أستاذي الأغر (النور محمد حمد) وليس (النور حمد) .. هكذا كما كانت تحلو لنا أن نناديك حين كنا علي مقاعد الدرس بين يديك متجاوزين ما أشتهرتَ به مؤخراً..
أعاودُ الإسهام في حلقتى الثانية تعقيباً على سلسلة مقالاتكم القيمة عن إنتخابات ٢٠٢٠م المزمعة، والتي تركت أبواباً مشرعةً علي كل شأننا السياسي والمعارفي، إذ كانت رؤوس أقلام لمبحثٍ عريض نرجو أن يجد حظه من المدارسة والتمحيص.. وكما وعدتُ سأقف عند ما ذكرتَه، إستناداً إلي ما كتب الأستاذ السر،حيث يرشدنا إلي التجربة الإنتخابية للسنغال، مستشهداً بتجربة الرئيس عبدالله واد فيها، وسأنتهزُ هذه السانحة للتعليق على تجارب أخري عديدة طفحت بها الأسافير، من دعاة الإنتخابات كوسيلةٍ لإسقاط النظام، حيث فيها يدعوننا لإقتفاء أثر تجارب دول أخرى كالسنغال كما يشير الأستاذ السر، وكما يشير غيره إلي تجارب كينيا، وتجربة كلٍّ من ، صربيا وكرواتيا.
وما أُعيبَهُ فيمن يرُدُّوننا إلي هذه التجارب أنهم لا ينيرون طريقنا، بإستصحاب الدراسات المقارِنة، فقط هم يريدوننا أن نتبع من نصحونا بتجاربهم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضبٍ خرب! وما يثير الإستغراب فعلاً أن واقعنا لا يشبه واقع تلك الدول التي يحيلوننا إلي تجاربها، وما أحسنوا نُصحاً، إذ لَم يأخُذُوا قلوبنا (عِنْدَ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا ، وَلا تركوها عِنْدَ فَتْرَتِهَا وَإِدْبَارِهَا) على قول إبن مسعود في إحسان النصح.
دعني أفترعُ مفاكرتي بما أوردتَه في مقالك الأول ،التجربة السنغالية، إذ لم أجد وجهاً للشبه بين ما نعيشه اليوم وبين ما جرى في السنغال التي عُرِفَتْ بأن تجربتها تُعتبر أكثر التحولات الديمقراطية نجاحاً في أفريقيا بعد الحقبة الإستعمارية، وهي صاحبة أكبر رصيدٍ في تجارب الإنتخابات، والتداول السلمي للسلطة، وستكون إنتخاباتها القادمة هي الإنتخابات الرئاسية العاشرة.. وقد حققت السنغال تراكماً إنتخابياً لم ينقطع منذ العام ١٩٦٠م.. ولعلنا نقف على حقيقة هامة وهي أن السنغال تعد الأعرق إنتخابياً في أفريقيا إذ عَرِفَتْ الإنتخابات منذ العام ١٩١٤م حين أُنتخب (بليز دياقن) كأول نائبٍ أسود في الجمعية الوطنية الفرنسية ممثلاً لمدنٍ أربع هي داكار، روفيسك، سان لوي وجوري قبل أن يُمنح الحق الإنتخابي لكل سكان السنغال لاحقاً في العام ١٩٤٦م.
وفي العام ١٩٦٠م شهدت السنغال أول إنتخابات رئاسية ونيابية، فاز فيها حزب الإتحاد التقدمي السنغالي (حزب ليوبولد سنغور) الذي فاز بالرئاسة دون منافسة.. وفي العام ١٩٦٦م تبنت السنغال نظام الحزب الواحد، وإستمر سنغور حاكماً أوحداً يفوز بالدورات الإنتخابية المتوالية حتي العام ١٩٧٣م.. وفي العام ١٩٧٦م عُدِّل الدستور ليسمح بالتعددية الحزبية..وفي العام ١٩٧٨م كانت أول انتخابات تعددية وهنا بدأ عبدالله واد زعيم المعارضة عن الحزب الديمقراطي السنغالي في الظهور لينافس سنغور.. وإستمر في المنافسة حتى في عهد عبده ضيوف !! وقد شهدت محاولاته الدؤوبة في التنافس تزايداً في شعبيته حتى تمكن من الفوز آخيراً في إنتخابات ٢٠٠٠م، وظل يعاود الفوز إلى عام ٢٠١٢م حيث أُسقطه رئيس الوزراء (مكي سال).
