وددت لو لم يكشر رفاقي الماركسيون بوجه السيد الإمام الصادق المهدي في الرد على مقاله الذي نشره بمناسبة مرور قرنين على ميلاد كارل ماركس (1818). فقد استرعتهم منه إشارة غير موفقة لماركس زعم فيها أنه قال، وقد تناهى إليه خبر الثورة المهدية في السودان (1881)، إنه ينبغي تصحيح نظريته عن الدين. فقال الإمام إن المهدية بينت أن الدين الإسلامي رافد للثورة العالمية ضد الإمبريالية في حين اتفق لماركس أن الدين مجرد إفراز طبقي. وقد أحسن رفاقي في نقض ما جاء عن الإمام عن ماركس. ولكن غابت عنهم ميزات للكلمة أنفع لنا ولحوارنا حول المسألة السودانية من خطأ في النقل مرجوع. وهذه الميزات في كتاب الإمام عندي هي:
-إن عناية الإمام بميلاد ماركس مرموقة. فلم يَحُل مقامه الديني المرموق من الاحتفال بميلاد رجل سيء الصيت في عالمنا المسلم. وقال الإمام بنفسه إن المانيا الرأسمالية حتى النخاع احتفلت بذكرى الرجل بينما يتقزز منها مسلمون منا. فما ذُكر اسم الرجل، في قول الإمام، حتى تعوذ كثيرون من شيطان رجيم. وممن يتعوذ منه ماركسيون سابقون ولاحقون بالكوم.
-ووجدت توطين الإمام لماركس في عصره وقضاياه نبيهة طالما لم يعده شيطاناً رجيماً. فالماركسية عنده نظرية علمية سلطت الفهم العلمي على مجتمعها.
فهي عنده ردة فعل نافر لرأسمالية متوحشة في الغرب وإمبريالية في سائر العالم لقيت الدعم المسيحي المؤسسي. وليس مناصرة الدين للظالمين، في قوه، قاصرة على المسيحية فمن بين المسلمين من أمر بطاعة المتغلب والقتال معه.
-ونظر الإمام إلى علمية الماركسية في سياق الثورة العلمية الأوربية التي هزت قناعات دينية وفكرية وتربوية استقرت عند الناس من العهد القديم والجديد.
-ووجدت الإمام على جادة القسط في ثنائه علينا معشر الماركسيين لبيانهم تقدمية وثورية المهدية السودانية. وضرب المثل بكتابات زميلنا المرحوم محم سعيد القدال.
-ورأيت الإمام أراد تجديد الحوار بينه وبين الشيوعيين الذي كان بدأه مع المرحوم محمد إبراهيم نقد خلال اعتقالهما معا في بداية انقلاب الإنقاذ في 1989.
وعرض على نقد إعادة النظر في اعتقادهم بأن الدين سلاح في يد الرجعية لا سيما في ما تعلق بالإسلام. وكتب كلمته هذه عن ماركس لوصل ما انقطع مع تقليد سياسي وطني ماركسي قام بينهما تاريخ معقد غلب فيه الشقاق والعنف المتبادل.
ولهذا اعتبرت تذكر الإمام لماركس كسباً لأمثالي ممن تبنوا خطة الرجل. وأكثر الجائزة في تذكره هذا بلوغ مقاله جمهرة القراء من أنصاره الذين سيلهمهم لطفه بماركس ويعتبرون به. فلم أجد حامضاً حتى قوله إن الماركسية “لا تصلح كقميص إيدلوجي يوجه الإنسانية في كل زمان ومكان”. وقد استفزت العبارة رفاقي جداً. وهي رأي. والرد عليه مستطاع. وربما كنا نحن أنفسنا من أطنب في الحديث عن اتخاذنا الماركسية مرشداً نظرياً لا كقميص إيدلوجي صالح لكل زمان. فلم نكف منذ نشأتنا في الوطن عن الدعوة ل”التطبيق الخلاق للماركسية” ونعني لجمها لواقعنا نمشي في طرقها الذلول لسعادة شعينا لا تستعبدنا صورة من صور تطبيقها.
لن يختلف معنا الإمام أن نقله عن ماركس والمهدية غير موفق رجع فيه لقول سبقه لم يتحر الدقة. ولكن للإمام مع ذلك خاطرة غراء في شأن مراجعة الماركسية على ضوء الدين. فلم يبعد النجعة. فسبق لماركسي قديم مراجعة النظرية على بينة من واقعة دينية. وكان من قام بهذه المراجعة إنجلز لا ماركس وكان الدين هو المسيحية بالطبع لا الإسلام.
