فاز الشاب إيمانويل ماكرون(39) عاماً على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن، بنسبة أصوات بلغت 66.1%، وهو فوز لافت شكّل علامة فارقة يرجى أن تصبح حائط صد في وجه المد الديماجوجي اليميني المتطرف في أوربا.
ولكن لتثبيت أقدام هذا الإنجاز لا بد من كبح العقل اليميني بإنجازات اقتصادية تحد من البطالة، وإنجاز ثقافي يسهم في استئصال الإرهاب، ويعمق ثقافة الديمقراطية. وإلا سنشهد هدنة ينال اليمين المتطرف بموجبها فرصة لاستعادة أنفاسه. صحيح أن الأمم الكبيرة لا تقبل الأفكار الفطيرة، وفرنسا من خلال هذا التصويت أكدت عظمتها، ولكن وجود أفكار يمينية متطرفة في أي بلد وارد، فهي مرض ينبغي أن يثير فزعاً جماعياً يمنع التجاوب معها، وإلا ستتعرض الحريات العامة للتجريف، والحياة الفرنسية لمخاطر جمة.
وللمفارقة ثمة مقارنة ترد بالخاطر بين فرنسا والسودان في هذا الجانب من غزو الفكر المعتل. إذ تميزت فرنسا باعتناق شعارات ثورتها التاريخية، وظلت ترى نفسها بمنأى من التفكير المتطرف، ثم ظهرت الجبهة الوطنية المتطرفة، مثل: ظهور الجبهة الإسلامية بالسودان، وفي البداية جرى التعامل مع الحزبين، كأنهما أجرب يخشى انتقال عدواه إلى الآخرين، ثم ارتكب ساركوزي خطأً قاتلاً ولا غرابة فهو سياسي خفيف العقل وفطير التفكير، إذ افترض أن استلاف بعض أفكار اليمين المتطرف تحرم حزب لوبن من أصوات فرنسية ظلت تدعمه، وهكذا من حيث أراد سحب البساط من أقدام المتطرفين خدم يميناً فرنسياً متخلفاً، وذلك بتسويق ساركوزي لأفكار لا تخلو من (جرب)، فانتقلت لعامة الشعب، وللرأي العام الفرنسي، فتسامح مع (جربه المحلي)، لدرجه أنه قبل التصويت بكثافة على نحو قارب ربع الناخبين.
هذا التعامل الساركوزي المندفع في المجهول حدث في السودان، إذ ما أن نجحت انتفاضة إبريل حتى تسامح المجلس العسكري مع دعم الجبهة الإسلامية للنميري، ثم وجدت القبول النسبي في مقاعد الخريجين؛ مما أغراها بالتخطيط لانقلابها على الشرعية المنتخبة بافتراض وجود بيئه سودانية متسامحة، ولكنها رافضة للتفكير الإخواني؛ لهذا فكر الشيخ الترابي، وقدر وقرر تجريع السودانيين العقل المتطرف بالقوة، وبالعاطفة الدينية، بقصد اكتساب شرعية شعبية، وحين فشل استعان بكل من هب ودب، ثم أطلق يد التطرف فتمدد على حين غرة في السودان، وللمفارقة تمدد على حساب نظام الترابي نفسه، وعلى حساب مرجعيته الإخوانية؛ لأن أغلبية الشعب ظلت تقارن بين الشعارات والواقع، ومن ثمارها عرفوها، وفي المحصلة انضم شباب لخطاب التهيج والتفكير الداعشي، ولثقافة التطرف، وتخلف داعش، ودمويتها.
ظاهرة التطرف إذن في فرنسا أو في غيرها نتاج أخطاء سياسية، وإن لم تعالج ستتغذى على كراهية الآخر، ويصح القول بوجود عوامل غير الأخطاء السياسية، كالهجرة التي أضحت وقوداً يزيد من أوار التطرّف.
وبالطبع لا يمكن استبعاد وجود بواعث صليبية كامنة يغذيها تخلف في التفكير عموماً. وإذ من السهل هزيمة اليمين الغربي على نحو ما شهدنا في انتخابات فرنسا، فإن محنة ظاهرة التخلص من آثارها على نحو سريع في بلدان هشة التكوين ليس أمراً يسيراً؛ لأن العوامل التي تقتات عليها تتعمق في بيئة جاذبة؛ لتكاثرها، لهذا يربط كثير من الناس بين التغير في السودان وتمدد الأفكار المتطرفة.