ولذلك فعبدالله واد خرج من رحم النظام الحاكم، في بيئةٍ ديمقراطيةٍ معافاة، وِفق قوانين اللعبة الديمقراطية، وأشراط التداول السلمي للسطة، ولا أظنكما أستاذيَّ تنصحان بأن تثابر أحزابُنا كمثابرة عبدالله واد لأثنين وعشرين عاماً أخرى لتسقط الإنقاذ!!
أما تجارب كينيا، فهي محض تحشيد يدعم بها دعاة المشاركة مرافعاتهم، وهي أيضاً ليس فيها ما يمكن الإهتداء به في مسعانا لمنافسة الإنقاذ إنتخابياً. فلو نظرنا إلي تجارب كينيا الإنتخابية المشار إليها، لأستوقفتنا الإنتخابات التي أعقبت عهد الرئيس (أراب موي) الذي منعه الدستور من الترشح بعد حكمٍ دام لأربع وعشرين عاماً من ١٩٧٨م وحتي العام ٢٠٠٢م.. إذ في تلك الإنتخابات تنافس نائبه مواي كيباكي وأوهور كنياتا، وبمراقبة أجانب من بينهم بعثة الإتحاد الأوربي بعدد ١٤٠ مراقباً.. وجرت الإنتخابات كأول إنتخاباتٍ ديمقراطية في كينيا، ولم يسجل فيها أي حدثٍ غير مناقشات بين المتنافسيْن في مومباسا.
أما في إنتخابات العام ٢٠٠٧م، والتي جرت بين الرئيس (كيباكي) ومنافسه (أُودينجا) أو بصيغةٍ أخرى بين قبيلتي (الكيكويو) (واللوو) وحليفاتهما، وإذا ما أردنا قراءةً نصيحة لها فيجدر بنا أن نقف عند حقيقة أن كينيا بل وأفريقيا السوداء حولنا، تختلف عنا تماماً..فهذه شعوب تتسم بالعنف والنفَس الطويل، بينما نحن شعبٌ مسالم، وقلق، ولا صبر له على المداومة على أي عملٍ سواء أكان مقاومةً أو خلافه ، كما أننا شعبٌ منغمسٍ في السياسة على نحوٍ يناسبه وحده كما سنفصل فيما سيجئ لاحقاً.
الأحزاب السياسية في كينيا، وربما في غالب أفريقيا، تعتمد علي القبيلة، والقبيلة الأفريقية متماسكةٌ جداً وليست كقبيلتنا التي لا تجتمع علي هدفٍ أو موقف، كما فات على خيالنا مقدرة المعارضة الكينية، والإفريقية بشكلٍ عام علي التوحّد، وعادةً ما تتوحد القوى المعارضة في وجه القوة الحاكمة بنحوٍ تتوحد فيه القبائل المبعدة عن الحكم ضد القبيلة الحاكمة، فضلاً عن أن أي عنفٍ في كينيا لن يستمر، وسيؤدي إلي تدخل الأسرة الدولية كما رأينا من ضغوطٍ دولية تواصلت على القيادة الكينية للقبول بمراجعة نتيجة إنتخاباتٍ العام ٢٠٠٧م، إذ طالب الإتحاد الأوروبي، ومجموعة الكومنولث الرئيس كيباكي بالتحقيق في التقرير الأوَّلي الذي أصدره مراقبو الإتحاد الأوروبي للإنتخابات الرئاسية والذي وصفها بأنها “معيبة ولم ترق للمعايير الدولية”.
كما سحبت أمريكا تهنئتها للرئيس الكيني، وأصدرت بياناً مبديةً مخاوفها، وداعيةً جميع القيادات والأحزاب السياسية من أجل الإتفاق على حلٍّ وسط يمهد للديمقراطية، والأهتمام بالجوانب السياسية والقانونية.. بل لقد أرسلت أمريكا مساعدة وزيرة الخارجية للشئون الأفريقية للمساعدة في إيجاد حل لتلك الازمة !! كما تداخل “رئيس الوزراء البريطاني” فى تلك الفترة (غوردون براون) والأمين العام للأمم المتحدة (بان كي مون) والإتحاد الأوروبي، والإتحاد الأفريقي، وجمعية شرق أفريقيا لحلحلة تلك الأزمة، بالإضافة إلى تدخل(كوفى عنان) الأمين الأسبق للأمم المتحدة، فضلاً عن التحرك النشط لكلٍ من المفوض البريطانى، السفير الأمريكى، السفير الفرنسي، والممثل المحلى للإتحاد الأوروبي، إضافةً إلي التسهيلات المقدمة من قبل ممثل البنك الدولى (كولن بروس).
