الفيل الأبيض هو مصطلح لمُلكيَّة عديمة النفع وعالية التكلفة لا سيما الصيانة والتشغيل، وفي الوقت نفسه لا يُمكن لمالكها أن يتخلص منها. هذا المصطلح مُستمد من تاريخ ملوك سيام (تايلند الحالية) الذين كانوا يهدون كل من يكرهونه من رجال حاشيتهم فيلاً أبيض من أجل تدميره بسبب التكلفة العالية للعناية بالفيل الأبيض، وأصبح المصطلح يطلق عموماً على المشروع الخاسر عديم الجدوى الاقتصادية.
عملت قبل سنوات مديراً للتسويق والمبيعات في شركة زراعية مساهمة عامة، وشاركت في تأسيس تلك الشركة التي يقع مقرها في مدينة تطل على الخليج (عربياَ كان أم فارسياَ)، ورغم الظروف المناخية الصعبة كانت الشركة تحقق نمواً معقولاً، وتزداد ثباتاً في السوق حتى آلت ادارتها إلى(س). كان ضيق الافق، مزاجياً، انتقائياً، معتداً برأيه، يطربه الثناء ولا يطيق كلمة(لا). وتحالف كل هذا مع الصلاحيات والسلطات الواسعة التي أسبغت عليه، فطفق يدخل الشركة من نفق إلى نفق بأفكار أحادية فطيرة، ومشاريع خاسرة حتى افضى بالشركة فيما بعد إلى حافة الافلاس.
من ضمن مشاريعه الخاسرة تشييد مبنى ضخم في سوق الخضار المركزي في المدينة لبيع الخضروات التي تنتجها الشركة، ولم يكن ذلك منطقيا، فالشركة منتج كبير يبيع إنتاجه بالجملة لتجار المفرق في السوق المركزي وخارجه، ولا يمكن أن ينافس نفس زبائنه بالبيع بالمفرق مثلهم في السوق نفسه، فضلاً عن أن المستهلك المشتري عندما يجيء للتبضع في السوق يجد خيارات تقليدية أوسع وأقل تكلفة لدى عشرات البائعين المنتشرين تحت المظلات، ولا يوجد ما يجبره على شراء أصناف معينة تباع في مكان واحد ومن منتج واحد.اضف إلى ذلك أن المشتري لن يكون مستعداً لأن يتحمل منصرفات المبنى الفخم، وما فيه من ديكور وإنارة وتكييف هواء وعاملين.
كما توقعت وحذرت، كان المبنى فيلاً أبيض كبيراً، وكان في الوقت نفسه القشة التي قصمت ظهر البعير، فاستقلت من عملي في الشركة التي شاركت في تأسيسها، ولكن الاستقالة لم تقطع حبال الود التي ربطتني بالشركة والعاملين فيها نحو تسع سنوات.
لم يكن ذلك المبنى هو المشروع الفاشل الوحيد، فذلك الرجل كانت له شهية مفتوحة للمشاريع التي لا تعترف بمنطق دراسات الجدوى، ولا تعترف بالفشل، فبدد الكثير من اموال الشركة التي كانت كياناً مالياً كبيراً، ولم يكن رأسمالها يقل عن المئة مليون دولار.
أعضاء مجلس الادارة أنفسهم كانوا من أكبر رجال الأعمال في المنطقة، ولم يكن لديهم بطبيعة الحال الوقت ولا الرغبة في متابعة شؤون الشركة التي لا تمثل إلا نذراً يسيراً من استثماراتهم وأعمالهم فمنحوه كل الصلاحيات، ولكن كان لا بد في النهاية من مجيء لحظة الحقيقة، ووقف الهدر، فأقالوه من منصبه، وشرع من خلفوه في تصحيح أفعاله، فتخلصوا من الأفيال البيضاء، ومن بينها ذلك الفيل الابيض الكبير القابع في سوق الخضار المركزي فباعوه بثمن بخس، بعد أن ظل مهجوراً سنوات طويلة، وكانوا فيه من الزاهدين، ولكن الفتق كان أكبر من الرتق، فواصلت الشركة الانكماش والتراجع في ظل سوء الإدارات، وبقيت في انتظار التصفية.
الحق لله، كان ذلك الرجل عفيفاً طاهر اليد، لم تمتد يده إلى أموال الشركة بشكل مباشر أم غير مباشر رغم كل صلاحياته المطلقة، وقنع براتبه ومخصصاته المجزية بمقاييسي أنا طبعاً، ولم يوفق إطلاقاً في محاولات العمل التجاري الخاص به بعد أن أقالوه من وظيفته. ربما كان ضحية ثقافة مجتمعية مستوطنة في أعماقه، هيأت له أنه يمتلك كل الصواب، فأفرط على نفسه وأفرط على غيره.
حزنت كثيراً وأنا اشارك في تشييع جثمانه في مقابر المدينة قبل بضعة أشهر، عندما لم أجد بين المشيعين أياً من موظفي الشركة أو أعضاء مجالس إداراتها. كنا ثلاثة فقط من موظفي الشركة السابقين في وداعه.
يرحمنا ويرحمه الله.
khamma46@yahoo.com