يضاف أن سطوة وسائل التواصل والإعلام الجديد وفرت معلومات لم تكن في متناول اليد، سواء عن تفشي الظلم، وارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الفساد والقهر والقمع، وسياسة التمكين، وهذا الأمر ا ولد إحباطاً مرعباً، واعتناق التخلف في التفكير، واحتضان أمراض التطرف وظواهره، التي لم تكن ضمن تجربة السودان المعروفة.
وإذا لهذا الاستنتاج نصيب من صحة، فإن تخلص السودان من الظاهرة يحتاج إلى جهد خارق، وتكلفة عالية.
وعوداً على بدء، فإن فوز ماكرون يمثل مؤشراً مهماً يرجى أن يكون ترياقاً مضاداً لداء الشعوبية والكراهية في أوربا. وَمِمَّا لا شك فيه سيعزز رهان الشعوب على الديمقراطية، من حيث قدرتها على تصحيح نفسها بنفسها، وقدرتها على نفي خبثها.
كما أن الفوز يؤكد أن بضدها تتبيّن الأشياء، إذ في المقابل، عمق غياب الديمقراطية الداء الذي أصاب الإسلام في السودان؛ وهذا ما يستلزم أكثر من كلام، وأكثر من تشكيل حكومة تتغير فيها وجوه، لتؤكد بالمحصلة استمرار الجبهة الإسلامية. واستمرار الأزمة خصوصاً إذا قرئت مع إعلان جماعة الشيخ الترابي انضمامها للنظام، فيما يشبه إعادة إنتاج النظام لنفسه، ولخطابه الديماجوجي الفاشل، الذي غرس التطرف، وأكسبه شرعية تنقصه.
ومن باب التذكير الذي ينفع المؤمنين، فإن جماعات التكفير المنتشرة في السودان شرعنت أوضاعها تحت رعاية الشيخ الترابي، حين سمح لكل منابرها المتطرفة أن تفسر نصوص القرآن والسنة المطهرة وفق نظرتها الضيقة، من مساجدها وقنواتها الفضائية، بل حاول تيار بالمؤتمر الشعبي العائد اليوم للحكم مبارزة المجموعات المتطرفة بالمزايدة عليها في تغليب النص على مقصده، والتفسير الذاتي على العقلي. ونذكر بحملة احتاج فيها جناح الشيخ الترابي لإعلاء ما أسماه الجهاد ضد الكفار الجنوبين عندها رأينا أن (الجهاد) وفق مفهوم متطرف صار من أركان الإسلام الخمسة، وتم تكفير مفكرين إسلاميين سودانيين على انتقادهم لهذا النهج في التأويل، وكان الرد أن استخدام العقول في الدفاع عن إسلام المقاصد جريمة.
لا عجب أن شهد العقد الأول من حكم الإخوان في السودان صراعاً دموياً مريراً، وتكفيراً وجد تبريراً تحت أوهام ليست من الإسلام في شيء. ومن باب التذكير أيضاً فقد فعلت الجبهة الإسلامية ما تفعله أحزاب اليمين الأوربي بتغبيش الوعي، وشهدنا إغراق البسطاء في (حاجة) اسمها عرس الشهيد، وإيهام الناس بالاحتفال بزفاف أمواتهم؛ لأنهم في الجنة يرفلون، وفي سوحها يتزوجون الحور العين.
والمثير أن الميت قد يعود من الأسر، فيجد زوجته أنجبت من غيره، عندها يكتشف بعضهم غيبوبتهم، ولكن في المحصلة يجدون أن ثقافة التعصب الديني تميد بأقدامهم. وصدق فولتير في وصفه لمحفزات التعصب حين قال: ( بأن أحد أسباب ذلك التعصب هو إبقاء الشعب معلقاً بالأوهام، وأفضل طريقة لعلاج ذلك الداء هو الاحتكام إلى العقل). كم يتمنى المرء أن يرى في فوز الشاب إيمانويل ماكرون فوزاً للعقلانية، والتعقل، وقطيعة مع الأوهام ،والكراهية، والشعوبية، والديماجوجية. ودمتم