وكل هذا الإهتمام يعود لأهمية كينيا الإستراتيجية المتمثلة في وجود لقواعد بريطانية فيها، ولوجود مكتب الأمم المتحدة ، وبعثة حفظ السلام..غير ذلك، فإن كينيا تعتبر مركزاً لإدارة الصراع الغربي الصيني في إفريقيا، والصراع حول منابع المياه، والقرن الافريقي، وشرق أفريقيا.. إذن فالوضع الإستراتيجي لكينيا، ليس هو الوضع الإستراتيجي لدولتنا المنكوبة، والتي تستمر حروبها، وأحداث عنفها عقوداً من الزمان دون أن ينبض عرقٌ واحد في قلب ما يسمى بالأسرة الدولية !! فالإنتخابات في أفريقيا، ولو تدثرت بدثار الحزبية، هي في حقيقتها موسمٌ لتصفية الحسابات القبلية! ولا نزايل هذه الفقرة حتى نذكر أن كينيا، وربما غالب الدول الافريقية، لا زالت تحتفظ الدولةُ فيها بمأسسةٍ معقولة مقارنةً بدولتنا الإنقاذية، إذ لا زالت المؤسسات فيها قادرةً على القيام بأدوارها، كما رأينا من المحكمة العليا وما أصدرت من أحكام بشأن الإنتخابات الكينية عام ٢٠١٧م.
علي أية حال لا يمكن المقارنة بين شعبنا والشعوب الأفريقية، التي لا تتوانى في خوض بحور الدماء، وتسعى للتصعيد، والإنتقام بينما شعبنا على النقيض من ذلك، ولنا في أحداث سبتمبر ومقتل أكثر من مائتي شهيد فيها خير دليل، إذ لو كان هذا الحدث في أي دولةٍ أفريقية أخري، لما توقف حمام الدم فيها إلي يوم الناس هذا !!
ومهما كان خيالنا خصباً فلا أظننا نستطيع أن نتصور في حال فاز البشير -بالدغمسة كما هي العادة- في إنتخابات ٢٠٢٠م المزمعة، أن جهازنا القضائي عندئذٍ سيقبل النظر في أي إدعاء بالتزوير وعدم الشفافية، أو أن نتصور غضبة الجماهير، وتحرك الكتائب القبلية الشايقية لنصرة الصديق عادل عبدالعاطي المنافس للبشير حال فوز البشير عليه !!
أما المفارقة الأكبر، فهي إحالتنا إلي تجارب دول أوربا الشرقية في التحول الديمقراطي.. فالدول المشار إليها معظمها كانت تعيش حالة نصر، وطغوان وطني، بعد أن تفاصلت مع الإتحاد السوفيتي السابق، أو يوغسلافيا، وغير هذا، فإن شعوب تلك الدول نالت من الدّربة السياسية كشعوب نمت وترعرت في حجر النظم الشيوعية، ما يعينها ويسددها، وهي شعوبٌ تعرف الحق والواجب..صحيح أن الانظمة التسلطية التي كانت تحكم تلك البلاد، لم تكن تُجري إنتخابات حرة، ونزيهة بشكلٍ تام، حيث ركزت النخب الحاكمة في تلك الأنظمة علي أن تؤسس شرعيتها علي الإنتخابات الصُّورية، وحاولت أن تطرح نظماً أشبه بالنظم الديمقراطية، وذلك بالسماح بمساحةٍ ضيقة، ولكنها حقيقية للتنافس السياسي وبها قدر من الشفافية في العملية الإنتخابية، ولهذا، وعلى الرغم من عدم النزاهة الكاملة، إلا أن المعارضين الحقيقيين كانوا قد وجدوا فرصةَ دخول البرلمانات، وتمكنوا من بسط وجودهم السياسي، وتمكنوا من الإعداد، والتبشير بثورةٍ تغير من الواقع الإنتخابي.. وهنا لا يفوتنا أن هذه التجارب كانت في دولٍ عريقةٍ جداً.. دول تحترم مؤسساتها، إذ لم تمتد يد أنظمتها الشمولية، برغم كل شئ، إلي العبث بالجهاز القضائي مثلاً، أو بالأجهزة المحلية، مما أتاح للقوى المعارضة فرصةَ التحول التدريجي، لمنافسٍ حقيقيٍ للحكومات الشمولية القائمة !!
