قطعا، نضوج البديل والإتفاق حوله سيسهم في إشعال شرارة التغيير. لكنه ليس شرطا، بدون توفره لن تشتعل الشرارة. ففي تونس ومصر، خرجت الجماهير إلى الشوارع حتى سقط النظام دون أن يكون البديل جاهزا. وفي السودان، لم يكن البديل جاهزا، لا في إكتوبر ولا في أبريل، وأنتصرت الإنتفاضة. ومع ذلك، فإن البديل المتوافق عليه من قبل قوى التغيير، يعد من أهم أسباب بلوغ التغيير لغاياته المرجوة، بينما غيابه يشكل السبب الأهم في سرقة الإنتفاضات بعد نجاحها في إسقاط الأنظمة، كما حدث في السودان بعد انتفاضتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985. وعموما، للتغيير ديناميكيته الخاصة التي إما تفرز بدائلها الجديدة، أو تنفخ الروح في البدائل الموجودة. ومع ازدياد درجة تعقد وتشابك الواقع، وتسارع وتيرة تغيره مع متغيرات العصر العاصفة، فإن قضايا البديل لم تعد تُفهم كما كانت تُفهم في الماضي، البعيد أو القريب، مما يتطلب تجديد الفكر والأفكار بإغناء العناوين القديمة، وفي ذات الوقت باجتراح عناوين جديدة. ولقد سبق وأن قلنا بأن محصلة التغيير، وما إذا كانت ستتصدى للأزمة وتعالجها بما هو أعمق من سطحها السياسي، ترتبط بالضرورة، وبهذا القدر أو ذاك، بنوعية الوسيلة المستخدمة لتحقيق التغيير، سلمية أم مسلحة، انتفاضة أم تفاوض وتوافق. وبمعنى آخر، فإن آليات التغيير تلعب دورا كبيرا في تحديد شكل ومحتوى البديل.
واليوم، وفي ظرف السودان الراهن، إتفق الجميع، وربما لأول مرة يتفقون منذ الاستقلال، على ملامح وعناوين برنامج البديل لنظام الإنقاذ. اتفقوا على إقامة دولة العدالة والمساواة والحرية والقانون وترسيخ المؤسسية وفق معايير تشمل المشاركة العادلة في السلطة والاقتسام العادل والمتوازن للموارد والثروة، محاربة الفساد والمحسوبية والتمكين، الشفافية والمحاسبة، واختيار شكل الحكم الذي يتناسب مع جغرافية وتاريخ وسيكولوجية الشعب السوداني، وأهم من ذلك كله، اتفقوا على مراعاة التنوع والتعدد الاثني والثقافي، وضرورة الحفاظ على النسيج الاجتماعي/الاثني في البلاد. ومن هنا فإن البديل الذي يتطلع إليه الشعب السوداني، لن يكون مجرد عملية إحلال وإبدال، يتم بموجبها مجرد استبدال الجالسين على كراسي الحكم بآخرين، كما يعتقد، أو يختصر، البعض.
البديل هو عملية مركبة، فيها الهدم والبناء في آن واحد. الهدم يعني ذهاب هذا النظام، أما البناء فيعني جلوس قوى التغيير الواسعة، والمتنوعة المدارس والمشارب السياسية والفكرية والايديولوجية، مع بعضها البعض من أجل التراضي والتوافق على مشروع وطني، يوقف الحرب الأهلية ويرسي قواعد سلام عادل وشامل، ويحقق التحول الديمقراطي الكامل وضمان الحريات وحقوق الانسان وحكم القانون، ويصفي دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن القائمة على أساس قومي لا مركزي، ويخاطب مطالب وتطلعات المهمشين والمظلومين، ويشرع في ترجمة عناوين وملامح برنامج البديل المشار إليها أعلاه، إلى تفاصيل ممكنة التحقيق والتجسيد على أرض الواقع. قد يكون الماعون الملائم لتنفيذ الترجمة وصياغة التفاصيل هذه، والخروج بمشروع وطني متوافق عليه يعبر عنها، هو المؤتمر القومي الدستوري، أو مؤتمر حوار وطني حقيقي، أو أي لقاء جامع آخر، لا يهم…، مادام المحتوى هو نفسه. ومن ناحية أخرى، من الضروري الإشارة إلى أن عقد مثل هذا المؤتمر يتطلب مناخا ملائما يسمح بتفجير الطاقات الجماهيرية والإبداعية التي انزوت بفعل إحتكار السلطة لأجهزة الإعلام والثقافة، والتي ظلت تفرخ المدجنين الذين لا يتورعون التطبيل للحرب وتجميل التدهور الاقتصادي، وصناعة التسميات اللطيفة لتمرير الألاعيب السياسية. ولا شك أن الكلمة المفتاحية لضمان توفر مثل هذا المناخ الملائم هي الديمقراطية وتوفر الحريات كاملة ودون أي نقصان.
