إذا كنت – يا عزيزي القارئ – ممن يحبون الإجابات المختصرة، فتوقع أن الإجابة المباشرة على سؤال العنوان أعلاه ستكون (نعم) بكل تأكيد وبلا مواربة.
أما وإن كنت من هواة التفاصيل، فلقد سبق ووضعنا بين يديك استقصاءً لفشلٍ تراكم عاماً بعد عام، لما يربو على الثلاثة عقود زمنية. حشدنا فيه تفاصيل كلَّت يد الكُتَّاب عن تكرارها، وملَّت الأفواه عن ترديدها. وعندما نقول (نعم) فذلك ليس تدليساً ولا افتراءً على واقع يعيشه الناس، فهُم في غنىً عَمن يُذكِّرهُم بؤسهم ومآسيهم. ومع ذلك فإن سدنة النظام أنفسهم باتوا يتبارون في الاعتراف بهذا الفشل. وبما أن المنطق يقول إن المواطنين لديهم الكثير من الحقوق في ظل الحكومات التي تستند على شرعية دستورية، إذاً من الطبيعي أن يكون واجب هذه الحكومات توفير هذه الحقوق، لكي تنال ثقتهم وتكسب احترامهم. وتعلمون أن هذه الواجبات ليست طلاسماً أضنى الناس البحث عنها في الكواليس، ولكنهم يلمسونها ببساطة في صحتهم وتعليمهم وسائر الخدمات العامة، ويزيدون عليها كدحاً لتوفير مأكلهم ومشربهم وملبسهم، ثمَّ في إطار الحريات العامة يضمنون استمرارية هذه المعادلة. وتبعاً لذلك يعم السلام، ويتحقق الاستقرار، وتتقدم الأمة في سُلم البشرية!
(2)
جاء نظام العصبة الحاكم إلى السلطة وهو يفتقر لتلك الشرعية الدستورية، وظلت وصمة الانقلاب العسكري تلاحقه كجريمة نكراء، حاول التحايل عليها بشتى السبل ولكن دون جدوى. اخترعوا بدايةً ما سُمي (لجان الحوار) وبعد حين ابتدعوا فرية (الإجماع السكوتي) ثمَّ أخرجوا من جرابِهم (التوالي السياسي) وعندما لم يجدِ كل ذلك فتيلاً، عمدوا إلى آلية الانتخابات، تشبهاً بالأنظمة الديمقراطية المحترمة. وكأنهم لا يعلمون أن تكلفتها الأخلاقية فوق طاقتهم، فعاثوا فيها تشويهاً وترقيعاً وتزويراً. بيد أنه أثناء كل هذه (التجارب) التي ظنوا فيها أن شعب السودان، أشبه بـ (فئران المعامل) دخل العباد والبلاد في امتحان عسير، جف فيه الزرع وهلك الضرع، وتضعضت القيم والمثل والأخلاق، وأخيراً قالوا للناس إن (منقو زمبيري) محض أكذوبة جغرافية. وعليه لم يكن ثمة مناص من أن يدفع الدِّين الإسلامي الذي احتموا بسمائه لمداراة سوءتهم، ثمناً باهظاً تجرعه الذين جُبلوا عليه بالفطرة، فأصبح عصياً عليهم أن يفرقوا بين ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.
(3)
عمدت العصبة ذوي البأس من باب الاستعلاء في استخدام هذا الدِّين كمطية للوصول لغايات سياسية، وتوهموا أن سدنتهم فئة مصطفاة، فأشاعوا كذبة بلقاء وصدَّقوها من فرط الغُرور، إذ ظنوا أنهم مبعوثو العناية الإلهية لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. ولم تكن الفرية نفسها في حاجة لكثير اجتهاد، هنيهةً فإذا الأذقان أُرسلت بين عشية وضحاها، وهي التي كانت عصية على الإنبات لسنواتٍ طوالٍ. وإذا الكروش مُددت، رغم أن أصحابها كانوا من شاكلة من قال فيهم الحطيئة (طاوي ثلاث عاصب البطن مُرمل) وإذا الجباه وُسِمت رياء الناس، وإذا الأكاذيب سُعِّرت فاختلط عليهم حابل التكبير والتهليل بنابل الدجل والإفك. وإذا الخزائن أُزلفت فهبط عليها القوم كما هبط الجراد الصحراوي على زرع أحاله صعيداً جرزاً. وحتى تكتمل المسرحية تزينوا (بالعباءات) التي تمنح صاحبها (الهيبة المصطنعة) كما سمَّاها المفكر الفرنسي ذائع الصيت غوستاف لوبون.