ففي أوكرانيا مثلاً، وحينما أعلن (يانوكوفيتش) فوزه في إنتخابات وصفت بأنها مزورة في العام ٢٠٠٤م، إستناداً على حكم المحكمة العليا..ساعدت الظروف والقرائن أن يكون حكمُ المحكمة العليا هذا دافعاً وسنداً للمعارضة (الثورة البرتقالية) والتي زاد من عنفوانها أنها كانت مواليةً لأمريكا وأوربا.. كما عزز من فرص نجاح المعارضة في أوكرانيا وحدتُها وكريزما (يوتشينكو)، ونزاهتُه السياسية، والتدريب العالي لكوادر العمل المعارض، ودور القومية المدنية في التعبئة، ومساندة السلطات المحلية في كيييف، والبنية التحتية المتطورة للإتصالات والمعلومات، كل ذلك سهّل عملية التغيير وقلل من كلفته، كما أن طول الحملة الإنتخابية التي إستمرت لستة أشهر، مع حياد قوات الأمن، والمساندة الدولية وعدم إعتراف أمريكا بنتيجة الجولة الأولى للإنتخابات، هذا كله أدى لإندلاع ونجاح الإحتجاج السلمي في كييف والذي قاد من ثمّ للتغيير.. فهل يتشابه ظرفنا مع ظرف هذه الدولة؟! وهل نملك واحداً فقط من عوامل النجاح التي إحتازوا عليها؟!
أما صربيا فقد ظلت حملتها أمداً طويلاً تحت الأرض خوفاً من عسف (سلوبدان ميلو سيفيتش). وقد عملت (أوبتور) منذ ١٩٩٨م، مستفيدةً من الحملة العسكرية التي قادها حلف شمال الاطلنطي ضد صربيا، وقد قادت حملتيها الموسومتين ب (هو إنتهى) و (الخروج) في ٢٠٠٠م، وقد وجدت شعباً متحداً، وعلى درجةٍ عالية من الوعي السياسي، والحماسة ليتجاوب معها في المشاركة في الإنتخابات، ومراقبتها، لضمان نزاهتها، وحين تم التزوير إستطاعت (أوبتور) من خلال (المعارضة الديمقراطية) من تجميع نصف مليون شخص من جميع أنحاء البلاد ليجبروا (سلوبدان ميلوسيفتش) بإقرار التزوير، والإعتراف بالهزيمة.. فهل -يا تُري- يحتاز البشير أخلاق سلوبدان ميلوسيفتش؟!
أما جزئية عدم إلتحام الأحزاب مع الجماهير، وأختيارها أقصر السبل إلي السلطة، والتي نسجلها في مقتطفنا التالي والمأخوذ من مقالك الثاني أستاذي الكريم ’’ تجنب خيار الإنتخابات من جانب قوى المعارضة، وفقا للذرائع المعلنة، لا يمثل في تقديري، سوى إصرارٍ على السير على ذات النهج القديم، وهو النهج القائم على تجنُّب دفع إستحقاقات كرسي الحكم، وهو العمل مع الجماهير، على مستوى القاعدة، ونيل تفويض حقيقي منها. فالداء العضال، الذي لم تُشف منه القوى السياسية السودانية، حتى يومنا هذا، إنما هو غرامها الدائم بإختصار الدروب إلى كرسي الحكم. وهو ما يسمى بالـ (shortcuts)، التي تعفي منتهجَها من بذل الجهد البنائي، الحقيقي، الذي يصب في ترسيخ المسار القاصد نحو صناعة تغيير حقيقي؛ يبدأ من الجذور مستهدفًا تحديث القواعد الشعبية، ومأسستها، وتفعيلها، وجعلها صاحبة القرار السياسي، أو على الأقل، جعلها شريكةً حقيقيةً فيه‘‘..إنتهي
أتفق معك تمام الإتفاق فيما ذهبت إليه، فهذا ما درجنا على قوله حين نريد أن نعاير بعضنا بعضاً كأحزاب، أو حين نريد أن نجلد ذواتنا، ذات فشل، فيما كان علينا أن ننجزه.. وما يأسى له المرء أننا لا ندرس الظواهر، ولا نحللها كما ينبغي علينا كمثقفين وباحثين..
