عندما تخرَّجنا في الجامعة-متين مش عارف- وبدأنا العمل، كان لم يزل هناك بالسودان بيوتٌ للدعارة.. ربما أنها كانت مقننة، أو مرخّصة ومسموح بها ولكن على استحياء لا أدري.
صحيح كانت تجتاحها ما يسمي (بالكشَّات) من وقتٍ إلى آخر، وبخاصة في أمسيات نهايات الأسبوع.. ولكن كان (مشغِّلو) تلك البيوت (يتخارجون) من تلك الكشات بسهولة، وذلك (بدفع الفيها النصيب) لناس الكشَّة، ثم يقومون من جانبهم بتعطيل نشاطهم مساء ذاك اليوم فقط، ثم يعاودونه في اليوم التالي زي الترتيب.
وكان طبيعياً جداً أن ترى الصفوف تترى، وتتخابط عياناً، (ويتدافس) المرتادون أمام البيوت المعروفة انتظاراً لأدوارهم، وبخاصة في مساءات الخميس (وليلة الجمعة) كما أسلفت، وفي العطلات الرسمية، وفي أواخر الشهور الأفرنجية ومنتصفاتها (إذ كانت مرتبات الجيش تُصرف مرتين، أول الشهر وآخره!).
عملتُ، أول ما عملتُ، صيدلانياً بمدينة أم درمان في شارع المستشفى المشهور، وكان هذا الشارع عاجّاً بالحركة -وأظنه لا يزال كذلك- إذ فيه عيادات أكبر الأطباء بأم درمان، وفيه البوتيكات، ومحلات العطور، وفيه مجموعة كبيرة من الصيدليات، وبعض المغالق، وعلي جنباته ينتشر الباعة الجائلون (السِّرِّيحة..أو الفرّاشين) لشتى أنواع السلع، والحاجيات من أقمصة، وكاميرات، وأحزمة بناطلين، وعطورات، ومسروقات مختلفة. نعم المسروقات كالراديوهات والمسجلات، والساعات، وشنط السامسونايت وخلافها كانت تباع هناك كذلك، وكان مجرد مرورك علي طول هذا الشارع ينتابك إحساسُ التسوق الشامل، في مدينة كبيرة مزدحمة، كثيرة الضجيج كأم درمان.
جنوب هذا الشارع -على خلفيته- وعلى امتداده شرقاً، وحتى مستشفى أم درمان كانت تتراص (بعض) بيوت الدعارة في زقاق مهمل، وضيق، وممتد، وممتلئ بالحُفر، ومياه البالوعات، وبالأوساخ، وبالأوراق، وأكياس النايلون المتطايرة.
وليست كل البيوت هناك للدعارة طبعاً، بل كانت هناك بيوتٌ نظيفة، ويسكنها أناسٌ أطهار، وكان هؤلاء الأطهار، ولتنبيه (زبائن البيوت الأخرى) إلى أن بيوتهم ليست (داعِرة)، كانوا يضعون علي أبوابها لافتاتٌ مكتوبٌ عليها (منزل أحرار).
وكان (الزبائن) يتجنبونها فعلاً، ويحترمون حُرمتها، ولا يطرقون أبوابها، ولا يتزاحمون أمامها، ولكن كانت هناك دائماً مشكلة: وهي عندما يشتد الظلام أو تقطع الكهرباء.. فبالنظر إلى أن ذلك الزقاق كان ضيقاً، ومخنوقاً ومظلماً أصلاً، فإن شدة الظلام أو انقطاع الكهرباء فيه يجعله أكثر ظُلمةً وإبهاماً، والذي يحصُل عندئذٍ هو أن مرتادي بيوت الدعارة لا يستطيعون أن يرَوا بوضوح لافتات (بيوت الأطهار) المكتوب عليها (منزل أحرار)، ولا يميِّزونها، فيطرقون الأبواب -من طرف- وكيفما اتفق، وأحياناً يدفعون الأبواب ويدخلون مباشرةً، مثلما يفعلون عادةً في بيوت (غير الأحرار)، وعندئذٍ كان يصيح فيهم أصحاب تلك البيوت (الحُرة) قائلين: (منزل أحرار.. منزل أحرار..)..فينصرف الطارق من هؤلاء علي الفور، وربما اعتذر واجتاحه شيء من الخجل !!
