صدر التقرير المعنون “قضايا ما بعد المؤتمر الرابع”، الذي خطه أستاذنا عبد الخالق محجوب، كأحد أعمال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، دورة منتصف يونيو 1968. وتمر هذا العام الذكرى الخمسين لصدوره. والإشارة للمؤتمر الرابع هنا هي للمؤتمر الشيوعي الذي انعقد في 1967 وصدر تقريره بعنوان “الماركسية وقضايا الثورة السودانية” في نفس العام.
حين تفرغت للحزب الشيوعي في 1970 وجدت “قضايا” ضمن وثائق أخرى لم نكن نحفل بها معشر مثقفة الحزب. ووجدت فيها مصداقاً للقائنا لأستاذنا في 1968 دعانا فيه، حين جئناه موجعين على حال الحزب، بأنه، متى ثبتنا عند تكتيكنا في مراكمة العمل الجماهيري لاستنهاض الحركة الثورية بعد نكسة ثورة أكتوبر 1964 وحل الحزب في شتاء 1965، فاستراتيجية الحزب باب مفتوح للاجتهاد الماركسي على مصراعيه. وعليه فلا تجد في الوثيقة دعوة للتفكير المبتكر في استراتيجيتنا فحسب، بل هجوماً منقطع النظير على التفكير بحكم العادة، أو داخل الصندوق كما نقول الآن.
ولعلمي بضيق نطاق المعرفة بهذه الوثيقة أخذت على نفسي تلخيصها في 1975 (بعد 7 سنوات من صدورها وفي سنوات محنة شيوعية كبرى) حتى يأتي الوقت لنشرها كاملة. فهي عندي بمثابة الدرجة الأعلى في التفكير الاستراتيجي الحزبي بعد “الماركسية وقضايا الثورة السودانية” الأكثر ذيوعاً. ف”قضايا” لا تطور “الماركسية” فحسب بل تنسخها أحياناً. وفرغت من تلخيصي وبعثت به للمرحوم محمد إبراهيم نقد، رئيس تحرير مجلة “لشيوعي”، المجلة النظرية للحزب. وانعقد لساني حين لم ينشره ولم يتفضل ببيان سببه لذلك. ولم أسأله لأنني من قوم لا يسألون عن البديهات. واحتفظت بملخصي هذا عبر تنقلات كثيرة وابتلاءات. واتصلت بعد قيام دار عزة للنشر بمديرها الأستاذ نور الهدي محمد نور الهدي أزكي له نشر “قضايا” بمقدمة مني أربط قارئ تسعينات القرن بأفكار ستيناته. ثم سرعان ما علم الحزب بالمشروع واستولى عليه ونشرت دار عزة “قضايا” بغير مقدمة مما هو نشر أعرج أو أعوج.
وأنشر هنا على حلقات ما جاء في تلخيصي للوثيقة في 1975 في مناسبة مرور نصف قرن على صدورها. لن أتقيد بحرفية ورود أبواب الوثيقة في تلخيصي مراعاة لفارق الزمن ورغبتي في استصحاب قارئ زماننا هذا معي. وألخص هنا ما ورد في التقرير عن مسألتين في غاية الأهمية:
المسألة الأولي: موقف استثنائي للحزب من الانقلاب كأداة للتغيير. فالحزب هنا يشجب جماعات في الحزب والمجتمع رغبت عن النضال الصبور في الإطار البرلماني وعزمت على إنهاء البرلمانية وفرض نظام للديمقراطية الجديدة من عل. وستجد في التقرير تمسكاً شفيفاً بالبرلمانية التي، متى أحسنا توظيف إمكاناتها من حرية التعبير والتنظيم، ستقتنع القوى العاملة ذاتياً بالتغيير الاجتماعي من فوق تلك الحقوق. وسبق لهذه القوى أن اقتنعت من قبل بالنقابة من فوق نفس هذه الحقوق. وما جاء في التقرير هو ضربة البداية للحزب ضد العقلية الانقلابية التي أفرخت في الحزب بعد نكسة ثورة أكتوبر وحل الحزب. وسيتواصل الهجوم عليها في تقرير آخر في دورة مارس 1969 قبل شهرين من انقلاب مايو 1969. وسنرى وقوف الحزب ضد هذه العقلية في بيانه في مساء 25 مايو 1969 الذي جدد فيه قوله إن الانقلاب هو تكتيك البرجوازية الصغيرة في الثورة الوطنية الديمقراطية. لقد تراكمت ملابسات مؤسفة حجبت هذا التفكير الراشد في سبل التعيير الاجتماعي: سنغير من فوق الحقزق البرجوازية البرلمانية لا بصراخ من فوق البيوت لديمقراطية جديدة سائبة ورانا نظام نميري أيا منها.
المسألة الثانية: التفريق بين تنظيم الحزب الشيوعي وتنظيم هيئات مثل اتحاد الشباب والنساء. فتنظيم الحزب (مركز وأقاليم ومكاتب مركزية وفروع) مبدأ في الحزب ولا اجتهاد كثير فيه. أما تنظيم الشباب والنساء وغيرها من فئات الجماهير فخاضع لشرط الملاءمة والاجتهاد فيه لا ينقطع للوصول للشكل المناسب له. ومن أراد التوسع عليه بقراءة ما كتبته الدكتور سوندرا هيل عن أن حزبنا هو من فرض على الاتحاد النسائي شكله التنظيمي (مركز، أقاليم، فروع) فسلبه مرونته الجندرية. ولم توفق في هذا الزعم. فها أنت ترى الحزب في تقرير راجع إلى 1968 يدعو منظماته الجماهيرية أن تجتهد أوسع الاجتهاد لخلق اشكال تنظيمية مناسبة لوظائفها وأن تكف عن تقليد صورة تنظيم الحزب. وستجد آراء سوندرا هيل وردودي عليها في كتابي “فاطمة أحمد إبراهيم: عالم جميل”.