دوماً نتحدث عن الجماهير، ودور الجماهير في التغيير، وبطولات الجماهير.. وهي كذبةٌ بلقاء، ظللنا نرددها، شأن الكذاب، وكلما فنِيت أحدوثةٌ قمطها من عنده بأخرى، حتى أنه يَصْدُق فلا يُصَدّق.. متى أسهمت الجماهير في التغيير؟! ومتى أنغمست الجماهير في الشأن السياسي؟! ومتى كان الصراع السياسي في السودان شأناً جماهيرياً؟!
أستاذي الأغر ..
أنا أدعي أن الصراع السياسي في السودان صراعُ نخبة، يتبادل فيه المواقع طرفاه: العسكري والمدني.. والتغييران اللذان حدثا في أكتوبر وإبريل، كانا بفعل النقابات التي أفلحت في تنفيذ العصيان، والإضراب الشامل الذي شلَّ أجهزة الدولة.. وعادةً لا تتدفق الجماهير إلي الشوارع إلا بعد أن ترفرف بيارق النصر !! ربما فتح عليَّ إدعائي هذا أبواب جهنم، ولكنها الحقيقة التي يجب أن نبدأ منها بحثنا.. هذه إشكاليةٌ بنيوية تجعل من تكرار هذا المشهد محتملاً، حتى لو أسقطنا الإنقاذ فلن يتبدل الحال ما لم تتغلب الأحزاب على قصورها الذاتي، وضعف أدوات إتصالها الجماهيري، وخطابها السياسي وطرائق عملها، لا لتحدِث تغييراً شاملاً وحسب وإنما لتحدث إختراقاً يمهد لتغييرات تتراكم، لتحدث التغيير الشامل الذي ننشد !
أحزابنا السياسية أستاذي، أجهزةٌ موغلةٌ في الفوقية، والصفوية، وهي أندية متعلمين، لم تتغلغل في بنية المجتمع بعد، مما يجعل صراعنا السياسي صراعاً فوقياً لا يشمل بعداً جماهيرياً حقيقياً ! ومردُّ هذه الصفوية، والفوقية يعود إلي طبيعة مجتمعنا، وتشكُّله الإجتماعي.
وكنتُ أحسبُ، وبما أنك قد كتبت عن الرعوية، مارد الهضبة الإثيوبية، ودراسة قيمة لك عن الريف، كنتُ أحسبُ أنك ستكون منتبهاً لهذه الوضعية المأزومة التي جعلت السياسة شأناً صفوياً، وحصرت الصراع السياسي في النخبة، دون تأثيرٍ واضح للسواد الأعظم من الجماهير !
وهذه الوضعية المأزومة، لو أخضعناها لتحليلٍ إجتماعي حاذق، لوجدنا من الأسباب ما يبرِّر قصور الأحزاب الأدائي، وتكرار مشهد عسكر-ديمقراطية هذا..فنحن دولةٌ (عالمثالثية)، في مرحلة ما قبل الرأسمال، بكل خصائص تلك المرحلة، بل إن أطرافاً من سوداننا، وحتى وقتٍ قريب جداً، كان بالإمكان نسبتها إلى المشاعةِ البدائية –حتى الستينيات– حيث كان الناس يعيشون عراةً علي نمط حياة الجمع والإلتقاط والصيد.. وزاد الطين بلة، أنه عُقيب الإستقلال، كانت القوى الإجتماعية المحركة للمجتمع، قوى غير حقيقية المحتوى الإقتصادي، والإجتماعي، فهي لم يفرزها حراكٌ اجتماعيٌ طبيعي..ولم يكن دورها الإقتصادي وليداً لسياقٍ طبيعي، وإنما إستولدها الإستعمار أنبوبياً.. فما كان لها أثرٌ فاعلٌ يذكر في التأثير على الحِراك، والفرز الإجتماعي، كما لم تتمايز عندنا التشكيلات الإجتماعية، فكانت وحدة الإنتماء للفرد منسجمةً مع واقعه الإجتماعي، وما تعدى ذلك هي الإنتماءات القرابية، في إطار الأسرة، والعشيرة، والقبيلة وفي أفضل الأحوال الإثنية والطائفة.. فبدا غالب مجتمعنا كتلةً واحدةً ولكنها غير متجانسة، في مقابل شريحةٍ من المتعلمين، والبرجوازية المصنوعة..وهنا أصبح الكيان التقليدي غالباً، مع تفاوت في مستوى الوعى لدى طرفي المجتمع !!