(4)
أولئك الذين دانت لهم السلطة، جاؤوها يحملون القرآن بميامنهم و(شنط الحديد) بمياسرهم، ما أن استتب إليهم الأمر حتى أخرجوا عِصِيهم كما حواة فرعون من تلك الشنط البالية، وراحوا يلهبون بها ظهور المعارضين تعذيباً وتنكيلاً وتقتيلاً، بل حتى الذين قالوا ربنا الله مزقوا القرآن على أجسادهم، وقالوا لهم ما قاله الوليد بن يزيد الأموي بالأمس (إذا جئت ربك يوم حشر فقل مزقني قوش) فطغوا في البلاد واعتقدوا أن مهمتهم الوطنية والتاريخية والدينية تركيع كل من يخالفهم الرأي وليس العقيدة. وهؤلاء هم من صَنع من نفسه صنماً تهوى إليه قلوب الفاسدين، فتدافعوا كما تتدافع الموقوذة والمتردية والنطيحة بغية إيجاد موطِيء قَدمٍ في دولة الصحابة، فكان ذلك إيذاناً بتذويب الطبقة الوسطى، عماد المجتمع السوداني سياسياً واقتصادياً، لتحل محلها الطغمة الرأسمالية الطفيلية البغيضة، وقوامها أرباب النظام والمؤلفة قلوبهم وآخرون من وراء حجاب. ثمَّ بدأ موسم حصاد القناطير المُقنطرة من الذهب والفضة، والجمع بين النساء مُثنى وثُلاث ورُباع، والتمدد في البنيان فتطاول طابقاً عن طبق!
(5)
لم يكن أحد من المراقبين يظُن أن النظام الذي انقضَّ على السلطة بفؤاد أفرغ من جوف أم موسى، يمكن أن يبقى على سدة السلطة طويلاً. وصحيح أن تقادم السنين أصاب البعض باليأس والقنوط، وصاروا يمارسون نوعاً قاسياً من جلد الذات، أو بالأحرى جلد الشعب السوداني، فيكيلون له صنوفاً من الاتهامات التي يضيق بها قاموس الحانقين. وظنَّ الكثيرون أن التطاول مرده إلى قُوة النظام، وأن السودانيين الذين ضجَّ تاريخهم بكل أنواع البطولات ضد الأنظمة الاستعمارية والديكتاتورية، تقاعسوا واستكانوا وأصابهم الخنوع في منازلة النظام. لكن الحقيقة تقول إنه لا هذا ولا ذاك، فللأمر ظروف موضوعية تظهر جليةً حينما يضعها المرء في إطارها الصحيح دون تحامل أو تجنٍ.
(6)
إن تطاول سنوات النظام ليس مردها إلى قوته أو ضعف في مقاومة الشعب السوداني، كما أن الظروف التي أدت إلى ذلك ليس من العدل ابتسارها، فهي كثيرة ومتشعبة. فالثابت أنه طيلة الفترة العجفاء التي جثم فيها النظام على صدر الشعب السوداني، تؤكد الوقائع التاريخية – التي لم تُطمس بعد – أن شعلة المقاومة ظلَّت مُتقدة، وقد دفع البعض ضريبتها الوطنية القاسية، بدليل أن عدد الذين استشهدوا في هذه الحقبة والدماء التي جرت، ضربت رقماً قياسياً، ليس على مستوى السودان فحسب، وإنما على مستوى دول الإقليم. ذلك يدل أن الشعب السوداني على عكس ما ظل يتراءى للبعض، قد قدَّم الغالي والنفيس. ولكن من باب الإنصاف والموضوعية يمكن القول، إن المقاومة ضد النظام الديكتاتوري البغيض، لم تبلغ أقصى الدرجات التي طمح لها الوطنيون، قياساً بحجم ومستوى ونوعية الانتهاكات، وحياة الذل والمهانة التي عاشها السودانيون تحت إبط النظام!
(7)
اتساقاً مع تفسير ما جرى يومذاك، كان حواة النظام قد عمدوا منذ اليوم الأول إلى زعزعة الآليات التي درج السودانيون على استخدامها كترياق ضد صلف الديكتاتوريات وغلوائها. فعند حدوث الانقلاب لم يكن ثمة خيار يلجأ إليه الشعب سوى تفعيل التجربتين الرائدتين ضد الأنظمة الديكتاتورية، كما في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 ولكن دون رؤى في تطوير آليات الإضراب السياسي والعصيان المدني لتواكب طبيعة النظام وتتواءم مع مقتضيات العصر. وبالتالي غاب عن الناس أن تكرارهما بذات الصورة الكلاسيكية يبدو أمراً عصياً إن لم يكن مستحيلاً. ليس لأنهما فقدتا فعاليتهما أو انتهت صلاحيتهما، ولكن لأن النظام أقدم على إحداث تغييرات هيكلية، فكك بموجبها النقابات والاتحادات المهنية، وقام بمحاولات تدجين الأجهزة النظامية، مثلما قام بإجراءات تعسفية في الخدمة المدنية بغية مزيد من التمكين في السلطة. بيد أنه صار واضحاً وجلياً إن عصرنة تلك الآليات كفيل بإرجاع الأمور إلى نصابها الصحيح!
