كشفت أزمة الوقود التي تضرب البلاد الآن، ويبست مفاصل الدولة عن عصيبة أخرى منحرفة تعشعش في ذهنية منسوبي نظام الإنقاذ، بجانب العصبية الدينية والعرقية، ألا وهي العصبية المناطقية؛ إذ جعل نظام المؤتمر الوطني جزءاً من الخرطوم عاصمة تمكينية له، فراكم فيها جزءاً كبيراً من الثروات والعقارات التي نهبها من الشعب السوداني، حتى صار الأمر إقطاعاً سياسياً واقتصادياً.
وبالتأكيد في هذا المقال نحن لا نقصد الخرطوم عاصمة السودان الجميلة، ومقرن النيلين وأهلها الكرماء، إنما نقصد الخرطوم العاصمة العميقة لدولة الإقطاع الإنقاذية؛ لذلك سوف نرمز إليها بـ (الكابتول) Capitol.
سوف يكشف المقال: كيف جعل نظام الإنقاذ جزءاً من الخرطوم عاصمة تمكينية له يخصها بالمطايب من دون بقية الولايات.
وقد يقول قائل: هناك نظام اتحادي، وكل ولاية تتحمل مسؤوليتها نفسها.
طبعاً من نافلة القول: إن الحكم الاتحادي فشل، وأصلاً كان القصد منه تسكين منسوبي المؤتمر الوطني في وظائف دستورية، وليس بغرض النهوض بالولايات.
نرجع إلى عصبية نظام المؤتمر الوطني للخرطوم العميقة (الكابتول)، مثلاً: عندما تخصص الحكومة كل كوتة الوقود للعاصمة فقط، ويتذمر المؤتمر الوطني بأن شح الوقود بالخرطوم بسبب تهريبه إلى بقية ولايات السودان .
تفقدك الدهشة النطق، أو ليس الولايات جزءاً من البلد؟ بالتأكيد هي جزء من البلد، ولكنها ليست جزءاً من الكابتول.
وعندما يستغيث مواطنو كردفان عطشاً، وتصل [جركانة] الجاز إلى 2 ألف جنيه؛ لتشغيل (الدوكني) الرافع للمياه؛ حتى لا يهلك البشر، ومصدر رزقهم (المواشي)، ثم لحقهم بهم مواطنو القولد والبطانة والقضارف والجزيرة وبقية السودان؛ طلباً للوقود الذي يحرك محطات المياه وعصب الحياة، والحكومة لا تستجيب، تدرك عمق الانفصام في ذهنية نظام الإنقاذ المريض، وأن الحكومة تتعامل مع الولايات كأنها دول أجنبية!
أما المأساة، فقد بلغت مداها في وفاة المنقبين عن الذهب عطشاً بـ (أبي حمد) بالولاية الشمالية الذين عدموا الوقود؛ ليرفع لهم مياه الشرب، كما جفت ضروع السيارات من قطرة الوقود؛ لتخرجهم من جحيم وظمأ الصحراء.
ظل هؤلاء المواطنين يستغيثون، ويستصرخون السلطات لتنقذهم، لكن هيهات.. لا مؤتمر وطني، ولا حكومته، ولا نظام يدعي الإنقاذ أنقذهم. تجاهلتهم كل المؤسسات الرسمية، ولم ترسل لهم الشرطة أو الدفاع المدني لإنقاذهم وإجلائهم من محرقة الظمأ والهجير؛ حتى قضوا عطشاً؛ ليضاف موت المنقبين الجماعي إلى سلسلة مذابح نظام المؤتمر الوطني وحكومته التي لم يرمش لها جفن.
أما حكاية فتح تحقيق لمحاسبة المتقاعسين عن نجدة المنقبين، هذه مجرد أوهام.
نرجع إلى (الكابتول) العاصمة التمكينية لمنسوبي النظام. فهناك أحياء كاملة بالكابتول خصصت فقط لأهل النظام، مثل: كافوري، والصفوة، والراقي، والبراحة، والدبلوماسي، والياسمين .
ليس هذا فحسب، وإنما امتلك أثرياء الإنقاذ الطفيليين مزارع لا في الولايات، وإنما حول العاصمة: في شرق النيل، وسوبا، وغرب أم درمان، ألم نقل إن الكابتول عاصمة الإقطاع الاقتصادي والسياسي لنظام المؤتمر الوطني.
وعندما تعطي الولايات التي بها ثروات قومية نسبة 2% من دخل هذه الثروات، فهي لا تفي بفساد حكومة في الولاية، ناهيك عن التنمية وترقية المواطن..علماً بأن الثروات القومية الكبرى، مثل: النفط والذهب والزراعة والماشية توجد بالولايات، وكل تلك الثروات يمتصها نظام المؤتمر الوطني، ويذهب ريعها ليغذي (الكابتول).
ولا يهم إن مات المواطن جوعاً أو عطشاً أو مرضاً.
وعندما يتبارى أهل النظام في بناء الأبراج الشاهقة، ومقابل كل برج تحرم قرية من أسباب الإنتاج والخدمات، فإن كل ما يهم هو (الكابتول).
إذن بعد أن سيس نظام الإنقاذ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ الدينية والعرقية لدﺭﺟﺔ ﺍﻟﻜﺮﺍﻫية، نحن أمام العصبية المناطقية، التي تجسدت في مثلث حمدي العنصري، الذي بقدر ما أثار من لغط، وبقدر ما حلله المحللون لم يعرفوا على وجه الدقة: أين جغرافية مثلث حمدي؟ أين رأسه؟ وأين قاعدته.
وذهب كثيرون إلى أن مثلث حمدي العنصري يضم الوسط النيلي، ولكن بعد أزمة الوقود المستحكمة الآن وصراخ ولايات الوسط والشمالية، بل كل ولايات السودان، هل نستطيع أن نقول: إن رأس مثلث حمدي لا يبعد إلا قليلاً شمالاً، أما قاعدة المثلث في الخرطوم (الكابتول) فقط.