أتاح لي موقع عملي في صيدلية في ذلك الشارع، والقريب جداً لأحد (بيوت الأحرار)، داخل ذلك الزقاق المشهور، أن أتعرَّف إلى هذه السلوكيات، والملاحظات، والممارسات في شارع مستشفى أم درمان في الثمانينيات.
والسبب في هذه (العِرفة) أن صاحب ذلك المنزل-الجار لمكان عملِنا، كان رجلاً فاضلاً، وودوداً، وكان صديقاً لنا بالصيدلية، وكان يصنع أطعمةً مختلفةً في بيته، بمعاونة زوجته الفاضلة، ويبيعها لنا، ولأصحاب المحلات التجارية المجاورة، وللعيادات، والدكاكين والبوتيكات في وجبتي الإفطار والغداء.
وكنا كثيراً ما نكون جلوساً عنده لتناول وجبة مما يصنع من أطعمة شهية فيطرق أحدُهم الباب وربما دفعه ليدخل، فيبادر صاحبُنا صائحاً هو، أو زوجتُه، وأحياناً ابنه الصغير، وبعفوية طفولية: منزل أحرار، منزل أحرار، فينصرف الطارق بكل أدب وهدوء.
وكانت زوجتُه تلك من إحدى دول القرن الإفريقي الذين يجدون صعوبةً بالغة في نُطق حرف (الحاء)، ولهذا تسمعُها تنادي علي الطارقين علي بابها بالخطأ: (منزل أهرار.. منزل أهرار.. منزل أهرار..قلنا ليكم منزل أهرار)، مع تخفيف الراء وترقيقها، وفوراً ينصرف لصرختها (الطُّـرَّاق) برغم عُجمتِها!
ما لاحظتُه هـنا، أنه كان هناك بين الجانبين ما يشبه شكلاً من أشكال الفهم المتبادل، وغير المكتوب، فأصحاب (بيوت الأحرار) لا يتذمرون، ولا يغضبون، مهما توالى عليهم طرقُ الأبواب الخاطئ، ربما لأنهم يعرفون أن وجود بيوتهم في هذا المكان يجعلهم عُرضةً لطرق الطُّرَّاق، وعُرضةً لظنهم السيئ بها فيعذرونهم، كما أن طارقي الأبواب كانوا في غاية الذوق والتفهُّم، إذ سرعان ما ينصرفون دون (مناقرة) إذا قيل لهم: (انصرفوا) وهذا (منزل أحرار) !!
مرة سألتُ صاحبنا (رب منزل الأحرار هذا)، وقلتُ له: لكين الحكاية دي مزعجة خلاص يا عم فلان!! فردَّ عليّ فوراً قائلاً: عاد نسوِّي شنو يا دكتور !! همَّن ما غلطانين..غلطانين أنحنا السكنَّا في حلة كلُّو (ش……)..ثم ضرب لي مثلاً رائعاً، وقال: هسَّه يا دكتور، لو في حِلة كل سيادو بسوُّوا (مريسة)، لدرجة الناس سمُّوهو (حِلَّة المريسة)، وإنتَ مشيت سكنت في حِلة دا..وإنت ما بشرب مريسة ولا بسوِّي مريسة..وبعدين جاك زول دقَّ بابك، قال داير مريسة، إنت بطلع بشاكلو؟! ولا بس بقول ليهو ما عندنا مريسة؟! ولم ينتظر صاحبنا إجابتي، وإنما قال: طبعاً إنت ما بشاكلو، إنت بس بقول ليهو (سوري) ما عندنا مريسة !! لو زول دا ذااااتو قال ليك: طيِّب، بالله إنت ما بعرف جيرانك دا عندو مريسة ولا لا؟! إنت برضو ما بشاكلو..إنت بس بقول ليهو، (سوري)، والله ما بعرف بس..لإنو زول دا ما غلطان، مش كدة يا دكتور؟! ومرة أخري لم ينتظر إجابتي، وإنما قال: طبعاً زول دا ما غلطان!! غلطان إنت يا دكتور!! لأنو إنتَ سكنتَ في (حِلة بتاع مريسة)!!!