ولعل إنشاء المستعمر لمشروع الجزيرة قد فاقم من هذا الوضع الإجتماعي المخلول، فقد كان المشروع أساساً للتهميش الإقتصادي لأقاليم السودان المختلفة، فأصبح منطقةَ إنتاج ٍ حديث إعتمد علي فنٍ إنتاجيٍ حديث، كنظم الرِّي الحديثة، والدورات الزراعية، والمحاصيل المنتقاة، والآلات، والأسمدة ليستهدف إنتاجاً للتبادل التجاري ملتحقاً بالإقتصاد النقدي، والعالمي، وما عداه من مناطق إنتاج أصبح هامشاً إقتصادياً يوصف بالتقليدية لإستخدامه لفنون إنتاج بدائية، لأجل إنتاج إستهلاكي، لا يرتبط بالإقتصاد النقدي بشكلٍ كامل.. وما قُدم في هذه المنطقة من أجل المشروع من خدماتٍ إجتماعية، جعل ما عداه من مناطق هامشاً تنموياً ليس إلا.. ومن المؤسف أن الإستعمار قد تعامل مع المشروع كبقرةٍ حلوب يُحسن إعلافها، بينما لا يعلف العجاف من البقر الأخريات.. ولا يقف الأسى عند هذا الحد، بل يزيد ويتطاول، حينما نجد أن الحكومات الوطنية من بعد الإستعمار سارت علي ذات النهج، الذي عمَّق من التهميش أكثر وأكثر، بإعتماده علي تطور إقتصادي لا تكافؤ فيه.. فلم يكن مشروع الجزيرة -بالأفق الذي أنشئ عليه- إلا محققاً لمصالح الإستعمار، ولكنه لم يكن حجر زواية إنطلقت منها التنمية الإقتصادية، والإجتماعية، وإنما كان حجرَ زاوية التهميش الإقتصادي لأقاليم وأقاويم السودان المختلفة.. التهميش الذي ظل رحماً موبوءةً تنسرب منها مشكلات السودان الإقتصادية، الإجتماعية والسياسية بدرجةٍ تهدد المشروع الوطني بكامله..غير أن أكبر سلبيات قيام مشروع الجزيرة، والسياسات الإقتصادية التي إرتبطت به، هو إهمال القطاع التقليدي المطير، حيث الزراعة المطرية، والرعي، واللذان يتعيَّش فيهما أكثر من ٨٧% من سكان البلاد، حتى ستينيات القرن المنصرم، مقابل ٧٠% في تسعينيات ذات القرن، ومن ثم جعل السيادة الإقتصادية لا تزال للإقتصاد الرِّيعي.. وهكذا نري أن ما خلَّفه الإستعمار من هيكل وسياسة إقتصادية إتبعته الحكومات الوطنية بحِذفاره، مما أدى لتضيُّق قاعدة الإقتصاد، وإهمال بقية أجزاء البلاد، والقطاع التقليدي، ليتعمق التمايز الإقتصادي والإجتماعي !! هذا الواقع وسّع من رقعة المجتمع التقليدي، الذي كانت بعض دراسات التسعينيات تقول إنه يشكل ٧٠% من سكان السودان (المؤتمر الزراعي ١٩٩٦م)، إلا أن هذه النسبة قلت حسبما تشير بعض الدراسات المتأخرة ، لا لإنتقالهم إلي وضعٍ إجتماعي أفضل، أو لخروجهم من التقليدية، وإنما بسبب الحروب، وما ترتب عليها، وللفقر، والعوامل الطبيعية، وأنماط الإنتاج غير المتوازنة، مما سبب آثاراً إجتماعية سالبة فيما يتعلق بالقطاع التقليدى، كما سبب نزوحاً سكانياً كبيراً إلي المراكز الحضرية بلغ ٤٠% من إجمالى تعداد سكان السودان، علماً أن غالبية المهاجرين إلى الحضر يأتون من مناطق القطاع التقليدي، وهم بلا مهاراتٍ تؤهلهم لشغل وظائف حيوية، فيشكلون كانتونات، وأحزمة تمتهن المهن الهامشية بوعىٍ إجتماعيٍ يتقاصر عن إدراك بيئتهم الجديدة، فأضافوا قدراً من ’’الترييف‘‘ للمدن وخاصة العاصمة، دائرة الفعل السياسي الأساسية، ولهذا فجماهير العاصمة اليوم هي ليست تلك الجماهير المشبعة بالوعى إبان ثورتي أكتوبر وإبريل..وغالب جماهير العاصمة اليوم ممن جاءوا من الهامش، ومن القطاع التقليدي بحثاً عما يوفر لهم لقمة خبز وجرعة ماء! وحتى الذين أتوا من المدن الكبيرة، والصغيرة وأشباه المدن جاءوا من أجل المدارس، والمشافي، ولعيشٍ يفضُل ما كانوا عليه في مناطقهم التي جاءوا منها.. هؤلاء لا يسهل دخول ضرورة الإنتماء للأحزاب، أو التعاطي معها دائرة وعيهم !
