عندما زجرت ملكة دارية ذلك الصبي (المدهول على عينو) يا (ابو بدله ثلاث صاغ وساعة نص فرنك) بثلاث لغات…بالعربية “أسكت” وباللاوندي “شط آب”، وبالنوبية “كُفْي” لم تكن فقط تقصد إحراجه أمام أترابها، وهي في طريقها إلى (الكُتّاب)، ولكنها كانت تريد بذلك أن تضع حداً لمثل هذا التصرف حتى لا يتكرر، ولكي لا تبقى ظاهرة يستغلها عموم دغيم جنوب، والمشوشون منهم على وجه التحديد، سبباً للإحجام عن الانضمام لهذا المشروع، وعله يتسترون بها لإجهاضه في مهده، و قد يقدم هؤلاء على تحريض فقير عبد الرحمن شيخ الخلوة وإمام الجامع على مدى خطورة هذه الخطوة، وتأثيرها في الهيمنة الذكورية، و قوامة الرجل في البيت .
وعندما زجر محمد خليل شيخ حرمه متوعداً إياها بالأيمان المغلظة، بعد أن أضاف إليها من عنده “وثمود الذين جابوا الصخر بالواد.”
كان قصده أن تتكتم على الموضوع، حتى يكتمل مشورته مع أهل الرأي و الحل والعقد في مشيخته، وهؤلاء هم شيخ طه عمر، وشيخ عدنان أرمدان، وشيخ أبا يزيد …. وعلي هوف، وشيخ العرب (إدريس) …. منهم من تحمس وشجع، ومنهم من رفض وتلجلج، ومنهم من وافق على مضض، اما استنكار حرمه فقد تحول إلى ذهول، وهي تسأل: (أبرتي.. سجمي) البنات الأربع حيمشوا (الكتاب)، طيب مين حيقعد معاي في البيت؟!!
هو: ايوه الأربعة (عائشة، وطاهرة، وهانم، وأمنة)..
هي: حيقولوا علينا إيه..
هو: مين حيقول ..مش في بنات مشوا (عام أول) قبلهم “حدى نقنق”!!!!
الكلام ده نهائي، ومش عاوز نفتحوا تاني !! … عندها سحب الغطاء على نفسه، ترامى له صوت (ولولي) من حفل بعيد، وهو يغني: شعوب العالم بتطالب بالحرية…
هو: أبوكي عكس العالم مش عايز الحرية.
ابتسم محمد خليل شيخ ابتسامه غامضة، ثم راح في سبات عميق…
وعندما زجر طه عمر الطير من أمامه ذلك الصباح، هبت نسمه خفيفة حركت أشجار النخيل من حوله… العصافير طارت أخذت نصف دورة، ثم عادت إلى موقعها من جديد، بينما وقف طه عمر يمسح السهل الأخضر الممتد أمامه على طول السواقي في دغيم جنوب “أشكان.. كوفارين.. مارنجان.. بوسين.. سنديليه.. ابيضين”.. بعدها بقليل كان وصل عند طرف (الزونيا).. عندما مر سرب الصبايا حاملات (القيروانات) في طريقهن إلى مشوار (الماء) الصباحي….. كان صوتهن مفعماً بالأمل، وهن يرددن: شامه ما زالت صغيرة ..فنسألوا الليل عن معنى الهوى …. أو اعطوني جناحاً فأطير.
وعندما زجر عبد النبي حماره ذاك الصباح كان الصبر قد بلغ منتهاه.. فالحمار يرفض أن يغير مساره البومي الروتيني عبر مشرع بوسين، وحتى طرف البحر، هناك حيث يتناول فطوره الصباحي من برسيم ولوبيا الجروف قبل أن يعود إدراجه إلى عمله الروتيني في التحميل والترحيل ..
كان صباحاً غير الصباحات الاعتيادية في دغيم .. الأمهات القلقات تركن الباب نصف موارب، يترقبن خروج الصبايا المتدثرات بالفضيلة والحياء.. تتعثر خطواتهن الصغيرة في مسار مخالف تماماً لمسار أمهاتهن من قبل.
عند شجرة (زونيا عدنان) اجتمعن بنات محمد خليل شيخ الأربع “عائشة وطاهرة وهانم وآمنة” في انتظار منيرة عدنان وفتحية سعيد، أما أسماء كردي وميمونه كردي فردوس كردي وساكنة كردي فقد انتظرن عند الطاحونة؛ ليحضرن في معية زكية عابدين قيل، وشقيقتها رقية، ومعهن فاطمة ابو زيد صادق، وعند (ساقية اشكان) كان قد اكتمل بقية العقد الفريد بحضور نعيمة شريف حسين، وفاطمة أحمد سليمان، وزلفة عبد الحليم، وفاطمة عثمان (يوجي)، وعواضه صباح، وعائشة خميس.
بذل عبد النبي خير السيد مجهوداً كبيراً في ترويض حماره، الذي كان يرفس ويعاند بشدة مرافقة الصبايا في غير اتجاهه المعهود، فكان ان قال عبد النبي قولته المشهورة:
الحمار (ابن الكلب) ده عمره مش حيبقى بني آدم.
.. ونواصل.