في الذكرى المئوية الثانية للفيلسوف كارل ماركس أتابع ما يكتب عن إرثه الفكري. وخصوصاً ما كتب بأقلام سودانية حول فتوحاته وخيباته. كارل ماركس لا شك مثير للتأمل وللأسئلة، أو محرك لتداعياتها.
ومن أهم الأسئلة: ماذا تبقى من وهج النظرية الماركسية؟ وما صدى تراجع تطبيقاتها في الاشتراكية الواقعية، وفي تجربة الحزب الشيوعي السوداني واليسار عموماً؟ وهل ما زالت مناقشات الديالكتيك والمادية التاريخية، ونظرية فائض القيمة تثير الإغراء؟
لا شك أن المساحة لا تتسع إلا لليسير من الإضاءات والإجابات عن هذه الأسئلة. لهذا سنقف وقفات سريعة على حواشي أفكار صاحب (رأس المال). ففي البال، قارئ ملول لا يحب المطولات.
وأسارع للقول: إن قيمة أطروحة كارل ماركس تكمن في اهتماماته بأحوال العمال، وباستنتاجاته حول المجتمعات، وتنبئه المثير بأن المجتمعات إنما تتقدم أماماً عبر صراع الطبقات، أي صراع طبقة الملاك وطبقة عمالهم.
الاهتمام بالعمال فضيلة من فضائل نظرية ماركس، مثلما أن المنافحة ضد الاستغلال والعبودية من تجلياتها. ولكن ماذا عن الاهتمام بالحريات والحقوق الدستورية، وتجلياتها كترياق في تطبيقات التجارب (الاشتراكية) الواقعية؟ وهل من دور في كبح إفرازات الطمع في نسخه المختلفة حاضراً، ومنذ أيام الثورة الصناعية، وخصوصاً في جانب استغلال الإنسان الإنسان؟ على كل فكرة تدور حول إرث كارل ماركس فقد كان مندفعاً وهو يطور (رأس المال)، وأبحاثه بطريقة تشخيصية، وفي الأثناء عانى الفقر، وكابد الجوع والمسغبة؛ لدرجة أن أصحاب الدكاكين بالحي اللندني الذي كان يقطنه كانوا يرفضون منحه المزيد من الخبز؛ لأنه عجز تسديد (جرورته) السابقة، ثم بلغت ماسأته قمتها مع الفقر عندما ماتت ابنته، فاحتاج إلى جنيهين من جاره؛ ليواريها الثرى.
واستمر يقاوم التحديات وصعوبات العيش عقدين من الزمن. وحاول تخفيف هذه المقاساة بقوة تعبيرية جعلت اللامرئي محسوساً، وبنفث دخان لم يفعل شيئاً سوى أصابته بداء الرئة. لا عجب أن تحالفت عليه (بلاوي الدنيا) من فقر وأمراض الكتابة والمطالعة الطويلة فأصيب بتقرح الأصابع، والتهابات المثانة المزمنة التي منعته الجلوس، فكان يكتب وقوفًا. ولكنه قبل أن يقضي نحبه حقق هدفه بأن أثرى بحوثه وبخاصة (قيمة أي سلعة تعادل قيمة العمل والزمن الذي استهلكته). فإذا استغرقت حلاقة رأسك ساعة فقيمتها ما يعادل أجر الساعة. وماركس طرح وسائل مثلى لتطبيق استناجاته. فافترض أن الطبقة العاملة ستكون خيار البشرية هروباً من استغلال البرجوازيين أو رأس المال لهم أو ما اسماه ديكتاتورية البرجوازية التي حتماً ستنتصر عليها دكتاتورية البروليتارية. فهل خانه تطرفه حين تنبأ بسيادة نموذج دولة العمال في أنحاء الأرض؟ أو افترض خطأً أن النظام الرأسمالي حسب نبوءته يحمل بذور فنائه الذاتي؟
اذ نكتشف أن الفيلسوف اشتط أكثر مما ينبغي في نقده للنمط الاقتصادي السائد حينئذ، وبالغ في هجاء الرأسمالية بنسخها المختلفة. فمثلا جاءت تحليلاته للنظام الرأسمالي بتناول مشكلات الإنتاج التي استنتج أنها سبب أزمة الرأسمالية أو المدخل لانهيارها، ولكن الأزمات التي حدثت للرأسمالية بما فيها أزمة 2008م معظمها تولدت من الأداء المالي ومشتقاته، وليس من قطاع الإنتاج؛ مما لا يمكن معه الربط بين هذه الأزمات وصدق أو دقة نبوءة ماركس.
