رغم الأثر السَّالب لانتشار ظاهرة “الإسلاموفوبيا” على سلام، وأمن، وطمأنينة المسلمين في الغرب، المهاجرين، واللاجئين، والزَّائرين منهم خصوصاً، إلا أن ثمَّة، بالمقابل، رفضاً متزايداً لهذه الظاهرة وسط قطاعات واسعة من مواطني هذه البلدان من غير المسلمين. فلقد شاهدت في بعض مواقع التَّواصل الاجتماعي، مؤخَّراً، شريحة فيديو لبعض مسافري الترانزيت بمطار أمستردام يقيمون صلاة جماعيَّة تحت حراسة جمهور من غير المسلمين تصادف وجودهم، بعد أن اعترضت الشُّرطة أولئك المصلين المسلمين، وحاولت منعهم من أداء عبادتهم.
أمَّا في المستوى الجَّماهيري العريض فلعلَّ أحدث نماذج هذا الرَّفض ردود الفعل الصَّادرة في ألمانيا عن مختلف الأحزاب، والقوى السِّياسيَّة، وجماعات الضَّغط، والمنظمات المدنيَّة، إزاء القرار الذي اتَّخذته، في أبريل 2018م، حكومة بافاريا، برئاسة ماركوس زودر، من حزب الاتِّحاد الاجتماعي المسيحي، وهي الولاية الأغنى، والأكثر محافظة، وذات الأغلبيَّة الكاثوليكيَّة، برفع “الصُّلبان”، ابتداء من أوَّل يونيو الجَّاري، على واجهات مستشاريَّتها، ووزاراتها، ومراكز شرطتها، وأجهزة تخطيطها المدنيَّة، ومؤسَّساتها العامَّة كافة. لكن الأهمَّ من هذا الرَّفض المدني رفض الرُّموز الكنسيَّة، كالكاردينال رينهارد ماركس، رئيس مؤتمر الأساقفة الذي اعتبر أن من شأن القرار خلق شروخات عميقة في بنية المجتمع. كذلك انتقدت القرار كاترين إيكارت، العضو السَّابق في المجمع الكنسي البروتستانتي (2009م ـ 2013م)، ورئيسة كتلة الخضر في البوندستاغ، والتي تصدِّت لمكابرة زودر في زعمه بأن “الصَّليب ليس رمزاً للمسيحيَّة، بل اعتراف بالهُويَّة الثَّقافيَّة البافاريَّة”، فأكَّدت على أن “الصَّليب أهمُّ رمز كنسي يعكس معاناة المسيح”، لولا أن “زودر يُسئ إليه باستخدامه في معركته الانتخابيَّة”، وهو أمر “مخز لكلِّ مسيحيَّة ومسيحي”!
من المهمِّ أن نشير، هنا، إلى أن نسبة الرَّافضين لهذا الإجراء البافاري بلغت 87%، بينما لم تزد نسبة من أيَّدوه عن 12%. كما ومن المهمِّ، أيضاً، أن نشير، بصفة خاصَّة، إلى أن المحكمة الدُّستوريَّة الألمانيَّة العليا قد سبق وأبطلت قانوناً أصدرته، في منتصف مايو 1995م، نفس ولاية بافاريا، وكان يقضي، أيضاً، برفع “الصُّلبان” في مختلف الفصول وقاعات الدِّراسة!
قد يقول قائل إن المقصود بإجراء الحكومة البافاريَّة ليس المسلمون وحدهم، إنَّما كلُّ الأديان والطوائف غير المسيحيَّة، بل وقد يعني، في نظر البعض، شكلاً من أشكال التَّجاوز الجَّهير لمبادئ “العلمانيَّة” ذاتها. غير أنه، وعلى الرُّغم من خطورة التَّمييز الدِّيني أيَّاً كان، إلا أن ما يجعل العداء للإسلام والمسلمين، على وجه الخصوص، من قِبَل الجَّماعات النَّازيَّة، ومروِّجي قيم الكراهيَّة، والعنصريَّة الدِّينيَّة، أمراً غالباً على هذا الإجراء هو، من ناحية أولى، أن تعداد المسلمين في ألمانيا حوالي أربعة ملايين، وبهذا يشكِّلون الأقليَّة الدِّينيَّة الأكبر في البلاد، وفي كلِّ ولاية، ومن ثمَّ الأكثر عرضة للاستهداف؛ ومن ناحية أخرى فإن التَّحدِّي الأقوى في المنافسة مع حزب زودر إنما يأتي من “حزب البديل لأجل ألمانيا” اليميني، المتطرِّف، المعادي للإسلام والمسلمين في البلاد، والذي يبني دعايته، بالأساس، على التَّحذير من “خطر الأسلمة”، ومن ثمَّ فإن كلا الحزبين يزايد على الآخر، ولو بإجراءات استفزازيَّة من شاكلة تعليق “الصُّلبان” في واجهات المقرَّات العامَّة، تطلعاً لحصد أصوات الأغلبيَّة الكاثوليكيَّة في الانتخابات التي يُنتظر أن تجري خلال الخريف القادم؛ أمَّا من ناحية ثالثة فلعلَّ أكثر ما يعزِّز من استنتاج أن المسلمين هم المستهدفون، أساساً، بهذا الإجراء، تصريح هورست زيهوفر، رئيس وزراء بافاريا السَّابق، ورئيس الحزب البافاري الاجتماعي المسيحي الحاكم في الولاية، عند تعيينه وزيراً للدَّاخليَّة في الحكومـة الجَّديدة، قائلاً لصحيفة “بيلد”، حرفيَّاً، “إن الإسـلام لا ينتمي لألمانيا”!
