حطت الطائرة العسكرية التى حملت الوالى الجديد للولاية الشمالية ياسر يوسف ومرافقيه من الوزراء والمسؤولين وبعضاً ممن أشير إليهم بالوجهاء من أبناء الولاية فى مطار دنقلا، وأعد لذلك استقبال رئاسي بكامل بروتوكولاته، فى ظاهرة غير مسبوقة.
لقي هذا الأمر استهجاناً كبيراً في بعض وسائل الإعلام، وجرى تداوله بشكل واسع فى مواقع التواصل الاجتماعي؛ لكون ذلك ليس أمراً عادياً، وجاءت في ظروف غير عادية، وصعبة تعيشها البلاد والولاية الشمالية بشكل خاص، وخصوصاً أن ما صرف على الرحلة والاستقبال كان كفيلاً بحل إحدى المشكلات العالقة بحجة عدم توفر التمويل اللازم.
استمعت إلى خطاب الوالي الذي لم يأت بجديد، وهو يكرر البرامج والمعاني ذاتها، التي ظل يكررها من سبقوه من الولاة، فقد تحدث عن العمل الميداني وتطوير الخدمات والتنمية الشاملة والتواصل مع المواطنين، مضيفاً أنه سيكمل ما بدأه من سبقوه، الأمر الذي أثار حفيظة كثيرين يرون أن معظهم خلقوا المشكلات؛ ولم يقدموا حلولاً.
كما ذكر الوالى فى خطابه بأنه سيعمل على إقامة العدل وتحقيق دولة القانون بين الناس، وأنه لن يكون هناك في الولاية مظلوم حتى ينصف، ولا جائع حتى يشبع، ولن تكون الحكومة أعلى من الناس.
إقامة العدل وتحقيق دولة القانون بين الناس أمر محمود ومطلوب، ولكن يجب على الوالى أن يعلم أيضاً أن تحقيق دولة القانون يتطلب عدالة الدولة نفسها تجاه مواطنيها، فيما يلي حقوقهم الدستورية والقانونية ومساواتهم جميعاً في كل ذلك.
وما يجب أن يعلمه الوالى بدءاً حتى ينجح في مهمته أن الولاية ليس بها جوعى ينتظرون العون لسد الرمق، فالطعام متوافر ومشاع، ولا ينام أحد في الولاية وجاره جائع.
أما مربط الفرس فى النجاح والفشل هو ألا يكون في الولاية مظلوم حتى ينصف، ذلك أن المظالم في الولاية الشمالية ليست فردية، ولكنها مظالم عامة، وحاق الظلم جميع مواطنيها من خلال ارتكاب حكومة الإنقاذ أخطاءً فادحة، وهي تقفز فوق الواقع وتفرض عدداً من القرارات الجائرة والظالمة؛ لذا يظل نجاح الوالى رهيناً ومرتبطاً باتخاذ قرارات عادلة وشجاعة لتصحيح الوضع فى عدد من القضايا، تأتى فى مقدمتها: “إيقاف تنفيذ مشروعات السدود التى تحاول الحكومة إقامتها فوق رؤوس المواطنين، ونتج عنها مواجهات غير متكافئة بين سلطة تحمل السلاح ومواطنين عزل يدافعون سلمياً عن حقوقهم ووجودهم.
حدث هذا في أمري وفي كجبار راح ضحيته مواطنون عزل وشباب غض خرج للاحتجاج السلمي؛ لذا فأول القرارات المطلوبة فى هذا الشأن هو إيقاف هذه المشروعات ما لم تنل رضا المواطنين، وفتح ملف التحقيق، ومحاكمة كل من تسببوا فى قتل الشباب الأعزل.
والأمر الثاني والمهم هو إلغاء القرار الجمهوري رقم 206 لسنة 2005 الذي تم بموجبه مصادرة أراضي الولاية الشمالية لصالح إدارة السدود، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ السودان لتؤول لإدارة سد مروي، مع تجريد حكومة الولاية من ولايتها علي أراضيها؛ مما يشكل تعدياً واضحاً على سلطاتها السيادية، وعلى الحقوق الدستورية للمواطنين.
وهذا وضع لا يتسق ومصالح الولاية ومواطنيها ولا مع تاريخ وقوانين ملكية الأراضي. وهو الأمر الذي لم تتم الإستجابة له رغم ما قدم من إحتجاجات من أكثر من 25 كياناً من أبناء الشمالية في الوطن والمهجر لرئيس الجمهورية، وقت صدور القرار.
الأمر الثالث هو المعالجة النهائية لمشكلات التعدين الأهلي، وما يتصل بذلك من استخدامات السيانيد والزئبق؛ وما ينتج من كل ذلك من مخاطر.
والأمر الرابع تخصيص نسب واضحة ومقدرة من عائدات سد مروي والذهب والمعادن التى يجري استخراجها كإيردات تصرف في خدمات وتنمية الولاية ضمن الميزانية.
هذه هى القضايا الاستراتيجية والتحديات الحقيقية التى تواجه الولاية، والواجب على الوالى مواجهتها وإنجازها إن أراد قبولاً ونجاحاً مهمته.
وأملنا الا يكون برامجه كسابقيه حذو النعل بالنعل احتفالاً بصيانة مدرسة أو مستشفى أو صرح بناه المواطنون من مقيمين ومهجريين من حر مالهم، أو بدعم مجلوب أو حضوراً لمناسبات اجتماعية لا ترقى لحضور مسؤول من أي درجة.
الأمر الذي يجب أن يعلمه الوالى أن أهل الولاية صعبو المراس، ويتمتعون بدرجة عالية من الوعي، وأن إدارة هذا “المزيج” تظل عصية على كل قادم على قمة الهرم الإداري التنفيذي سواء كان محافظاً أم حاكماً أم والياً.
المسؤولون السابقون واجهوا كثيراً من المشكلات بدءاً من المحافظ شرفي في ستينيات القرن الماضي تبعه أكثر من خمسة عشر مسؤولاً آخرهم العوض، إذ لم يغادر أي منهم وقد نال الرضا من أهل الولاية.
مأساة الولاية أنها تواجه تحالفا بين الطبيعة حيث شح الموارد وضعف الخدمات الصحية والتعليمية وغياب التنمية، وصراعات مريرة حول الكراسى بين أعضاء الحزب الحاكم، وهو أمر لم يصل بعد الى نهاياته المنطقية، ولا أعتقد أن إعلان الوالى الجديد بالاحتفاظ بمسافة متساوية بين الأطراف، أو توجيه النداء لتناسي المرارت ستكون البلسم الشافي لبدء مرحلة جديدة، فالتيارات المعنية تسعي كل منها إلى كسب ود الوالي الجديد والفوز بالكيكة، وحتماً ستطفو الصراعات القديمة المتجددة مرة أخرى على السطح بمجرد تشكيل الحكومة الجديدة.