الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد لمصر وبعض البلاد العربية كانت فيما يبدو لها أهداف محددة، جرى الإعداد لها بطريقة متأنية، حتى تحدث اختراقاً ليس في ملف سد النهضة فحسب، بل لإحداث تغييرات في السياسات والتحالفات بين بعض دول المنطقة، وهي حسب نتائجها المعلنة قد بدأت في تحقيق أهدافها المخططة، وهيأت الأرضية لتقدم حقيقي في محادثات سد النهضة، وفي قيام تحالفات جديدة تطال البلاد العربية القريبة من دول القرن الإفريقي.
لقد فتحت الزيارة آفاقاً جديدة لتعاون اقتصادي بين إثيوبيا ودول الخليج، حصلت بموجبه إثيوبيا على دعم اقتصادي عبر وديعة دولارية، ولم يكن هذا الإنجاز بعيداً عن قضية سد النهضة، فقد حرص رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد أن يطمئن مصر على أن حصتها الراهنة من مياه النيل لن تتأثر سلباً بقيام السد، وهذه قضية مركزية بالنسبة لمصر التي ما زالت تكرر أنها لا تحتمل أي انتقاص من نصيبها منها،
وقد عبرت مصر الرسمية عن رضاها عن التعهد الذي قطعه على نفسه رئيس الوزراء الإثيوبي، على أمل أن يكمل الفنيون والخبراء الدوليون الصورة بإجراءات وقواعد وممارسات تدعم الوعد السياسي الصادر عن رئيس الوزراء، وتخفف من الآثار الجانبية للسد على مصر.
في هذه الأجواء يكتسب الاجتماع المقرر عقده الشهر المقبل للجنة التساعية التي تضم وزراء خارجية مصر، وإثيوبيا، والسودان، ورؤساء أجهزة الأمن في الدول الثلاث، ووزراء الري أيضاً، أهميته لمتابعة محادثاتهم بعد الجولة الماضية التي رسمت خارطة طريق من شأنها – لو نفذت بكاملها – أن تحدث قدراً كبيراً من الانفراج،
ولكن ما يثير القلق أن التنفيذ لمقررات الجولة الماضية ما زال متعثراً، إذ المفروض أن يكون الاستشاريون قد تسلموا أسئلة واستفسارات الدول الثلاث حول تقرير الاستشاريين الاستهلالي، حتى يعدوا إجاباتهم عليها، كما كان المقرر أن تكون اللجنة العلمية المستقلة، التي تقرر تشكيلها، قد أعلن عن قيامها، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، مما يعني أن التحركات السياسية سبقت تحركات الفنيين، ولا بد من تحرك عاجل من الفنيين والإدارات التنفيذية، للاستفادة من هذه الأجواء المواتية.
ولم يحدث منذ أن نشأت أزمة سد النهضة أن كانت الأجواء مهيأة لإحداث اختراق حقيقي مثل هذه السانحة، ولا بد من البناء على ما تحقق للوصول إلى تسوية تحفظ حقوق جميع الأطراف، وتعالج قضايا بالغة الأهمية، مثل تحديد سنوات ملء بحيرة السد، حتى يكون الملء تدريجياً، وعلى أطول مدى ممكن، كي لا يؤثر بدرجة كبيرة على حصيلة كل من مصر والسودان من مياه النهر،
كما أنه لا بد أن تنشأ هيئة مشتركة من الفنيين في الدول الثلاث للإشراف على تشغيل الخزان ومواعيد ملئه وتفريغه، وكل الجوانب الفنية المتعلقة به، لأن طريقة التشغيل تؤثر على مواعيد وكميات المياه المنسابة لدولتي العبور والمصب،
كما أن هناك إشكالات أخرى ستبرز، بعد أن يكمل الاستشاريون دراسة الآثار الجانبية للسد، وستحتاج لمعالجات تتم بالتعاون بين دول الحوض الثلاث،
وعلى سبيل المثال، فإن السودان سيفقد آلاف الأفدنة من أراضي (الجروف) التي ينحسر عنها الفيضان، وتزرع بشتى المحاصيل التي تعيش على زراعتها آلاف الأسر السودانية، ولم يتم حتى الآن حصر هذه المساحات، ولم تقدر خسائر السودان من جراء توقف زراعتها، ولا بد من البحث عن حلول بديلة.
التقدم الذي أحرز لا بد أن يصحبه فتح لهذا الملف بكل أبعاده،
وبحث جاد عن حلول تعالج كل الآثار السلبية المتوقعة.