لقد جاء أستاذنا عبد الخالق في هاتين المسألتين بنظرات ماركسية مبادرة أهمها التشديد على التزام الحزب منذ المؤتمر الثالث (1956) بالطريق البرلماني للاشتراكية. وذاعت جدوى هذا الطريق لاحقاً بين أحزاب أوربا الغربية في السبعينات في ما عرف ب”الشيوعية الأوربية”. ونسبوا لها المبادرة وما دروا عن اكتشافنا له قبل عقدين من الزمان. فلم تسمعنا قط نتحدث عن ديكتاتورية البروليتاريا مثلاً. وهذا اجتهاد لأستاذنا غطى عليه لؤم الأعداء وجهل الأصدقاء وتاريخ مضطرب جدا. فإلى الملخصات:
1-الديمقراطية والتغيير الاجتماعي :
أشار المؤتمر الرابع إلى أن قضية الديمقراطية تقترب من قضية التغيير الاجتماعي، وأن النضال من أجل الحقوق الديمقراطية البرجوازية (حق الانتخاب والترشيح، حرية الرأي الخ.) له ارتباط عضوي بالنضال من أجل الديمقراطية الجديدة. وتشدد الوثيقة على أهمية هذا الاستنتاج، إذ أنه يعطي الحقوق الديمقراطية البرجوازية أفقا للتطور غير الرأسمالي (التغيير الاجتماعي) مما يقوي شكيمة الطبقة العاملة. فقد اقتربت الطبقة العاملة في الخمسينيات من قضية الديمقراطية البرجوازية ذاتها عبر نضالها من أجل الحقوق النقابية. إنها مدعوة الآن للاقتراب من قضية التغيير الاجتماعي، بل وقيادته عبر نضالها لتأمين الحقوق الديمقراطية الأساسية. وتتضح أهمية هذا الاستنتاج في النضال العلمي وسط الجماهير ضد اتجاهات اليأس من المؤسسة البرلمانية لدرجة الاستخفاف بالحقوق الديمقراطية الأساسية التي تكفلها، أو التي تجبر على كفالتها. “فالقوى المغامرة واليائسة من البرجوازية الصغيرة ترى أن النضال من أجل الحقوق الديمقراطية البرجوازية لا يقود إلى شيء وأن الطريق هو الدعوة من رأس البيوت للديمقراطية الجديدة وحدها)” متناسية الارتباط العضوي بين الديمقراطيتين. فلكي تصل الجماهير للاقتناع بالديمقراطية الجديدة ذات المحتوى الاجتماعي، فلابد أن نتمرس ونقف بالدفاع المستميت عن حقوقها الديمقراطية الأساسية.
2-تغيير التركيب الاجتماعي :
وهو خلق الاشكال التنظيمية الملائمة للجماهير، بحيث تنهض تلك الأشكال بوظائفها القائمة على حاجيات موضوعية، بديلا للأشكال التقليدية الخانقة (الطائفية ومنظمة شباب الطائفة)، أو التي تحاول البرجوازية، ومن ورائها الاستعمار، أن تحبس بها وعي الجماهير وتمدد نفوذها عليها (أحزاب، منظمة العمال الوطنيين، جمعية التسلح الخلقي الخ.). وتفرق الوثيقة بشأن أشكال تنظيم الجماهير بين المبدئي الثابت وبين المتغير الخاضع للمراجعة. فتنظيم الحزب الشيوعي (وجوده والقواعد المتحكمة في تنظيمه) قضية مبدئية وجزء من النظرية الماركسية. والتقديرات الخاطئة التي سبقت المؤتمر التداولي في 66 (وهو مؤتمر الجريف الذي رتب لحل الحزب الشيوعي في تنظيم اشتراكي واسع يكون الشيوعيون قلبه الطليعي عملاً بما فعله شيوعيو مصر في الاتحاد الاشتراكي المصري. وهو ما لم يتم) حول هذه المسألة ما تزال آثارها السلبية عالقة ببعض منظمات الحزب. والنقابة – تنظيم طبقي – أيضاً تنظيم مبدئي.
من الجانب الآخر، فالتنظيمات الديمقراطية (للشباب والنساء والطلبة) خاضعة للنظر والتغيير والمراجعة. فهي أشكال يتخذها الحزب الشيوعي والطبقة العاملة للتأثير على الجماهير لاستيعاب طاقتها. والنظر في ملاءمتها ووظائفها ليس اعتداء على الماركسية، بل باب مفتوح للاجتهاد، وكل خلاف حول أشكالها لا يعدو كونه خلافا حول الصور المختلفة لتقريب الفكر الماركسي والديمقراطي للجماهير. فلو اتخذنا اتحاد الشباب كمثال، وباعتبار الدفع التنظيمي الذي تولاه الشباب لنفسه (الجمعيات والفرق المختلفة للاهتمامات والميول)، فمن الجائز والأفضل أن نتساءل: هل يبقى اتحاد الشباب تنظيما جامدا وحيد الصورة أم يتحول إلى حركة لها صور مختلفة ولها مركز قوي تتبع له هذه التنظيمات؟ إن اختلاف الاجابات حول هذا السؤال ليس اختلافا مبدئياً، إنه خلاف حول تطبيق شكل معين من اشكال التنظيم، في ظروف نحسبها ونقدرها بموضوعية مثل اختلاف مشارب الأجيال، المبادرات الذاتية للشباب الخ.
ونتحدث في الحلقة القادمة عن إمكانية الماركسية في إحداث تغيير في تركيبة المجتمع.
IbrahimA@missouri.edu