تمر هذه الأيام الذكرى المائة وتسعين لوفاة حسين شريف أول رئيس تحرير سوداني لصحيفة سودانية هي “حضارة السودان”. وهو ابن الخليفة شريف خليفة سيدنا عمر بن الخطاب في هرم الولاية عن المهدي عليه السلام. وهو حفيد المهدي عن ابنته الشريفة زينب. تخرج من كلية غردون في 1912 وعمل بالتدريس في مدارس السودان.
أول رئاسة تحرير آلت لحسين كانت لصحيفة “الرائد” التي أصدرها تاجر يوناني في 1914. وهي رديف لجريدة أصدرها باليونانية للجالية. وكان شجعه سودانيون ليصدر تلك الصحيفة العربية. وتعاقب عليها رؤساء تحرير عرب منهم الشاعر السوري فؤاد الخطيب أستاذ اللغة العربية بكلية غردون. وتولى حسين شريف تحرير الرائد بعد طرد الإنجليز لمحررها الشاعر عبد الرحيم قليلاتي. وكان اعتقله الإنجليز لأنه هاجمهم بالبيت:
تموت لأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
محتجاً على أحوال السودانيين في شدائد الحرب العالمية الأولى بينما ينعم الإنجليز وكلابهم باللذائذ.
لم يرض حسين بإطار “الرائد” ورغب في صحيفة سودانية حقاً. وعبر عن هذه الرغبة على صفحات الرائد مستصرخاً: “شعب بلا جريدة كقلب بلا لسان”. وصدرت بالنتيجة “حضارة السودان” في 1919 بتضافر السادة عبد الرحمن المهدي ومحمد الخليفة شريف، من عترة المهدي، والمشائخ التجار عثمان صالح من أم درمان، وعبد الرحمن جميل من كوستي، وحسن أبو من الأبيض وصاروا أصحاب الامتياز. ثم تحول امتياز الجريدة في 1920 إلى السادة الروحيين: عبد الرحمن المهدي، على الميرغني، الشريف الهندي. وكان ذلك تاريخ تحولها من صحيفة أدبية سياسية إلى صحيفة سياسية. وبدا أن رحلة نفس هؤلاء السادة إلى لندن في 1919 لتهنئة مليكها بالنصر في الحرب العالمية الأولى هي التي حفزتهم للمبادرة بالجريدة.
وما اشتعلت الحماسة الوطنية السودانية بعد ثورة مصر في 1919 وتفرقت سبلها بين مراهن على الولاء لمصر ومراهن على انجلترا للسيادة على السودان حتى وقفت الحضارة مع شيعة من وثقوا ببريطانيا دون مصر. فنشر في 1920 مقالات أربع بعنوان “المسألة السودانية”. وميز في موقفه بين قولنا إن المصريين أخوان لنا وبين تجاوزهم تلك الأخوة لأطماع في السودان. وشدد على أن السودانيين أدرى بمصلحتهم. ونظر إلى ما يكتب في مصر عن هذه الأطماع بأنه “سخف يجب أن يذرى في مهب الرياح ثم يتناقش عقلاء الأمتين فيما هو بينهم حقيقة من مسألة النيل، وعلاقة القطرين بالسياسة وهما مثار تلك الحرب التي صُلينا بحرها ولم نكن، علم الله، من جناتها”.
وميز حسن نجيلة مقالة حسين بتاريخ 21 أغسطس 1920 الذي دعا فيه إلى حل الشراكة الثنائية الإنجليزية المصرية على السودان، وتوحيد حكومته منعقدة للإنجليز دون غيرهم. فاستهجن العلاقة الثنائية. وقال إنها جعلت من السودان “ظلاً أو ذيلاً لا وجود له إلا في التاريخ”. فالسودان ليست بأغنام يتشارك الرعاة فيها. بل “هي جماعات من البشر كان الأصل فيها أن تكون ولية أمرها وحاكمة نفسها ثم قضت عليها أحوالها أن تكون في درجة تحتاج إلى إرشاد فيجب أن يتولى ذلك عنها سلطة واحدة تحسن القيام بالمهمة”. وعاب على الشريكين أنهما في الواقع متشاكسين: هذا يبني وذاك يهدم مما يتضرر منه السودان. وباعتبار حالة قصور السودان عن حكم نفسه يزكي حسين استفراد إنجلترا بحكمه لأن مصر، وإن كانت في طليعة الأمم المطالبة بالحرية، إلا أنها لم تبلغ بعد سن التمرس في الحكم بما يُطمئن أن يكون السودان وديعة عندهم. فودّ حسين أن لو كانت مصر مناط هذه الوديعة. وعليه فمن الخرق والحمق التغرير بالسودانيين والمقامرة في من يكون عليهم ولياً. ورأيه أن لم “يبق لنا إذن إلا باب واحد هو الإنكليز. وهؤلاء لا يسع أحد أن ينكر أنهم أكفأ من أدار دفة، وساس امة، على قدر ما تسعه طاقة البشرية ويتسع لدولة فاتحة وأمة استعمارية”.
