آثرت، في ذكري أكثر الاحداث شؤماً على تاريخ بلادنا “النكبة”، استعمار الحركة الإسلامية للسودان في يونيو/حزيران 1989، أن أتناول بالتشريح مقولتين لعلي عثمان، اقتطع في إحداهما حادثة من التاريخ، في قراءة انتقائية له، وقام بإسقاطها كمعيار علي حقبة ما بعد الاستقلال برمتها، في محاولة لتغليف خيبة الحركة الإسلاموية / الإنقاذ / المؤتمر الوطني. بيد أن هذه السطور لا تخصّ عليّ وحده؛ بل نأخذه كرمز وكنموذج لنظامه ولجماعته وإخوانه، وإن كان أسوأهم كيداً، وأخبثهم طويّة، وأحقد من حيّة.
والمعنِي بهذه المقالة كل أعضاء، أو الذي كانوا أعضاء في الحركة الإسلامية، المؤتمران الوطني والشعبي، وحركة الإصلاح الآن(1). لا أستثني منهم أحداً، الأحياء منهم والأموات، الرجال والنساء وما بينهم(2)، وكل من شغل منصباً خلال الـ 29 عاماً السالفة، سواء أكان تنفيذياً أو تشريعياً أو دبلوماسياً أو أمنياً أو إعلامياً، أو تشريفياً اسميا. وتشمل أولئك الذين لفظهم النظام، بعد أن قضي منهم وطرا، أو الذين تناءوا عنه.
لأن كلهم أجمعون إما شاركوا في، أو صمتوا عن الجرائم التي أُرتكبت بروح انتقامية شرّيرة بحق هذا الوطن، والحملة المسعورة لتفتيته وتدميره لدرجة أنه أضحي أشلاءً. وفي حقنا كمواطنين؛ إذ أحالونا من شعب مفعم بالحياة، يستشرف المستقبل لآخر يائس مستكين، ندمن ما يستوردونه لنا من مخدرات، ونمارس الاحتيال، ونغتصب الطفل، ونفعل كل موبقة ورذيلة، وبذلك هم جذلون مسرورون أو يرقصون. بلد كانت آمنة مطمئنة تنتج رزقها رغداً من كل إقليم فأذاقوها لباس الجوع. وبدّلونا من شعب مكتفٍ ذي رِفعة لثان بائس يُغاث بصدقات الدول (وجبة الصائم من تركيا، السعودية).
احتكروا موارد البلاد كغنيمة، وعطلّوا كل إنتاج وحاربوا كل منتج. أرض كانت مِخصاباً أحالوها مِجدابا. حطّوا قدر كل نفيس ورفعوا شأن كل خسيس.
أحكموا الخناق على أهليها واستعبدوهم ليهجروها، ومتى رست مراكبهم في مشارق الأرض أو مغاربها أحرقوها، أي اللاعودة. وبغوا عليهم في حقوق مشروعة أصيلة (أي شخص لم يسجل في السجل المدني لن يعتبر سوداني).
وفتحوها للأجانب من كل حدب وصوب وتكرّموا عليهم بما حرموا منه أهليها: (ما في مشكلة نجيب ناس من برة ونديهم جواز – وزير الداخلية).
يقول علي؛ وبحركة مسرحية، وفي ميلودرامية، وبمكره المعهود – وإن مكرهم لتزول منه الجبال – مخاطباً أسبوع القرآن الكريم السنوي الثاني عشر جامعة أم درمان الإسلامية بالثورة: “أسألوا حبوباتكم وأمهاتكم عن انعدام الكبريت عام 1958، ومرت أيام كانت الأسر تتبادل جمرة النار التي ترعاها خلال الليل، وتحفظها في الرماد أو روث البهائم لتبقي حية ومتقدة، لكي يعملوا بها حلة أو شاي في صبيحة اليوم التالي”. لماذا استدعي تلك الواقعة؟ لتبرئة نظامه من جريرة الانهيار الاقتصادي، وحالة الفلس والإفلاس التي ضربت الدولة، والكبَد والعوز اللذان ضربا المواطن، إذ يستطرد: “الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد ليست افرازات السياسات القاصرة والخاطئة التي اتخذتها الحكومة الحالية، وإنما تعود إلى ما بعد الاستقلال”.
نبدأ من العجز، حيث انتهى إلى نقيضة، فبرغم أنه ينعت سياسات نظامه بالخطأ والقصور، إلا أن وِزرها مُحال أن يقع على دولة الرسول، بل على عهود ما قبل النكبة.
أما “حديث الجمرة”، فحسب عمره، يقدّر المرء أن العام الذي وقعت فيه أنه كان في المرحلة الأولية، حين كانت الدولة التي فشلت في توفير أعواد الثقاب، توفر الكتاب والكراسة وجميع مستلزمات الدراسة ولجميع المراحل، بما سمح لشخص في وضعه الطبقي بالتعليم. بينما يدفع تلامذة الأساس حالياً رسوماً لكل شيء، لدخول المدرسة، للامتحان، للنتيجة، للكهرباء والطباشير (ألفين في الأسبوع)، لدرجة أن بعض أسر ذوي الخصاصة قد قطعت تعليم بنيها أو بناتها.
