(1)
لابد من الإقرار بان مشروع الجزيرة اضحى يغالب مشاكل حقيقية وجمة منذ اواخر السبعينيات واوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت تلك المشاكل واضحة تماماً. تمثلت في الجانب الإداري، وفي التسويق وفي التمويل. وهي مجالات مترابطة لا غني لأي قطاع اقتصادي عنها، دعك عن مشروع كبير وحيوي مثل مشروع الجزيرة، الذي اعتمد نجاحه تاريخياً على ترابط وتكامل تلك العوامل.
واحد من مظاهر العجز الإداري، التي عانى منه طرفان اساسيان من الاطراف الثلاثة المكونة للشراكة في المشروع، وهما إدارة المشروع والحكومة المركزية، هو الفهم الخاطئ لطبيعة المعالجة التي يجب التصدي بها لمشاكل المشروع، وهو فهم مخل ومتوارث لحقب طويلة، حيث ان الحكومات المركزية وخاصة في ظل الدكتاتوريات والانظمة القمعية، درجت على الاعتقاد بان استصدار القوانين هو الحل الناجز لمشكلات المشروع!، في حين انه إذا كان من الجانب النظري او العملي وبحكم التجربة الانسانية كذلك، ثبت أن السعي الأجدى هو ملامسة الأسباب والجذور الحقيقية للمشاكل ثم حلها.
إصدار القوانين لم يقدم شيئاً سوى التعقيد للأوضاع في المشروع، لأنه دائماً، ومن وراء كل قانون تم اصداره بشأن ما هو متعلق بمشروع الجزيرة، تكمن جملة من المآرب، وتركن قوى اجتماعية ذات مصالحٍ دفينة!. ولا غرو، إذ نجد ان كل القوانين التي كانت لها الآثار البليغة والضارة بمصالح اهل المشروع، نجد أنه قد تم اصدارها في ظل الانظمة الدكتاتورية!. وأسواها على الاجمال قانون 1984 الذي صدر في ظل دكتاتورية النميري، والذي لا اسوأ منه سوى قانون سنة 2005 وتعديلاته لسنة 2014 واللذان صدرا تحت النظام القمعي الراهن.
الأول املته إرادة ممولي خطة إعادة تأهيل المشروع آنذاك، وهم حكومة اليابان صندوق النقد الكويتي وايطاليا، والذي بموجبه الغي الحساب المشترك للمزارعين، واما الثاني فقد فرضته سلطة الرأسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس)، بعد ان خضعت كلية لإرادة البنك الدولي ودوائر الرأسمال العالمي، والذي بموجبه اصبحت خصخصة المشروع واقعاً، وذلك تمهيداً لإلحاق المشروع بالمؤسسات العابرة للقارات.
(2)
بعد ان استقر الامر للرأسمالية الطفيلية الاسلامية، عقب الاستيلاء على السلطة وبقوة السلاح والانقلاب العسكري ( 1989)، اضحى متيسراً لها ليس فقط وضع يدها على المؤسسات العامة وانما السيطرة الكاملة على القطاعات الاقتصادية الحيوية في البلاد، ومن ضمن ذلك، بالقطع، كان مشروع الجزيرة.
إن الهجمة على مشروع الجزيرة كانت وما زالت، وستظل تحتاج لمبرر ولمجهود نظري ولمسوغ ظرفي وقانوني. وذلك امر حتمته، بالطبع، حقيقة تاريخية معلومة، وهي ان تجربة مزارعي الجزيرة والمناقل التاريخية اكبر من تجربة الاسلام الحركي، وهي تجربة عجمتها معارك حقيقية مع كل انواع السلطات، الاستعمارية منها والديمقراطية والعسكرية على حدٍ سواء!. فلذلك فإن تجيير مشروع الجزيرة لصالح اي قوة، ومهما كانت، يبقى امراً صعب المنال.