طيب.. قبل مدةٍ قصيرة، ربما أقل من أسبوعين- قام والي جنوب كردفان (وهو لواء أمن ودكتور) بفتح بلاغات في بعض ناشطي جنوب كردفان الإسفيريين، وقال: إنهم أشانوا سمعته، واتهموه بالفساد، وبتهريب ذهب من جنوب كردفان، الغنية بالذهب لمصلحته الشخصية. وللحقيقة، كانت الصحف قبل ذلك، قد نشرت أن عربةً حكوميةً دستورية، تخص والي (إحدي الولايات الغربية)، ضُبطت وبها ابنُ الوالي، ومعه كميةٌ كبيرةٌ من سبائك الذهب المهربة.
المهم.. فتح السيد الوالي البلاغات في الناشطين، في حاضرة ولايته كادقلي، وعليه، تم إرسال عربة حكومية إلى سيدة ضمن هؤلاء الناشطين، واسمها (عوضية مرسال) لتأخذها عصراً من بيتها، ولتنهب بها الأرض نهباً باتجاه الغرب، حيث كادقلي، وحيث البلاغات المفتوحة من السيد الوالي.
إلى هنا والأمر شبه طبيعي، شخصٌ تظلَّم من أشخاص، وفتح ضدَّهم بلاغات، ولكن، ولكون (المظلوم) كان والياً، فقد رأى خدمةً للعدالة منه أن (يُسرِّع) عملية القبض والاعتقال، وإمعاناً في التسريع كذلك، قام بتأمين عربة حكومية لترحيل الناشطة على عجل، إلي حيث البلاغات، للبدء في التحقيق معها.
كل هذا كان شبه طبيعي، ولكن غير الطبيعي هو أنه، وفور اعتقال هذه السيدة، وترحيلها إلى كادقلي، هاجت الأسافير وماجت، وطفحت بمزيدٍ من أخبار الفساد والمفسدين، واللصوص والمهربين في ولاية جنوب كردفان.. وتشكَّلت على الفور جبهةٌ عريضة من المحامين الأكفاء لتشُد من أزر السيدة عوضية، وللدفاع عنها، وعن زملائها، وبالمجان، ولدعم موقفها ضد السيد الوالي!
ثم صاحب فتح تلك البلاغات نشاطٌ موَّاز من الناقمين والناقدين، ومن غيرهم، يتناول ما يُسمى (فساد) الوالي بكل جرأة وشجاعة هذه المرة، وأصبح بعض الناشطين يكتبون أسماءهم صراحةً، ويوجهون له اتهامات الفساد، والسرقة مباشرةً، ودون مواربة، وبتحدٍ له ولسلطاته.
ولقد عرفتُ شخصياً -وكنتُ أجهل- ومن خلال تلك المقالات الجريئة، أن السيد الوالي هو من دارفور أصلاً، وأنه ليس من جبال النوبة، ولهذا لا يهمه -كما تروِّج تلك المقالات- إنسانُ جنوب كردفان، ولا حيوانها، ولا زرعها، ولا ضرعها! ثم أن المقالات الأسفيرية جاءت بأرقام للنساء اللاتي أجهضن، ولأعداد الماشية التي نفقت، والأراضي التي خُرّبت جراء عمليات التعدين- التي يقودها الوالي كما يزعمون- من جراء استخدام مادة السيانايد الكيميائية السامة في عمليات التعدين.
وقال الناشطون: إن كل أو أغلب الشركات التي مُنحت امتيازات التعدين في الولاية، إما أنها تؤول إلى الوالي شخصياً، أو إلى أسرته، أو أهله، أو أصدقائه، هكذا روّجت المقالات!
والأعجب من هذا كله، أن المقالات أصبحت تقول صراحةً إنَّ العربة الدستورية التي ضُبطت تهربُ ذهباً، إنما كانت تؤول لوالي جنوب كردفان نفسه، وأن ابناً له ضُبط في تلك السيارة، وأن سبائك الذهب المضبوطة يقدَّر وزنها بسبعة وخمسين كيلوجراماً أو بشئٍ قريبٍ من ذلك !! يعني أن أبواب جهنم قد فُتِحت على السيد الوالي من جميع الاتجاهات!
