لا تكمن ازمة الدبلوماسية السودانية في اغلاق السلطة لبعض سفاراتها ولا في عجز السلطة عن الوفاء بمرتبات مبعوثيها في الخارج على النحو الذي عرضه وزيرها على الملأ من اعلى منابر المجلس الوطني المسمى اختصارا بالبرلمان وانما تعود الى ابعد من ذلك بكثير اذ تعود حقيقة الى سنوات الانقاذ الأولى حين شرع الحكم الانقلابي الوافد في تصفية الدبلوماسية السودانية وتجريدها من كل خبراتها ورموزها بدعوى الصالح العام موكلا تلك المهمة الى اشخاص لا علم لهم بالدبلوماسية وليس لهم معرفة بالضحايا الذين اوكلت اليهم مهمة ذبحهم دون ادني محاولة لتوجيه اتهام او الاستماع لدفوع المعنيين وفي مرات عديدة راح ممثلو السلطة الجديدة يرددون انه من الافضل للسفراء والدبلوماسيين المطرودين من السلك ان لايسألوا عن اسباب طردهم لان الكشف عن تلك الاسباب سيكون فضائحيا ومخزيا لمن طلبوه وبتلك الدعوى واشباهها أخليت وزارة الخارجية من رجالها ونسائها المدربين واصبحت عقارا خاليا متاحا بل مباحا لكل من يدعيه على طريقة الجزائر عقب رحيل المستوطنين الفرنسيين منها مخلفين ممتلكاتهم العقارية التي آلت بحكم القانون لكل من يضع يده عليها باعتبارها biens vides(عقارات غير مشغولة)
وبعيد استلامهم السلطة في البلاد بدأت هجمة الاسلاميين ومنسوبيهم على وزارة الخارجية وذلك لكونها – بنظرهم- اوفر غنائمهم لحما وشحما وأعلاها شأنا ومكانا فتزاحموا عليها تزاحم المتطفلين على مأدبة ليس علي ابوابها حرس يصدهم عنها او ينظم دخولهم عليها . وليس صعبا العثور على سبب او اسباب ذلك التدافع والاندفاع في طلب الوظائف الدبلوماسية فقد كان لها سحر وجاذبية متوارثة بوصفها عمل النخب الذهبية مكتملة الوجاهة وكونها مفتاح الدخول الى المجتمعات المخملية في عرائس المدن الاوربية والامريكية بسترات مزنرة وجيوب محشوة بالعملات الاجنبية وبسبب من تلك التهيؤات والنوايا الفاسدة طردوا اهل الدار وتقاسموا الوظائف المتاحة بل عملوا على اتاحة المزيد من الفرص بفتح السفارات الجديدة وزيادة فرص التوظيف في السفارات القائمة حتى بلغ بهم الامر تعيين اكثر من سفير في السفارة الواحدة.ولم يرحموا ميزانية البلاد في ذلك المسعى فقد ظلت رواتبهم تتصاعد وبدل السكن يتزايد دون ان يصحب ذلك تصاعد مماثل في مستويات العلاقات مع البلدان المضيفة ولم ينس المقتحمون الجدد نصيبهم من الدنيا فانصرفوا الى ممارسة التجارات والتربح من بيع امتيازاتهم واعفاءاتهم الدبلوماسية والتقتير على انفسهم في السكن والاعاشة توفيرا للعملات الصعبة لاستغلالها في السودان .
وكما تدافع على الخارجية خريجو الجامعات ومعاهد القرآن الكريم فان المشهد لم يخل من اختصاصيي الامن والملاحق العسكريين والعسكريين المتحولين الى سفراء بعد الفراغ من الخدمة العسكرية وبعضهم طالت خدمته الدبلوماسية حتى ناهزت سنوات خدمته العسكرية بينما الاصل في الحاق البعض بوظيفة السفير ان يكون ذلك لمرة واحدة في سفارة طرفية تقديرا لسالف خدمته وتحسينا لمعاشه الا انهم مع طول المكث وطيب المرتبع حولوا انفسهم الى خبراء في الدبلوماسية والعلاقات الدولية ولم يعد لمقارعتهم من سبيل .