فقد فات عليه ذلك، مثلما لم يخطر بباله أن الإنسان الآلي سيلغي استنتاجه بشأن علاقة العمال وأصحاب العمل، وفات عليه أن الميكنة ستنفي أسس ومفهوم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، كما رَآه، ومن ثم ستهز أصول نظريته هزاً يزيل عنها اليقين.
واليوم تكتسح الفتوحات الرقمية والاكتشافات التكنولوجية في مجالات الإنتاج لحد يخشى أن تلغي العلاقة بين الأجير والمستأجر؛ لأنها تتم في عالم افتراضي. فالتجارة الإلكترونية اليوم تلغي الوظائف، وتلغي نظرية المكان والحدود والمحل التجاري، والبتكوين تلغي حتى العملات الوطنية، التي تمثل ممارسة من ممارسات السيادة.
وفي الحقيقة هذه تطورات جعلت ماركس مثل فريد الأطرش. وأقرب إلى البطل الذي يتم إطفاءه ووضعه بالمتحف. ففي عالم اليوم صار العامل الفقير يتدرب في مصانع الرأسماليين، فيطور تطبيقاً لوسائل التواصل الاجتماعي ((Social Media، أو يطور برنامجاً، ثم يصير مليارديراً، ولا يمر هذا العامل بمراحل الانتقال من الفقر إلى الثراء، وإنما يقفز محميًا بنظم حقوق الملكية الفكرية فيتحول لمارك زوكربيرج أو بيل غيتس أو (السوري) استيف جوبز صاحب الآي فون والآي باد وقبلهما(الماكنتوش).
هل ستطفئء الآلة وتطبيقات الإنسان الآلي ما تبقى من إرث كارل ماركس، ومفاهيم الاستغلال، وتحد من جدوى الركض خلف شعار برجوازية العمال؟ لا شك أن هناك ثورة غير مسبوقة لم تخطر على بال كارل ماركس، ويخشى أن تفوت على ذكاء أتباعه.
وقد لا يطول بنا المقام حتى تدفع هذه الفتوحات التقنية المصانع لتستعين بالروبورت دون الحاجة إلى أي يد عاملة.
في مئوية كارل ماركس نتوقف لنحدق في وجوه شيوعية سودانية. وسنجد التكلس والتخشب الذي دفع بروف عبد الله علي إبراهيم بسماحته وسودانيته وتواضعه الجم يبحث عن فضاء للتحليق الذي يقوده الوعي. ونجد على النقيض أحمد سليمان المحامي بانتهازيته وتقلباته من الماركسية إلى يمين اليمين، رحمه الله. وفي صبيحة انهيار الشيوعية في يوم 9-11-1989م وتداعي حائط برلين نجد وجهاً سمحاً لطيفاً هو الاستاذ محمد إبراهيم نقد الذي عايش استقالة غورباتشوف في 1990م، واختفاء حلف وارسو، ولكنه ظل على موقفه. ومن بين الوجوه سنجد من لا يزال يقدس العنف، وفي المشهد نسمع صدى مظاهرات السبعينيات في شوارع الخرطوم مطالبًة بدك الجزيرة أبا وغزو حي ود نوباوي بالدبابات. وسنرى في إطار الصورة الأمين العام السابق للحزب الشيوعي المرحوم التجاني الطيب وهو يرفع قبضته في مقدمة المظاهرة.
لا يسعك إلا أن تقول: مساكين أولئك الذين كانوا مأخوذين باستلهام العنف في تطبيقات دول الاشتراكية الواقعية خلال القرن الماضي؛ لأنهم ضحايا تقديس شخصية ماركس، الامر الذي منع من رؤية منشأ الأزمة في أطروحة ماركس(المقدسة). وتقرا في الأرشيف أن الشيوعيين السودانيين ينقسمون، ولكن للمفارقة، حول مدى الالتزام بنهج ماركس، إلى حد مزايدة بعضهم على بعض. وللمفارقة لا يزال كارل ماركس (مقدساً) في (سودان اليوم) حتى بعد تحلل الاتحاد السوفييتي، وانهيار حائط برلين، وظهور حركة حق.