طبعاً، وبداهةً، قد يكون بعض، أو كل تلك الاتهامات كذباً صُراحاً، وتلفيقاً محضاً، وتشويهاً متعمداً، ولا تحمل ذرةً واحدةً من الحقيقة، وأن الوالي مُبرَّأٌ مما يقولون فيها تماماً، ولكن من يقل للأسافير ذلك بعدما نشرت وانتشرت؟! ومن يرُد عليها؟! ومن يبرئ الوالي من اتهاماتها بعدما سار الرُّكبان بأخبار الفساد والسرقة والتهريب المنسوبات إليه؟!
ولهذا، فالسيد الوالي -في رأيي- لم يكن ليحتاج إلى مزيدٍ من التبشيع، والتشنيع، ولا إلى هذه الحرب الإسفيرية الشرسة لو أنه سكت، وتجاهل، مثلما يسكت ويتجاهل كلُّ المتهمين من المفسدين -بحق وبغير حق- في هذا الزمان الإنقاذي العجيب، الذي لا يُبَرَّأُ فيه من أهل الإنقاذِ أحدٌ، من أكبر كبيرهم إلى أصغر صغيرهم!!
هل سمع أحدُكم مثلاً أن والي الخرطوم السابق عبد الرحمن الخضر قد فتح بلاغاً ضد جهة، أو جريدة، أو أحد اتهمه بالفساد المشهور والثابت في مكتبه؟! هل سمعتم أن عبدالرحيم محمد حسين تظلم من أحد بشأن الفساد فيما يسمى لمفسدة العمارات المنهارة؟! هل سمعتم أن الشريف أحمد عمر بدر اشتكى أحداً (كالفاتح جبرة مثلاً) بشأن مفسدة مطار هيثرو المعروفة والموثّقة والثابتة؟!هل سمعتم أن أحداً من إخوان الرئيس، أو حاشيته، أو أهله، أو أصدقائه اشتكى أحداً؟!
السيد عبد الحليم المتعافي قال إنه (يعرف القانون كويس، وأنه ليس كيشة) يقصد ليس (كيشة) حتى يدبِّسه أحد في قضية فساد، أو خلافه!! وظل الناس يقولون بفساده ليلَ نهار، دون أن يأبه لذلك، ودون أن يشتكي أحداً.. ببساطة لأنه ليس (كيشة) كما قال بالضبط !!
طيب، لماذا -يعني- والي جنوب كردفان، وحده، يريد أن يكون أحسن من هؤلاء جميعاً، وأنظف وأطهر ؟! لماذا يريد سيادته أن يتميّز عليهم؟! وهل يعتقد معاليه أنه إذا تميَّز، وطهُر، أن ذلك سيكون مثلبةً في حقه أم محمدة ؟!!
في رأيي، لو أن السيد الوالي قد اكتفى بوضع لافتةٍ مكتوب عليها (منزل أهرار)، مثلما كان يفعل (أهرار) شارع مستشفى أم درمان في ذلك الزمان (النظيف، معدوم الفساد)، ثمّ طنَّش، مثلما يطنِّش (الجلَّابة المفسدون النُّجاض) في حكومة الإنقاذ لكان خيراً له وأرحم، وأقربَ للتقوى، ولكان انصرف عنه ناشطو الأسافير بعد حين، ولَمَا تكوّنت جبهةٌ عريضة من المحامين المتفرغين مهمتهم فقط إثبات فساده.. وأمَّا أنه قد اختار أن يكون (دارفورياً) حِمشاً، وليس (جلابياً نجيضاً)، واختار أن (يكاجِر) (ويعاضض) (ويكاجم) لإثبات براءة، وطهرانية في بحرٍ لُجي من مفاسد الإنقاذ، ونهبها، وبَـلعَها المشهود، ففضلاً عن توسّع دائرة الإشانة له، فإنَّ تلك البراءة، ولو ثبتت، فلن يصدقها عنه أحد، ولن تنفعه، وربما (أضرَّت) به، ولربما ندِمَ عليها، وسوف لن ترُد له سمعةً مبهدلة، ولن تدفع عنه اتهامات الفساد، والتهريب، التي سار بها الخلق أجمعون، إلى جهات الدنيا الأربع، وسوف لن يسمع هؤلاء الخلق ببراءته بعد ذلك، ولو ثبتت يعني ميتة وخراب ديار!