توافدت تلك الحشود على الوزارة المنكوبة فضاعت منها مقوماتها الاساسية من الما م بالفن الدبلوماسي وعلوم السياسة والاقتصاد واتقان لغات العالم ولم تعد قادرة على عجم عيدانها لترمي الثغور بأمرها عودا واصلبها مكسرا فاختلط حابلها بنابلهاواصبح مقياس النقل والترقي مقدار ما لديك من وسطاء وما لاولئك الوسطاءاو الوسيطات من قدرات النفوذ وتبادل المصالح بطريقة شيلني واشيلك وحك ظهري احك ظهور منسوبيك ولم تتخلف ماجدات الحزب الحاكم عن ذلك الركب فقديما قيل ليس الشفيع الذي يالقاك مؤتزرا الخ الخ وليس لي بذلك علم شخصي ولكنها انتقادات تواترت على اعمدة الصحف منسوبة الى مسئولين انقاذيين كبار تبرموا بالوساطات والمظلات التي يحتمي بها دبلوماسيوهم مقاومة للنقل (الى السودان) أوطلبا للترقي.
صحبت تلك التغيرات في طواقم الوزارة تغيرات اخرى في الادوار المطلوبة منها وهي للاسف ليست من صميم العمل الدبلوماسي فقد كان مطلوبا منها ان تكون رأس الرمح في الدعوة الى الاسلام وتحبيذه للعالم نظاما للحكم والحياة ولفترة من الزمان راح الدبلوماسيون ينتظرون صلوات الجمعة في عواصم العالم ليساهموا فيها بكلمات حماسية عن عظمة الاسلام وتعطلت اثناء ذلك حركة التواصل بين رئاسة الوزارة وبعثاتها في الخارج ولو ان مثل تلك الفوضى حدثت لدبلوماسيين مدربين لما توقف دولاب العمل إذ ان النظام المتبع كان سيضطر الدبلوماسيين للاستمرار في حركتهم اليومية ليتابعوا التطورات السياسية في البلد المضيف وتحرير التقاريرعن اتجاهات الرأي او امكانيات التعاون وتبادل الدعم مع تلك البلاد . ورب قائل يقول ان ذلك كله حدث في فترة الدروشة التي عاشها نظام الانقاذ في اول ايامه او فترة الغيبوبة كما كانت تسميها صحيفة الوفد وهي تنقل غرائب وطرائف انباء النظام الوليد . ولا يخلو مثل ذلك القول من بذرة الحقيقة ففي غياب الطواقم المدربة القادرة يفتقر العمل الدبلوماسي الى الخطة التي تحركه ويتحول لمجموعة من المبادهات ناهيك عن أن تعيين السفراء الجدد من غير سابق معرفة بالبلدان التي بعثوا اليها وتقاليد العمل فيها ومثالا على ذلك ما يتردد من ان احدهم اشرف على صفقة تسليح ونسي ان يطالب بنصيبه عند التوقيع وعندما أوعز اليه بامكانية الحصول على عمولة ذهب يطالب بعمولته فكان جزاؤه الابعاد عن منصبه كسفير لدى تلك البلاد تصديقا للمثل القائل (مشى يتفولح).
