النظام الرأسمالي ركز في حماية مصالح الرأسماليين من عوامل الإنتاج، وهمش مصالح الأيدي العاملة. هذا الوضع أفرز مواجهة طبقية بين الطبقة الرأسمالية وطبقة العمال.
كارل ماركس قرأ في هذه المواجهة مستقبلاً سياسياً، وهو وزميله أنجلز أصدرا المانفستو الشيوعي: “يا عمال العالم اتحدوا لثورة المعدمين، وتخلصوا من قيودكم الطبقية والقومية؛ لإقامة نظام شيوعي عالمي تقوده الطبقة العاملة”.
هذا المانفستو صار وحياً لكثير من الحركات الثورية، لا سيما الحركة البلشقية في روسيا. ومنذ صدور المانفستو حتى الآن اتخذت الاستجابة لندائه أشكالاً كثيرة.
وفي كثير من الأحيان باسم ولاية الطبقة العاملة، تحكمت طبقات جديدة أكثر استغلالاً للطبقة العاملة، وهذا ما أدى لحركة مضادة قادتها نقابة التضامن في بولندا.
إن تطلع الحركة النقابية للإنصاف في ظل النظم الرأسمالية استمرت، وفي إحدى حلقاتها المهمة الاحتجاج العمالي في ولاية شيكاغو الأميركية عام 1886م. احتجاج هدفه ضبط ساعات العمل، لتكون ثماني ساعات في اليوم. سلطات الأمن واجهت الاحتجاج بصورة أدت إلى مذبحة. نتيجة لها صار يوم المذبحة يوم ذكرى اختير لها أول مايو عيداً للعمال.
النظام الرأسمالي عدل من وحشيته، واعترف بالحركة النقابية؛ لدرجة تكوين أحزاب باسم العمل وصلت للسلطة كما في بريطانيا بعد الحرب الأطلسية الثانية.
ومنذ عام 1919م، تكونت منظمة العمل الدولية التي حددت حقوقاً للحركات النقابية توجب استقلالها وديمقراطيتها، وتتطلب مراعاة حقوق النقابات مع الدولة، ومع المخدمين في القطاع الخاص.
إلى جانب هذه التطورات، أدركت دول رأسمالية أن عليها الاعتراف بدرجة معتبرة من المشاركة النقابية في الحوكمة، وأدركت أن الاستقرار في بلدانها يتطلب أن تقوم الدولة برعاية اجتماعية محددة المعالم.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى الأيديولوجية الديمقراطية الاجتماعية، وهذا ما يعني أن يكون للديمقراطية السياسية قرين اجتماعي.
الراسمالية نظام -عن طريق الملكية الخاصة، والحرية، والتنافس- يكفل شروطاً مشجعة للاستثمار والإنتاج، ولكن غير عادلة في توزيع عائد الإنتاج بين عوامل الإنتاج.
برناردشو الكاتب البريطاني الساخر كان أصلع الرأس، وغزير اللحية والشارب. قال له أحد أصدقائه: لماذا هذا المنظر؟ رد عليه: نحن في نظام رأسمالي: إنتاج كبير، ولكن سوء في التوزيع.
هنالك الآن عوامل مرتبطة بالعولمة أدت إلى ثورة مضادة للمفاهيم العدالية المذكورة، أهمها:
أولاً: عوامل العولمة المختلفة أدت إلى تركيز أكبر للسلطة في أيدي الطبقة الرأسمالية بصورة شكت منظمة أوكسفام – في اجتماع دافوس في 2015م – أنها أدت إلى أن أغنى ستة أشخاص يملكون ما يساوي نصف ما يملكه العالم كله. إن توزيع الثروة داخل البلدان وفيما بينهما قنبلة قابلة للانفجار.
ثانياً: الأتمتةautomation تتطور بصورة تجعل التفوق التكنولوجي يؤدي إلى الاستغناء عن كثير من الأيدي العاملة، وبالتالي نسبة عالية من العطالة.
هذه العوامل فرخت حالة ثورية حتى في البلاد الديمقراطية العريقة، كما في حركة “احتلوا وول استريت” Occupy Wall Street (مركز الرأسمالية في أميركا)، وحركة احتلوا لندن Occupy London (مركز الرأسمالية في بريطانيا)، هكذا صارت النظم الديمقراطية العريقة معرضة لغياب العدالة وعدم الاستقرار.
وهنالك عوامل أخرى أهمها وجود عوامل في البلدان الفقيرة طاردة لمواطنيها ودافعة للهجرة غير القانونية بصورة تهدد بتغيير التكوين السكاني في البلدان الغنية.
هذه الحقيقة غذت تيارات عنصرية في البلدان الغنية، وهذا ما جعل النظام الديمقراطي يفرز تيارات معادية للبرالية، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب الأطلسية الأولى، إذ أدى التظلم من صلح فرساي إلى ولاية الحزب النازي.