دعا إنجلز لهذه المراجعة في مقدمته لطبعة عام 1895 لكتاب ماركس “الحرب الأهلية في فرنسا” (1871). والمراد بالحرب الأهلية الفرنسية هي التي قامت في 1871 بين الكميونة (الحكومة) البروليتارية، التي حكمت فرنسا من 27 مارس إلى 28 مايو من السنة، ضد حكومة البرجوازيين المسنودة بعسكر الإمبراطورية البروسية. وقضى البرجوازيون على الكميونة التي قاتلت من وراء المتاريس قضاءً مبرماً مضرجاً بالدم. وسُمي أسبوع مقتلة العمال ب”الأسبوع الدامي”. واعترف إنجلز، وهو بصدد تقديم كتاب ماركس بعد ربع قرن من صدوره، أن الأشياء تغيرت، ولابد من مراجعة مصائر الثورة البروليتارية على ضوء المستجدات التي اكتنفت تجربة الكميونة. فقال بغير مزايدة إن التاريخ قد كشف خطأ تقديراتهم التي دخلوا بها على الثورة بناء على ثورة 1848. فالتاريخ، في قوله، خطأهم وبيّن أن وجهة نظرهم عن الثورة كانت وهماً. بل قال إن التاريخ فعل بهم أكثر من ذلك. فقد وضعهم أمام التحول بالخطة الثورة العمالية تحولاً عظيماً. فعاب على أنفسهم أنهم لم يتوقفوا عند التطورات السياسة التي أعقبت ثورة 1848، التي انبنت عليها ثورة 1871، مما أدى إلى فشل الكميونة. فقد تطور نظام الإنتاج الرأسمالي في القارة بعد 1848 تطوراً لم يعد يسمح بإزاحته. فقد منح نابليون، الذي اعتلى حكم فرنسا في 1851، بلدان أوربا هدأة بعد أن مزقتها ثورات 1848 التي اكتسحت القارة. وزاد إنجلز بقوله إن الميزان نحول لصالح الجيوش الأوربية، وكبرت المدن، ويسرت القاطرات نقل الجنود على عجل لمواجهة الثائرين حيث كانوا. وأحصى كفاءة عتاد الجيوش الحديث. فبوسع الجندي بهذا السلاح أن يرمي به إلى مسافة أطول 4 مرات مما كان قبلاً كما أن دقة التصويب تضاعفت عشر مرات. وخلص إلى أن حرب المتاريس باطلة لأن تقنية الدانات ستهد المتاريس التي يتحصن بها العمال عن آخرها.
ولكن الأكثر إثارة في مراجعة إنجلز مسألتان:
1-التحول إلى البرلمانية: أثنى إنجلز على عمال المانيا الذين استخدموا بكفاءة حق الاقتراع العام للنفاذ إلى البرلمان. ونقد دوائر عمالية استنكفت استخدام هذا الحق لأنهم نظروا للانتخابات كشراك وخداع حكوميين. بل أحال هؤلاء الممتنعين إلى “البيان الشيوعي”، الذي كتبه مع ماركس في1848، والذي كان أول من نبه إلى أن الاقتراع العام هو مطلب البروليتاريا الثورية. وأعجبه أن عمال ألمانيا حولوه من أداة خداع حكومي إلى أداة تحرير لهم. وزاد بأن من عظائم سخريات التاريخ أن الثوريين من أمثاله يكسبون، باستخدام حق الاقتراع العام، بالوسائط الشرعية ما لم يكسبوه بالوسائط غير الشرعية، أي الثورة.
2-المسيحية الثورية: المسألة الثانية ذات مساس كبير بقول الإمام عن ماركس وعن انعقاد نيته مراجعة نظريته على ضوء الثورة المهدية. ففي فقرة أخيرة في مقدمة إنجلز ل”الحرب الأهلية في فرنسا”، وجه أنظار البروليتاريا في تحولها للبرلمانية إلى استلهام تجربة المسيحيين الأوائل في الصبر على الأذى والمصابرة حتى النصر. وسأعرب الفقرة ما وسعني هنا:
“قبل 1600 سنة كان قد ظهر حزب ثوري خطر أحدث ضجة كبرى في الإمبراطورية الرومانية. فقد زلزل الحزب دين الإمبراطورية وكل مقوماتها. فرفض جملة وتفصيلاً أن تكون كلمة القيصر هي القانون ولها العصمة. وكان حزباً لا وطن له عالمياً عولمياً. انتشر قبسه إلى كل اقطار الإمبراطورية من بلاد الغال إلى آسيا، وفي ما وراء تخومها. كان حزب الثورة هذا هو المعروف عندنا ب”المسيحيون”.
وهكذا نرى أن إنجلز لم يراجع نظريته عن الثورة البروليتارية وحسب، بل قام بالمراجعة ناظراً إلى ثورة دينية حدثت قبل 1600 عاماً في الإمبراطورية الرومانية بقيادة حزب “المسيحيون”. ربما أخطأ الأمام النقل المخصوص عن الأدب الماركسي ولكن لشاغله شواهد بينات في الماركسية كما رأينا. لم يقع الأمام على النص الصريح لشاغله ولكنه لم يبعد النجعة.