البعض، ربما لا يعجبه تكرار الحديث عن فشل استكمال المهام التأسيسية للدولة الوطنية السودانية، دولة ما بعد الاستقلال. ولكنها الحقيقة التي تجعل الحياة للأجيال المتعاقبة لا تبدأ من نقطة متقدمة، والأمر الذي ظل ينعكس سلبا على الصراع السياسي في البلد. فحاليا، هذه المهام تختلط في الأولويات والترتيب، والقوى المناط بها التأسيس تتشتت بدلا من أن تتجمع. وهي قوى، بحكم طبيعتها وتركيبتها الايديولوجية والاجتماعية، متعددة الألوان والأطياف والرؤى، لكن المهمة التي أمامها، مهمة التأسيس لوطن، تقتضي التمازج والتشابك، وبالضرورة التنازل، حتى تصل غاياتها في بناء دولة الوطن. بالطبع، ليس مستحيلا علاج ذاك الفشل في إستكمال مهام التأسيس، بل من الممكن التصدي له بالحراك في الاتجاهات المتعددة حتى تتقاطع الخطوط وتنتج فعلا مقاوما لعوامل التفرقة ومحاولات بناء الوطن بنظرة أحادية. ومن هنا، فإن الوعي بضرورة مقاومة المشروع الأحادي المتناقض مع مهام تأسيس الوطن القائم على واقع متعدد ومتنوع بكل ما تحمل الكلمتان من معان، يشكل عاملا أساسيا وحاسما من عوامل التغيير.
صحيح، نحن من دعاة الدولة المدنية الديمقراطية، ولكن، وأقولها واضحة وبكل شفافية، دعوتنا هذه لا تعني رمي أصحاب الخيار الإسلامي في البحر، كما أنني لا أشترط نبذهم لايديولوجيتهم حتى يتم الجلوس معهم. فالمؤتمر القومي الدستوري، أو أي لقاء شبيه، لا يقصد به هزيمة أو إلغاء الآخر، وإنما تفعيل آلية التسوية والتنازل لصالح الحفاظ على الوطن. لكن، التسوية والتنازل لا يعنيان التغاضي عن جرائم انتهاك حقوق الانسان وجرائم الفساد وهدر موارد الدولة، وفي نفس الوقت فإن عدم التغاضي هذا لا يعني الإنتقام والثأر، ولنا في تجربة جنوب أفريقيا قدوة. أما دعاة الإصلاح، من داخل النظام أو من خارجه، فسنحترم دعوتهم إذا رأينا فيها ملامح الإيمان والقناعة بمعاني المؤتمر القومي الدستوري، ومعاني المشروع الوطني البديل للنظام الحالي. وبالطبع لن نعيرها التفاتا إذا كان جل غايتها إحلال الطاقم الحالي بآخر جديد مع استمرار ذات المشروع القديم. وعموما، يعلمنا التاريخ السياسي للشعوب، أن قطار التغيير، مهما تأخر، ومهما اعترضته عراقيل القمع والطغيان، سينطلق وسيواصل مسيرته حتى المحطة التي يريدها الشعب السوداني.
٭ نقلا عن القدس العربي