(8)
لقد أدت حصيلة تلك الإجراءات البائسة إلى ضنك معيشي لا تخطئه العين، ومعاناة يرزح تحت وطأتها الشعب وتتفاقم يوماً إثر يوم، مما حدا بكثير من المراقبين أن ينظروا لها على أساس أنها دوافع مكتملة الأركان لاقتلاع النظام من جذوره. وفي المقابل باتت صور اللا مبالاة التي تظهر بين الفينة والأخرى محيرة للمراقبين أيضاً، نسبة لما تنطوي عليه من تناقضات مثيرة للاهتمام. لكن الأمور لا تُقاس بالتمنيات الطيبة، فالظروف الذاتية والموضوعية التي يمكن أن تشعل ثورة شاملة لم تكتمل بعد. وبالتالي ما يحدث الآن هو بلورة لهذه الظروف في اتجاه الهدف المذكور. ويمكن القول إنه متى ما انتصب عودها، فلن يستطيع إنس ولا جان من الوقوف في طريقها. فالنظام الذي فقد مقومات البقاء – وليس في ذلك مغالطة – أصبح أمر سقوطه النهائي مسألة وقت لن يطول أمده. ولا نقول ذلك رجماً بالغيب أو امتثالاً للتمني، ولكن وقائع ما يجري أمام أعيننا تنبيء بذلك. على الرغم من إقرارنا أن التطويل الذي حدث في عمر النظام، دفع الشعب السوداني ضريبته القاسية، وكان خصماً على أحلامه وتقدمه وتمتعه بعيش كريم كما سائر عباد الله.
(9)
من المفارقات أنه عندما حدث الانقلاب في الثلاثين من يونيو1989 روج البعض لمصطلح سُموه (لوح الثلج) وكان يعنى أن النظام الذي أبدى شرهاً غير منكور في الاستيلاء على السلطة، وشرع مباشرة في ممارسة الاستبداد السياسي في أسوأ صوره، ليس ثمة مناص من أنه سيواجه مشاكل معقدة ولن يستطيع الصمود أمامها. وبالتالي ما على الناس سوى جلوس القرفصاء والتمتع برؤيته يذوب تحت وطأة شموس السودان السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحارقة، تماماً كما يذوب لوح الثلج. أي دون إبداء مقاومة تُذكر. لكننا لم نأبه لذلك، بل كنا نسخر من القول بحسبه (سقط متاع) وقول عاطل. لكن الذين كانوا يزعمونه يستندون في دعواهم على الحتمية التاريخية التي تؤكد أن التنطع والإدعاء لا محال خائب، وأن إدارة قطر كالسودان ليست كإدارة اتحاد طلبة كما توهمت الجماعة!
(10)
بغض النظر عن سنوات غالية ضاعت سُدى، نقول نعم إن نظام العصبة ذوي البأس الآن هو ذاك (لوح الثلج) الذي بدأ يذوب تحت وطأة الشموس الحارقة. فقد سقط النظام بالفعل، ولكنه ليس لأنه لا يوجد في عصبته من هو في عبقرية آدم اسميث لينقذ اقتصاده الذي يزحف نحو الانهيار الكامل. وسقط النظام ليس لأنه لا يضُم بين أزلامه من هو في حكمة نيلسون مانديلا ليعبر به نحو بر الأمان. وسقط النظام ليس لأنه لا يوجد بين سدنته من هو في زهد عمر بن عبد العزيز ليقتدي به الطامحون. وسقط النظام ليس لأن وزير المالية الركابي نعاه بكلمات لا تقوى أعتى الديكتاتوريات على نطقها. وسقط النظام ليس لأن غندور اعترف بعجزه في تسديد رواتب السفراء. وسقط النظام ليس لأن الدولة فشلت في تسيير سفارات فأوصدت أبوابها. وسقط النظام ليس لأن بكري حسن صالح صمت دهراً ونطق كفراً أعلن فيه إفلاس خزينة الدولة. وسقط النظام ليس لأن رجلاً أهطلاً اسمه عبد الرحيم محمد حسين ظل يهرف بما يُضحك حتى القرود… لكن سقط النظام – أيها السيدات والسادة الكرام – لأنه طعننا في أعزَّ ما نملك… وهو الكرامة السودانية!
غداً عندما تأكل دابة الشعب منسأة النظام، سيعجب الكثيرون كيف لبثنا في هذا العذاب المهين!!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر!
faldaw@hotmail.com