عادت الدبلوماسية الانقاذية الى الرشد بعد سكرة الايام الاولى وفرحة الاستيلاء على السلطة وهي فترة اطالت في عمرها الاكتشافات النفطية التي تمت وتبلورت في دعوة النظام للدخول في اوابك (منظمة الدول العربية المصدرة للبترول) وهي غير الاوبيك ست الاسم وعقب تلك الايام التي تدير الرأس أفاقت الدبلوماسية الانقاذية من غيبوبتها على صوت وزيرها وهويطلق استغاثته المأساوية معلنا امام البرلمان ان مبعوثيه الى العالم يتضورون جوعا في عواصم العالم بعد حرمانهم من رواتبهم على مدى سبعة شهور منبها بذلك الى الازمة التي يعيشها ويتسبب فيها نظام فشل في تسديد رواتب مستخدميه ليس فقط خارج البلاد بل أيضا في سداد رواتب المعلمين الغلابة الذين يعيشون في اكواخ القصب ويأكلون (البني كربو) ليعلموا ابناء شعبهم اليف با – تا- ثاء ويعيشون الشهر والشهرين بل السنة والسنتين دون رواتب بالعملة السودانية محدودة التأثير.
لا نقول بعدم احقية الدبلوماسيين في حقوقهم المقررة ولكننا نلاحظ عدم تساوق تلك الدخول مع وضع البلاد ففيها ارهاق لميزانية البلاد مع الاوضاع السائدة بالبلاد من حيث الفقر وتدني الدخول وهنالك تفاوت بين حجم المرتبات ومردوداتها الوظيفية فضلا عن تضخم الكادر العامل بالسفارات وزيادة اعدادها عن حاجة البلاد وببالي مطلب رصين للسيد الصادق المهدي حين كان رئيسا للوزراء مطالبا “بدبلوماسية فاعلة لدولة فقيرة.”وأذكر من ايام عملي بالسويد سفيرا لتنزانيا كان يحقق تلك الشروط بحذافيرها مقيما حفلاته ودعواته للعشاء بطبق من الارز المخلوط بأصغر انواع الروبيان وأقلها ثمنا – كان اسمه Chief Lukombuzia الشيخ لوكمبوزيا وكان متقمصا بالكامل لزهادة الرئيس الذي اوفده وهو طيب الذكر العملاق نايريري.
وفي كل الاحوال كان مطلوبا لخارجيتنا ان تصير مع تقدم الزمن مرجعا للعلاقات والتقاليد الدبلوماسية السودانية تتوافر فيها دراسات المناطق Area Studiesعن كل بلاد الدنيا وتاريخها الحديث بما في ذلك السجلات التفصيلية لعلاقاتنا بتلك البلاد وهو أمر أجد نفسي واثقا من عدم حدوثه فقد قادتني مناسبة ما الى غرفة الارشيف في مبنى الخارجية فوجدت الملفات التي افنينا شبابنا في رصدها وشحنها وقد تحولت الى كومة من الورق اختلط بعضها ببعضها واصبح الوصول اليها يستدعي السير فوقها بالاحذية.
والواقع ان سحر الدبلوماسية اخذ بالخفوت في نظرمن خلفونا في تلك المناصب فقد وجدوا انفسهم معزولين عن المجتمعات المتقدمة التي اوفدوا اليها إما بحكم التدين المفترض فيهم أو بحكم القصور اللغوي لاشخاص انتسبوا الى العمل الدبلوماسي دون اجتياز امتحانات في اللغات الاجنبية وظني ان الفضائح الجنسية المأثورة عنهم سببها ذلك القصور حيث عوض بعضهم عن المزايا المطلوبة في الدون جوان بالذهاب الى الحانات والاماكن غير اللائقة او بالعدوان على السكرتيرات العاملات بالسفارات وقد تعرضت اسماء كبيرة للنقل او للعزل بسبب التهجم على سكرتيرات بطريقة شهوانية قريبة جدا من الوحشية ومع ذلك بقيت لهم لذات ومباهج اخرى ناشئة عن المرتبات العالية التي قرروها لانفسهم والتي عن طريقها دخلوا اسواق التجارة والاستيراد . ومع ذلك لابد من الاعتراف ان نسبة قليلة من دبلوماسيي الانقاذ قد خلت من تلك العلل وميزت نفسها بالادب وحسن السيرة والسريرة والقدرة على التعلم ولولا تلك الاستثناءات لفقدنا كل امل في صلاح الاحوال.
elmekki51@gmail.com