ما من أزمة أو مأساة إنسانية يمكن أن تخطر على قلب بشر، إلا وكان للوطن منها نصيب الأسد في عصر المتأـسلمين والمنتفعين، عهد حكومة الإنقاذ بنُسخها المختلفة.
في ظل هذا النظام المأزوم تدحرج الوطن نحو الهاوية والسقوط إلى أسفل سافلين. عهد ضاعت فيه القيم والمثل لدى الحاكمين الذين يفترض فيهم أن يمثلوا القدوة، ولكن ما أن نسمع بجريمة فساد سياسي أو إداري أو مالي، أو جريمة إخلاقية ارتكبها أحدهم إلا ونُفاجأ بآخر، وقد تجاوز سابقيه في سوء الممارسة، كأني بهم يتسابقون في هذا المضمار. ولاية الأمر لأمثال هؤلاء وضعت بلادنا بذيل القائمة في كل أمر محمود سواء كان وطنياً أم إنسانياً.
أصبح السودان مصنفاً في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ومن الدول الأكثر فساداً في ظل غياب الديمقراطية، وأسس الحوكمة الرشيدة والشفافية والعدالة، كما يتذيل قائمة دول العالم في مؤشر الديمقراطية والدول الأكثر حجراً على حرية الإعلام والصحافة، ومن الدول الأسوأ من حيث ممارسة الأعمال. أما جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية، فإنها لم تسلم أيضاً من هذا السوء؛ لتكون في مؤخرة الركب، كما أصبحت شهاداتها يشوبها الطعن وعدم الاعتراف بها في أحيانٍ كثيرة.
أما العاصمة الخرطوم فقد صُنفت كإحدى أسوأ المدن التي يمكن أن يعيش فيها الإنسان. ذلك كله ليس بالغريب، فحين أصبح اسم السودان يتردد بكثرة في الإعلام بتهمة رعاية الإرهاب، أبدي عراب النظام د. الترابي فخره وإعجابه بذلك قائلاً: “إن السودان أصبح مشهوراً، وعلى كل لسان وإن هذه محمدة”.
وحكامنا ساروا على نهج شيخهم وافتنوا في الممارسات الخاطئة، وخلق الأزمات، وتعذيب المواطنين ومضايقتهم في معاشهم، وملاحقتهم بالإساءات اللفظية، حتى أصبح لكل قيادي أو وزير في الحكومة ملكية فكريه للفظ مسيئ للشعب السوداني.
تفاقمت الأزمات المعيشية الأيام الماضية لدرجة أصبح فيها المواطن مكبلاً ورهيناً للصفوف بتنوعها، يصبح ويمسي زاحفاً فيها طمعاً في الحصول على ضروريات الحياة، وتوقفت على إثرها عجلة االإنتاج والخدمات والتنمية، وحركة التواصل الاجتماعي والنظام لا يبرح موقفه من عدم الإعتراف بالأزمات.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تعرض الموسم الزراعي الذي حلّ أوان حصاده لدمار هائل نتيجة انعدام الوقود في وقت حرج، الأمر الذي يمهد وينذر بإفلاس المزارعين تتبعها مجاعة ماحقة.
لقد بدأت آثار الكارثة الاقتصادية تتمدد لتشمل حياة البشر والحيوان في آن واحد، إذ طال العطش الإنسان والحيوان على السواء. ففي المدن والأرياف تمددت الصفوف بحثاً لجرعة ماء يسد الرمق، مع حديث عن موت أعداد من البشر عطشاً في مواقع التعدين، وغيرها، ونفوق كميات من الثروة الحيوانية في مواقع متعددة.
طول الصفوف داخل المدن والأرياف أمام طلمبات الوقود أينما ذهبت تغني عن السؤال والوصف؛ إذ تمتد لتغطي وتسد الشوارع حتى أصبحت صالحة للتنافس فيما بينها للنشر في موقع جينس للأرقام القياسية كما يتندر الناس.
وفي الساحة الخضراء اختلق النظام نوعاَ آخر من صفوف فشلها حيث يصطف المواطنون في محاولات الفوز بكمية ضئيلة من السكر لشهر رمضان الكريم بسعر تدعي الحكومة أنه مخفض، إذ يباع الجوال بمبلغ خمسمئة جنيه مقابل أكثر من ألف جنيه للجوال زنة الخمسين كيلوجراماً في السوق الأسود.
وهذا أمر تروج له الحكومة دون خجل ولا حياء، ويتناقله جلاوزتها من أصحاب الأفق الضيق في الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي كأنه إنجاز.
المدهش في الأمر أيضاً أن يخاطب وزير التجارة برلمان البصم والتصفيق ليقول أن الأسعار مبالغ فيها دون تقديم حلول.
ويبقي السؤال: أليست هي مسؤولة الوزير وحكومته القانونية والأخلاقية توفير السلع الضرورية وضبط أسعارها؟ أو ليس إعلان الحكومة عن بيع ما تسميه من سلع مخفضة في مواقع معينة اعترافاً منها بالفشل في القيام بواجباتها؟ والأدهى والأمر أن المواطن في كثير من الحالات يدفع قيمة ترحيل عالية لما يشتريه من سلع يسمونها مخفضة، في ظل أزمة الوقود؛ ليكتشف في نهاية الأمر أن التكلفة ليست بأقل من سعر السوق الأسود إن لم يكن مساوياً أو متجاوزاً له.
في ظل هذه المأساة الوطنية يظل المسؤولون ينكرون وجود أي أزمة، فمنهم من نكرها وهو يردد الأزمة وين؟ وهناك من يبحث لها عن مبررات واهية تأتي في كثير من الأحيان مضحكة وتدعو إلى السخرية. أما من يعترف بالأزمة فيقول بها على استحياء، ولا أحد منهم يملك أو يقدم حلاً. أما شيوخهم فلا يكفون عن حديثنا عبر فتاويهم وخطبهم من على منابر المساجد بالتذكير بالابتلاءات العظيمة التى مرت على المسلمين، وأخذ العبر منها، وكيف أن صفوف البنزين تحولت إلى دور عبادة يذكرنا بدولة الخلافة، فسبحان الله ورحم الله الشيخ محمد الغزالي الذي أورد في كتابه الإسلام المفترى عليه (كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس، أو ترضيهم بالدون من المعيشة، أو تقنعهم بالهون في الحياة، أو تصبرهم، والرضا بالدنية، فهي دعوة فاجرة، يراد بها التمكين للظلم الاجتماعى، وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد، وهي قبل ذلك كله كذب على الإسلام وافتراء على الله).
وفي ظل كل هذا الظلم والجور من الحكام والتبرير من علماء السلطان، فإن من يجرؤ على رفع صوته من المواطنين، وبقول بفشل النظام، وضرورة حل الأزمة أو ذهابه، فالاجابة حاضرة تبشر بطول إقامة النظام مع التأكيد أن الأزمات لن تسقط الحكومة، وأن من يتوقعون ذلك حالمون.
ولا يقف الأمر عند التصريحات فقط، بل يجري استهداف كل محتج أو صاحب رأي أو موقف من خلال مطاردته من الأجهزة الأمنية لينتهي به الأمر حبيساً في السجون، وهكذا أصبح الشعب السوداني بين فكي الرحى: صفوف الأزمات، وكفوف النظام، والله المستعان.