وفي سبيل حمل مشروعها لأجل ان يتحقق بذلت الرأسمالية الطفيلية الاسلامية مجهوداً نظرياً كبيراً، وجاءت بمبررها، اي ما تعارف عليه بـ”مثلث حمدي”، والذي يقع في مكان القلب منه مشروع الجزيرة، ويمكن التحقق من ذلك فقط بالنظر إلى إحداثيات ذلك المثلث العنصري، وهي دنقلا وسنار وكردفان.
ومما تجدر الاشارة إليه هنا، هو ان اعتمد تحديد ذلك المثلث الذميم على حقائق تاريخية صحيحة، تتعلق بذلك الحيز الجغرافي، وبالدور المشهود الذي لعبه ساكنوه في تاريخ السودان!. فمن حيث التصنيف تعتبر هذه المنطقة التي اختارها حمدي لمثلثه، ولكي تقوم عليها دولته العرقية وتتمكن، تعتبر منطقة زراعة واستقرار من الدرجة الاولى عبر كل الحقب التاريخية. فها هو مشروع الاسلام السياسي العنصري، دون مواربة وكما صاغه عبد الرحيم حمدي وبكلماته، حيث يقول: “الافتراض الثالث : أن الجسم الجيوسياسى في المنطقة الشمالية المشار إليه أعلاه وسأطلق عليه اختصاراً (محور دنقلا – سنار + كردفان) أكثر تجانساً.. وهو يحمل فكرة السودان العربى/ الاسلامى بصورة عملية من الممالك الاسلامية القديمة قبل مئات السنين.. ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسى عربي/أسلامى يستوعبه. وهو “أيضا” الجزء الذى حمل السودان منذ العهد التركى/الاستعمارى/الاستقلال.. وظل يصرف عليه.. حتى فى غير وجود البترول ولهذا فأنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون (أن لم يكن سياسياً فاقتصادياً عن طريق سحب موارد كبيرة منه) لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة، يصدق هذا بصورة مختلفة قليلاً حتى إذا ابتعدت دارفور.. رغم إمكانية خلق علاقات اقتصادية أكثر مع دارفور حتى لو انفصلت أو ابتعدت سياسياً.”
وتحت عنوانٍ جانبيٍ من كتاب “مشروع الجزيرة وجريمة قانون سنة 2005″، باسم “نشأة مشروع الجزيرة أو خلفيته التاريخية”، جاءت العبارة التالية، ” كان القصد من هذه الإضاءة التاريخية المطولة هو تأكيد ما كان محوري ومشترك بين تلك الاقتصاديات الثلاثة، والتي تنتمي إلى ثلاث مراحل تاريخية مختلفة في السودان، المصري التركي، المهدية، والحكم الثنائي. ما كان متقاسماً بينها هو اعتمادها الزراعة قاعدة اساس يقوم عليها اقتصاد البلاد”. وعليه، فإنه وبحكم موقعها الاستراتيجي فقد كانت ارض الجزيرة هي الحاضنة الاساس للنشاط الزراعي الذي قامت عليه كل السلطات المركزية التي حكمت السودان.
وأعلاه هي واحدة من الحقائق التاريخية الساطعة التي وظفها الاسلام الحركي على لسان احد مفكريه لتنفيذ مشروعهم الاشر باقتلاع الناس من مشروع الجزيرة، ومن ثم الاستيلاء عليه. إنه لابد من النظر في شمول لكل ما يقوم به الاسلام السياسي من خطواتٍ، قد تبدو معزولة ومنعزلة ومتباعدة غير أن هناك حبلا سريا يربط بينها.
وفي تاكيد ذلك المنحى فقد قام أحد الاسلاميين الحركيين بأخطر مما قام به الاسلامي عبد الرحيم حمدي. قام دكتور تاج السر مصطفى في عام 1998، ومن خلال توصيات لجنته الجائرة، بفتح الطريق وتمهيده امام الرأسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس)، لأجل القضاء على مشروع الجزيرة. ما قامت به هذه الجنة لم تتجرأ على القيام به اي من اللجان التي مرت في تاريخ المشروع، وبما فيها حتى اللجان التي كونها البنك الدولي نفسه.
نتابع…….
Siddiq01@sudaneseeconomist.com
*خبير اقتصادي