ومعلوم أن من ولووا وجههم شطر مصر نشطوا بالعمل السري تنظيماً في الاتحاد السوداني (1922) واللواء الأبيض (1924) وبالمنشورات لإذاعة مذهبهم. وجاء حسن نجيلة ببعض منشوراتهم مثل ذلك الذي جاء بتذييل “ناصح أمين”. وطعنت المنشورات في ممالاة السادة والأعيان للإنجليز حتى أضطر السيد الشريف الهندي للرد عليها بمقال في جريدة الحضارة. وبالطبع قامت ثورة 1924 تظللها الدعوة لوحدة وادي النيل.
ومن أطرف ما في هذه المواجهة تلك اللحظة الدرامية التي اقتربت الوجهتان حول مصير السودان اقتراباً عصيباً. فكان أن جاء الشهيد على عبد اللطيف إلى مكتب حضارة السودان بمقاله المعروف ب”مطالب الأمة السودانية” وتركه في مظروف للنشر. وعاد مرة أخرى ليسال عنه والتقى بحسين الذي قال له إن مقاله جيد وموضوعه حي ولكن لم يحن موعد نشره بعد. وخرج علي من اللقاء غير راض. ثم عاد حسين وعلي للاجتماع حول المقال مع زملاء آخرين اتفقوا على قيمة الموضوع وإرجاء نشره. ولم يمر يومان حتى داهم المستر وليس، مدير المخابرات، دار الحضارة وفتش مهتاجاً أدراجها في غيبة رئيس التحرير. ووجد المقال. ولما جاء حسين عاتبه وليس على إخفاء مثل ذلك المقال الخطير عنهم. ونسب نجيلة الإبلاغ عن المقال إلى بعض عيون المخابرات. وقدمت الحكومة كلا من حسين وعلي للمحاكمة. فبرأت حسين وقضت بسجن على عبد اللطيف وتجريده من الرتبة.
وتوفي حسين في اول يونيو 1928 وشيعته جمهرة كبيرة على رأسها أفواج من الخريجين. وتم تأبينه في نادي الخريجين بأمدرمان في الأسبوع الأخير من نفس شهر يونيو. وكانت الخرطوم عرفت حفلات التأبين منذ 1919. فودعت في السنة عبد المجيد بك إبراهيم المصري ناظر كلية القضاء الشرعي والمعلمين والشيخ محمد عمر البنا مفتش المحاكم الشرعية وصاحب القصيدة العصماء في المهدية:
الحرب صبر والثبات لقاء والموت في شأن الإله حياة
وكان من نعاة حسين الصحفي إسماعيل العتباني صاحب الرأي العام لاحقاً ومحمد أحمد محجوب بقصيدة مطلعها:
إن الذي وهب العزائم في الورى وهب الفقيد عظيمة الرئبال
ولحسين عبارة عربية مشرقة كما رأينا. فقال عن الحضارة إنها صدرت لتنطق بلسان السودانيين و”تزود عن حوضهم بشبا القلم وسلاح الخلق وتحوط وحدتهم بسياج القومية وسور العصبية وتبحث عن أدوائهم متعرفة منشأها وتطلب الدواء النافع لها”. وعاتب المصريين على نفخهم في مطامعهم أو حقهم في السودان بما “أهالوه لنا وكالوه مما لا تسلم معه زجاجة ود ولا يثبت أمامه حبل قرب. ومع أننا ضنينون بالإخاء حريصون على الوفاء نعض عليهما بالنواجذ ولا نبيعهما بالبوادر والقوارص”. وكان جدله مع المصريين رصيناً: جدل الواثق ليس من حقه في ما اعتقد فجسب، بل جدل من امتلك اللغة وبلاغتها. فهو لا يشغب بها ويهاتر بل يسدد الطعنة تلو الطعنة بها ويوجع.
وربما أحسنا إلى حسين في هذه الذكرى بدراسة مجددة لمنشوراته في حضارة السودان لمعرفة وثقى بديناميكية دعاة الاستقلال (المفهوم أنه ثقة ببريطانيا لأخذ السودان إلى مدارج الحكم الذاتي) الذين دمغهم طويلاً من وثقوا بمصر للغاية نفسها ب”العمالة” و”التعاون” مع الإنجليز والإخلاص لهم. وكتبت لأحدهم من قريب عن استحقاق هؤلاء “الخونة” مثل هذا الفحص المتأخر بعد أن صار أكثرنا بآخرة على مذهبهم يخطبون ود الإنجليز ويبكون على أيامهم الزاهرة فينا وبيننا . . . أو يتباكون لا فرق.
هذا المقال مكتوب في ظل بركة “ملامح من المجتمع السوداني” لحسن نجيلة. والصورة لغلاف لجريدة حضارة السودان فيه مناشدة بالتبرع لمنكوبي مدينة المدينة المنورة.