ما حدث في أمريكا في انتخابات 2016م هو تراكم عنقود كراهيات ومخاوف أدت إلى انتخاب رئيس شاذ بمقاييس الحكمة والعدالة. وتهوره ربما أدى إلى كارثة عالمية لا تبقي ولا تذر.
ثالثاً: النظم الشمولية بطبعها تعتدي على حقوق الإنسان، وتقيد الحريات العامة.
الاحزاب السياسية، والنقابات ومنظمات المجتمع المدني هي لبنات البناء الديمقراطي.
ومع وجود نماذج كثيرة، فإن السودان منذ انقلاب يونيو 1989م شهد تجربة حوكمة فاشلة جعلت البلاد تصنف سابع أفشل دولة في العلم لعام 2018م، وخامس أفسد دولة في العالم بحسب مؤشر منظمة الشفافية العالمية لعام 2018م. وسادس أكثر دولة في العالم قمعاً لحرية الصحافة. ولكن ما يهمني هنا هو أثر هذه السلبيات في الحركة النقابية.
رابعاً: منذ عهد الاحتلال الأجنبي، نشأت في السودان أحزاب سياسية ونقابات ومنظمات مجتمع مدني وافرة الحيوية. حيوية اعتدت عليها النظم الشمولية التي سطت على الحكم في السودان بالانقلاب العسكري الآثم. ولكن تجربة انقلاب يونيو 1989م في قمع الحركة النقابية كانت الأكثر قهراً والأكثر منهجية.
كانت في السودان نحو 80 نقابة قلصها النظام الانقلابي إلى دون العشرين، ولكن أهم ما ابتدعه النظام هو جعل النقابات تضم أفراداً لا تربطهم مصلحة مشتركة، ففي النقابة العامل والموظف المدني والجامعي، وهذا ما جعل كل نقابة كمصلحة حكومية تابعة للوزارة: نقابة المنشأة. والاتحاد العام لنقابات السودان صار شبيهاً بوزارة على رأسها موظفون للحكومة يدافعون عن مصالحها، لا عن مصالح المستخدمين، هكذا تراجعت حقوق كل الفئات العاملة في نظام تحرسه سلطات الأمن، وسائر وسائل القمع الأخرى.
في يوم ذكرى القمع التاريخي يجدر بنا أن نهتم بالقمع الراهن الذي سوف يزيله النظام الجديد الذي يجب أن يراعي الحريات النقابية، مع مراعاة عدم الإخلال الذي صحب التجربة الديمقراطية.
من أهم العلل التي أفسدت التجربة الديمقراطية أربعة عوامل مهمة:
• النزعة لتحجيم القوى الحديثة داخل الأحزاب الجماهيرية، يقابلها عدم رضا النخب بحكم الصندوق، واستغلالها للمؤسسة العسكرية للانقضاض على السلطة.
• عدم استنبات الديمقراطية كثقافة في المجتمع، وغيابها داخل معظم الأحزاب الجماهيرية والصفوية معاً، وكذلك داخل التكوينات الأهلية من قبائل وطرق، ومنظمات المجتمع المدني.
• غياب ثقافة التعامل مع الحرية، وهذا ما جعل ذلك سبباً في الفوضى، وجعل بعضهم يستخدم الحركة النقابية لأغراض بعيدة من مصالح العمال، ومضادة للمصلحة العامة، وسلماً للسلطة السياسية.
• غياب مشروع مدروس لإدارة التنوع الثقافي والجهوي في البلاد.
هذه العوامل تتطلب أن تكون الديمقراطية المنشودة والحتمية في المستقبل مهتمة بإزالة العيوب المذكورة.
ومن العيوب التي تتطلب علاجاً في هيكل الحركة النقابية إيجاد معادلة مشاركة في الهيكل النقابي للعمال الزراعيين، ولخدام المنازل، وللعمالة المهاجرة، وللعمالة الوافدة. فهؤلاء لم يدخلوا في الخريطة النقابية المعهودة، وهم أصحاب حقوق يرجى أن تنقذ من الفوضى، ومن الظلم.
حبذا أن يكون يوم ذكرى مأساة نقابية قديمة مدخلاً للوعي بالدور النقابي في الحوكمة الرشيدة.
دور ينظمه قانون للنقابات في ظل الحكم الديمقراطي. دور يكون محيطاً بالسلبيات المذكورة؛ لتقوم الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني بدورها المشروع في البناء الديمقراطي، وفي التنمية البشرية، وتقوم القوى النظامية بدورها المشروع في حراسة الدستور أساس العهد الاجتماعي بين السكان.
4 مايو 2018م