فضلاً عن أن القطاع التقليدي في التخوم، تغلب عليه الريفية، والأمية الأبجدية، والحضارية التي تتعدى نسبتها ال٨٠% في ظروفٍ حياتية بالغة التخلف.. هذا هو غالب مجتمعنا: تقليديٌ، متخلف، رعوىٌ نشاطاً، وعقلاً، تسيطر عليه علاقات القبلية، العشائرية، والقرابية، في إنحسار ومحدودية المدينية والحضرية !! ويمكن للواحد منا أن يعبر خمسين قريةً في شمال كردفان، دون أن يقع بصره على مؤسسة حكومية، أو شخص يمثل الحكومة، خلاف أشياخ القرى! فالمواطن هناك الأرضُ أرضه، وب’’الشيل‘‘ يجد تمويله، وعند الفكي والبصير يجد علاجه، ومن الخلاء مواد بنائه، ومن البئر ماؤه، والحكومة لا تتداخل في حياته، ولا يكون منشغلاً بوجودها من عدمه!! وطالما أنه بلا علاقة مباشرة مع الحكومة، فهو أيضاً لا علاقة له بالأحزاب، والسياسة، إلا من باب الولاء العشائري أو الطائفي.
في ظل هذا الواقع البائس كان على الأحزاب السياسية أن تعمل، وتناضل من أجل كسب الزهاء الشعبي..غير أن الأحزاب، من حيث أنها أحزاب، عرفت أول ما عرفت في (الغرب) أنها مرتبطة بنظرية العقد الإجتماعي، كمحاولة لإبعاد المجتمع من سيطرة الدولة بإتاحة الفرصة لمنظمات المجتمع المدني للمشاركة في العملية السياسية، فهي -أي الأحزاب- منظماتُ مجتمعٍ مدني توجد حيثما توجد الحكومة، لذا كانت أحزابنا أسيرة المدن، حيث توجد الحكومة، وأهملت الريف حيث لا حكومة هناك، غير الصعوبات الأخرى التي حالت دونها والعمل الحزبي البنائي في الريف، حيث المجتمع التقليدي بكل أدوائه !!
ومع هذا فهناك دائماً بعض الإستثناءات.. فصحيح أن بعض الأحزاب قد سعت للتواصل الجماهيري بعزيمة لا تعرف الونى، فقد حاول الحزب الشيوعي مثلاً، بكل إمكانياته التنظيمية، والتواصلية، التغلغلَ في هذا المجتمع باعثاً كوادره إلي أقاصي الأرض في سودان المليون ميل مربع، ولكنه لم يحقق النجاح المنشود، إذ مستوى حياة الناس هناك، ومناشطهم التقليدية، والأرض المشاع كلها لا تنتج وعياً.. كما أن الأفكار التي ينتجها الناس في القطاع التقليدي ليست ناتجةً عن واقعهم المادي، وطبيعة نشاطهم الإقتصادي، وغياب صاحب العمل، والسلطة لا يخلق صراعاً، ولا رغبةً في التنظيم، فلم يجد الحزب الشيوعي ذلك القطاع الرعوي، أو الزراعي الحديث الذي يسمح بالتحشيد والتنظيم، بل وحتي في القطاع العمالي، لم تجد كوادر الحزب ما يمايزون به بين عاملٍ كاملٍ، وجزئي، وما بين بساطة العمل، وتعقيده، أو المهارة وغيرها، فعمدوا إلي عمال القطاع العام، وقطاع المثقفين بدلاً من القطاعات العريضة الأخري.
