتها معاني متقاطعة تؤكد عدداً من الحقائق، وهي: أن الأمين العام حاول في هذه اللقاءات ممارسة نوع من المراوغة والمداهنة السياسية، وهو يغازل المؤتمر الوطني والحكومة مطمئناّ لهما بإمكانية التوافق معهما، من خلال الغفران والتغاضي عن أخطاء الحزب والحكومة، ومنوهاً بإمكانية تعديل الدستور، وهو ما يوحي بالضرورة الموافقة على ترشيح الرئيس البشير لدورة رئاسية جديدة.
هذه التصريحات في مجملها توضح ما رمى إليه الدكتور على الحاج من ترك الباب موارباً مع مخالفيه الرأي داخل حزبه، من خلال تصريحات حمالة أوجه؛ للحصول على دعمهم، أو خلط أوراقهم على الأقل.
كما أعتقدَ أيضاً أن مثل هذه التصريحات ستمر على المعارضين، ويضمن من جانبه عدم قفل الباب مع القوى السياسية المعارضة؛ تحسباً لأي مفاجآت نحو التغيير، مع ضمان الوصل مع المؤتمر الوطني، وحكومته في المقام الأول، في محاولة لإعادة إنتاج حكومة إسلاميين جديدة.
خلاصة الأمر أن الشعب السوداني وقواه الحية المعارضة لم يعدّ يمر عليها هذيان من أمتهنوا السياسة؛ لتحقيق مصالح ذاتية بأسلوب ميكافيلي مفضوح، فالمؤتمر الشعبي الذي يود أن يلعب على كل الحبال، ربما يجد نفسه يوماً ما مشنوقاً بأحد تلك الحبال.