وتتمثَّل المفارقة، حسبما لاحظ مراقبون، في أنه، وعلى حين يتراجع التَّديُّن بألمانيا، تعود الرُّموز الدِّينيَّة، بقوَّة، إلى صدارة الاهتمام الرَّسمي، بعد 3 سنوات من استقبال البلاد لأكثر من مليون مهاجر، أغلبيتهم من دول مسلمة!
الشَّاهد أن جماعات المسلمين في ألمانيا لم تقف مكتوفة الأيدي حيال استهدافهم بمثل هذه التَّفرقة. فعدا عن مشاركتهم النشطة، مع غيرهم من المواطنين، في المظاهرات والاحتجاجات العامَّة، تصدَّوا، بصفتهم الدِّينيَّة، لإجراء حكومة بافاريا، ولكلِّ القيود التَّمييزيَّة التي تُفرض، عموماً، في كثير من ولايات البلاد ضدَّ بعض الأزياء ذات السَّمت الإسلامي، كحظر “الحجاب” في محاكم ميونيخ، مثلاً، بينما تُرفع “الصُّلبان” في واجهات الأماكن العامَّة، مِمَّا لا يمكن وصفه بغير “ازدواجيَّة المعايير”، على حـدِّ ملاحظـة برهان كيسـيجي رئيس منظمة المجلس الإسلامي بألمانيا. وقد صرَّح أيمن مزيك، رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، بأن المسلمين ليست لديهم اعتراضات على “الصَّليب”، في حدِّ ذاته، أو على توقير الدِّين في الحياة الاجتماعيَّة. لكن ما يعنيهم، بصفة خاصَّة، هو ضرورة المحافظة على حياديَّة الدَّولة، إذ من غير المعقول أن يُحتفى بالرُّمـوزالمسـيحيَّة في الأماكـن العامـَّة، بينمـا يتمُّ حظـر الرُّمـوز الإسـلاميَّة أو غيرهـا من الرُّموز الدِّينيَّة.
ليت هذا الفهم الذي تطرحه، الآن، مؤسَّسات المسلمين الألمان، وترفعه بأمل أن يسود في إطار الصِّراع الاجتماعي، يرتقي ليستقرُّ ويتكرَّس، كوعي عامٍّ، في ذلك البلد، كما وليته ينتقل، بهذه الكيفيَّة، إلى العالم الإسلامي ليشكِّل إطاراً ضابطاً للتَّعاطي مع مؤسَّستي الدِّين والدَّولة. تلك أمنية غالية تحتاج، بلا شكَّ، إلى تضافر جهود كلِّ المستنيرين المخلصين من العاملين في خدمة الدِّين، جنباً إلى جنب مع مَن يتَّسمون بالحسِّ الدِّيموقراطيِّ العميق مِن العاملين في حقول السِّياسة، والثَّقافة، والتَّربية، والتَّعليم، والإعلام، وما إلى ذلك. فالقضيَّة، في نطاقها الألماني، ما تزال مطروحة، الآن، عشيَّة الانتخابات، على مستوى يرجِّح تطوُّرها، في ما لو لم تُحسم، إلى خطر يتهدَّد الأمن والسَّلام الاجتماعيين، بما لا يُستبعد أن يتحوَّل، طال الزَّمن أم قصر، ليشكِّل مستصغر شرر يشعل حرباً لا تبقي ولا تذر، ومع ذلك ليس ثمَّة اتِّفاق، بين القوى الدِّيموقراطيَّة، في الوقت الرَّاهن، للأسف، على نهج موحَّد لمجابهتها. إذ على حين يتعاطى البعض معها في حدود الرَّفض لتعليق “الصُّلبان” في الواجهات كقضيَّة إجرائيَّة بحتة، ينظر إليها آخرون كمسألة معارضة سياسيَّة من الدَّرجة الأولى، فحواها: لمن يجدر أن نصوِّت في الانتخابات القادمة!
kgizouli@gmail.com