كما لم يفلح الجمهوريون، على خصوصية تجربتهم..وهكذا إصطدمت كل التنظيمات الحديثة بهذا الواقع، بما في ذلك الإخوان المسلمون، الذين نشطوا في قطاع المتعلمين، والمدن ومؤخراً، أحدثوا إختراقات بسلطة الخطاب الديني، واللعب على المتناقضات القبلية، والجهوية، وبالرشا، وبإستمالة رؤس القبائل، والبيوتات الصوفية والعشائرية.
أما الحزبان التقليديان، فقد إحتكرا ولاء القطاع التقليدي، اذ يتناسب واقع القطاع التقليدي وطبيعة الحزبين، إلا أن الحزبين التقليديين أيضاً لم يفلحا في تحويل هذا القطاع إلي قوةٍ تنظيمية، وحراكية، وظلت العلاقة بينهم هي علاقات ولاء طائفي، موروث، أو تشبيك قبلي، عشائري، صوفي، وظلت جماهيرهما في هذا القطاع رصيداً إنتخابياً فقط وليس رصيداً حِراكياً..لهذا كله، يمكننا أن ندعي بأن الأحزاب، هي وسيلةٌ حداثية، نريد أن نفعلها في مجتمع يوشك أن يكون (قرنوسطي).. وهذا أمرٌ بالغ الصعوبة.. ومع تقليدية المجتمع، وترييف المدن، وتفشي الجهل، فإن سيادة الأنظمة الديكتاتورية أعاقت التجربة الحزبية في السودان ولم تسمح للأحزاب بمراكمة تجاربها.. فالاحزاب نماؤها مرهونٌ بالحرية، والديمقراطية..وبداهةً فإن قولي هذا لا يعفي الأحزاب من مسئولية التقصير، إذ كان من الممكن- برغم هذا الواقع البئيس- أن تحدث تغييراً..وكان بمقدورها أن تحدث إختراقات جماهيرية مقدرة، لو تسلحت بالعزيمة، وتركت اليأس، ومحدودية النظر وقِصر النفس!!
وعليه، وقطعاً، فإن هذا الواقع لن يغيره مطلقاً خوض هذه الأحزاب إنتخابات ٢٠٢٠م، كما تقولان.. فهذا واقعٌ لن يتغير كليةً إلا بنهضةٍ إقتصادية، وإجتماعية، تغير من واقع المجتمع المادي، ونمط نشاطه الإقتصادي.. ولكن من جهة أخري فبإمكان الأحزاب أن تجد وتجتهد في التفعيل التنظيمي، والحركي، لماكينة كل حزب، بدرجة تجعل الحزب أو الأحزاب موجودةً في تفاصيل الحياة اليومية للمواطن.. فلا يبحث المواطن عن الأحزاب في دُورها، أو يترقبها في الصحف، وأجهزة الاعلام، بل من المفروض أن يجدها أمامه، وخلفه، ومعه، ودائماً في حيه، قريته، ومدينته.. وفي المدرسة، والمستشفي، والمسجد، وفي دار الرياضة، والمسرح ،والسوق، والورشة وفي أي مكانٍ يتواجد فيه المواطن.. وألا تنشغل الأحزاب بالزمن الذي يحدث فيه التغيير، وإنما يكون الإنشغال بتوفير أدوات التغيير، وتفعيلها، وأن تغير أحزاب المعارضة في خطابها متجاوزةً إنتقاد الحكومة، إلي توعية المواطن بالأزمة من خلال قضاياه المباشرة، وتوعيته بمآلات تلك الأزمة، وبدوره في التغيير، وكيف يمكن أن يسهم فيه، وطمأنته على ما بعد التغيير..
على الأحزاب الإلتصاق بالشعب، وتفعيله، وإستقطابه كعضوية، وكأنصار، وجماهير تجدها حين الدعوة لأي فعلٍ ثوري..فهكذا تبني الأحزاب نفسها، ويوم أن تلتصق بشعبها، وجماهيرها، ويوم أن تتغلغل في بنية المجتمع، ويوم أن تجوِّد خطابها، وحراكها سيسقط النظام بلا شك، وباقل جهد.. وهذا عين ما نفعله في حزب المؤتمر السوداني، فقد تقحَّمنا على الناس دورهم في حملات ساعي البريد، ومقار عملهم، وسبل مواصلاتهم، وفي قراهم، وبمخاطبة قضاياهم المباشرة، وبإشراكهم في مناقشة القضايا السياسية، وصناعة الرأي، ولا ندَّعى النجاح، ولكن يظل لنا شرف المحاولة..
نواصل في المقال الثالث بإذن الله..