ولو افترضنا أنه ترعرع في الثلاثين عاماً الفائتة، لكان من الأميين، إذ يقول أخوه الغطرس مأمون حميدة، أيضاً حصل على تعليم مجاني مثله: الما عندو قروش القاري ليها شنو! وهذا ليس هذا من باب التعيير، وحاش للفقر أن يكون مذمّة أو مثلبة، فكاتب هذه السطور من خلفية فقيرة. إنما المثلبة هي البطر، طغيان الفقير عقب نعمة غشيته بعد سلطة أو ثروة، وفي الاستعمار الحالي فهما توأمان.
كذلكم، كانت أنظمة ما قبل النكبة جمعاء، بما فيها النظام الذي عجز عن توفير أعواد الثقاب، تدعم الصحة، بما سمح له بالعلاج المجاني وأن يبلغ عمره الحالي. ولو نشأ في هذا العهد، لقضى نحبه إثر علّة، إذ أضحى الموت حدثاً اعتيادياً وسط شباب الطبقة المسحوقة، بعد حملة الحُميدة الانتقامية على المشافي العامة، وبعد إحالة ميزانية الصحة إلى جهاز الأمن وحميدتي وجيش العاطلين من دستوريين وتشريعيين.
ولم تكن الحجة التي ذكرها الحميدة لإيقاف مدير مستشفى بحري حقيقة: تصوير الموتى والمرضى بدون إذن كتابي مخالف للقانون والأعراف والمثل الأخلاقية. المسألة أنه لا يريد ظهور القاذورات والفوضى والفضائح، وليس لمن كان سبباً في هذا الخراب حق الحديث عن الأخلاق.
جدير أن أذكر قول غث لغطرس ثان، وزير الصحة الاتحادي: بنتعب في علاج مرضي السرطان وبنصرف قروش كتيرة عليهم وفي النهاية بموتو! كلام عنجهاني، فنحن لسنا في قطر أو الكويت حيث تنفق الدولة علي الصحة من صادرات النفط، أو أن الصرف عليهم يحدث من ورثته أو من ثروة المؤتمر الوطني، بل من جبايات ومكوس وضرائب ظاهرة وباطنة طالت حتى بائعات القلانس (الطواقي). (نعم والله). وكلام عجرفي، إذ لا يهمه وقعه على أولئك المرضى وعلى ذويهم، وهم مساهمون في مرتبه كدافعي ضريبة. تقيأ الوزير هذه الغثاثة، ثم ذهب بأهله يتمطى للعلاج في الخارج، يموّله دافع الضريبة!
يختم علي حديث الجمرة: “أن أي تجربة من الحرمان والمعاناة ستكون رصيداً لأي شخص، وسيدركها مستقبلاً باعتبارها لبنة في تكوين الشخصية وتعبيد الطريق إلي الأمام.” الله الله على لحن القول، على البهرجة، يريد من السامع أن يجعل من الفاقة محمدة ومن المسغبة منقبة. فعندما قال الإمام علي بن أبي طالب حديثه المأثور “لو كان الفقر رجلاً لقتلته” لم يكن يقصد العوز الذي عانى منه شخصياً، إذ كان مستمتعاً به وزاهداً، يلبس الصوف في الصيف، والخفيف في الشتاء، ويخصف نعله بيده. إنما كان يدرك أنه أب الموبقات، وأس الجريمة، سبب لبعد الناس عن الدين والأخلاق، أي الذي حدث لنا كما ورد أعلاه.
ولم نرَ للحرمان رصيداً في شخصيته سوى الغِلّ، ويحفظ التاريخ الشعبي والعقل الجمعي رواية لإزالة حديقة الحيوان تتلاءم وطويته.
____________________
(1) غازي صلاح الدين، انقطع عنه الوحي بعد الآية التي أذنت بفتح الخرطوم في 1989م، وشارك في تلك الحملة، ثم نزل عليه بعد 24 سنة، ليس ناسخاً لها، بل مُعدلاً (مُصلحا). ف”الإصلاح” تعني إجراء بعض التعديلات على بنية النظام الحالي، لا خلافاً حول الأيدلوجيا أو المبدأ.
(2) كمثال لاحتقار الإسلاميات لشعبهن، تقول الهجول سعاد الفاتح: ثلاثة أرباع رجال ونساء السودان حرامية، وأي عاطل مفروض ينضرب رصاص. فالربع الشريف هو المتأسلمة، والبطالة أمر اختياري، ويشكّل عبئاً ميزانية علي الدولة لأنها تصرف إعانة للعاطلين.
babiker200@yahoo.ca