اختياران في حياة الإنسان يؤثران كثيراً في تحديد مستقبله: اختيار التخصص الدراسي، واختيار شريك الحياة!
الكلية الجامعية ليست مكاناً لاكتساب شهادة جامعية وتخصص فحسب، بل هي المكان الذي تصاغ فيه شخصية الدارس وإعدادها نفسياً وتربوياً وفكرياً عن طريق المناهج الدراسية والعلاقات والمناشط.
لاحظت أن إخواننا في الهند يعرِّفون عن أنفسهم بالجامعات والمعاهد التي تخرجوا فيها؛ فهذا الأزهري وذاك الرحماني والندوي… وهكذا.
إن اختيار التخصص الدراسي أمر في غاية الأهمية، لكننا لا نولي هذا الأمر ما يستحقه من الاهتمام. ولعلنا نشهد عشوائية الاختيار في أول سنة دراسية يقضيها الطالب في الجامعة.
أذكر عندما كنت عميداً للطلاب في جامعة النيلين، جاءتني طالبة راجية مساعدتها في الانتقال من كلية الطب إلى كلية أخرى، وأرفقت مع الطلب تقريراً طبياً بوجود حساسية لديها تمنعها من الاستمرار في التعاطي مع المعامل والمشرحة. كما أذكر طوابير الطلبة الذين يقفون أمام المسؤولين لتغيير التخصص الدراسي.
قرأت قديماً للدكتور عمر فروخ من لبنان مقالاً عنوانه: (يا بني لا تثريب عليك اذهب إلى كلية الآداب). وكان المقال جواباً عن سؤال طالب يبدي تردداً ما بين ميله الشخصي للدخول في كلية الآداب، ورغبة والديه اللذين يرغبان في دخوله إلى كلية الطب… ومما قاله د. فروخ: “من مشكلاتنا التربوية التي لا نلقي لها بالاً أن أذكى الدارسين لدينا يدرسون الطب والهندسة، ولو أن الإمامين البخاري ومسلم عاشا في عصرنا الحاضر لما وسعهما إلا أن يدرسا في الطب أو الهندسة”!
لقد أعجبني كثيراً أن الطالبة التي حازت الترتيب الأول في الشهادة السودانية هذا العام (2018م)، تمسكت برغبتها الأولى في كلية الإعلام مع وجود ضغوط من مدرسيها وأهلها لدراسة المساق العلمي.
لا أقول هذا تقليلاً من شأن الطب والهندسة، ولا انحيازاً إلى مهنتي وتخصصي، بل إقراراً لمبدأ عام يكاد ينحرف به الناس. وليتنا نأخذ ببعض ما أخذت به المدارس في بلدان العالم، عندما تبدأ التحري عن ميول التلاميذ واتجاهاتهم منذ وقت باكر، فلا يُترك الأمر للمصادفة. ففي المدارس اليابانية مثلاً، يتعهدون التلاميذ بالملاحظة المستمرة في المناشط وفترات اللعب وحصص الرسم والفلاحة، ويعدون التقارير عن كل تلميذ، فقد يكون هذا لائقاً للدراسة التقنية وذاك للدراسة المهنية، وآخر مناسباً للفلسفة والدراسات الإنسانية.
عندما جلسنا لامتحانات المدارس الوسطى عام 1965م، اشتركنا نحن ثلاثة في الترتيب الأربعين، وكانت لجنة القبول تكتفي بأربعين طالباً فقط في المدرسة، وقررت اللجنة استخدام معيار العمر للقبول في المدرسة الأكاديمية، فجاءت فرصة القبول من نصيبي بحكم أنني أصغر الثلاثة سناً، وقبلوا التالي في معهد المعلمين (لا أعرف أين هو اليوم)، أما ثالثنا وأكبرنا سناً فكان نصيبه المدرسة الصناعية (هو الآن أمين مكتبة الهيئة القضائية الأخ الطيب عوض) الذي فارق المساق الصناعي وعمل بالهيئة القضائية.
على أيامنا، كانت الفرص ضيقة، وكان اختيار التخصص بحسب الدرجة التي ينالها الطالب، أما اليوم؛ فمن حسن حظ الطلبة وأولياء أمورهم أن المجال واسع للاختيار… غير أن اتساع المجال نفسه قد يكون سبباً للحيرة والتردد.
وأكبر أسباب الحيرة أن معظم المتقدمين يريدون كليات بعينها، مع أن الواقع يؤكد أنه لا وجود لكلية جيدة وكلية سيئة. الاختيار المناسب للطالب هو الجيد، وقد يحقق الإنسان تميزه في تخصصه؛ زراعياً أو بيطرياً أو ممرضاً، لكننا أسأنا التقدير بأدبيات عفا عليها الزمن، لا أعرف من الذي قال:
فغُضّ الطرف إنك بيطري فلا طباً بلغت ولا زراعة…
سمعت من أستاذنا البروفيسور عون الشريف قاسم سبب دخوله كلية الآداب مع أنه كان من الأوائل، وهي قصة طريفة مشهورة فقد فاته بص الحلفاية، فوصل إلى معاينة كلية الطب ماشياً على قدميه، فأوصت لجنة المعاينة باستبعاده لعدم لياقته الطبية.
أكاد أنصح طلابنا وهم يملأون استمارة الرغبات هذه الأيام أن يبحثوا عن التخصصات التي لا يريدها الطلاب، فإذا رأيت الغالبية تقدم للحاسب الآلي، اذهب أنت إلى اللغات أو الفندقة. التخصصات التي لا تجد إقبال الطلاب هذه الأيام ستكون نادرة وشحيحة في السنوات القادمة.
في مطلع السبعينيات عندما ذهبنا إلى الجامعة كان مديرنا الراحل بروفيسور كامل الباقر يزيِّن لنا تخصصات مثل أصول الدين، والشريعة والقانون، واللغة العربية، وكان يردد: يا أبنائي هذه هي علوم السيادة، فلا تغرنكم التخصصات المهنية مع أهميتها.
ستذكرون ما أقول لكم فإن متخصصاً في النحو والصرف سيكون أندر من الكبريت الأحمر.
ذلك زمان مضى، ونحن في عالم يتغير بشكل ملفت. الحاجة ستكون أشد في السنوات القادمة إلى ريادة الأعمال و(البيزينيس). وقد فتح الاغتراب أعيننا على مهن وأعمال وجد فيها الجامعيون أنفسهم؛ فقد تجد خريج فلسفة يعمل (مبلِّط سيراميك)، أو خريج انثربولوجي يعمل في الديكور.
وقابلت في بعض أسفاري من وصل إلى التخصص الاستشاري في الطب، ولكنه وجد الرزق الوفير في مجال الترجمة بعد أن أتقن لغة أجنبية وصار فيها من السابقين.
وما بين هؤلاء وأولئك، تجد أذكياء كانوا شطاراً في الدراسة، ولكنهم لم يكونوا كذلك في حياتهم، وصدق أمير الشعراء القائل:
وكم منجب في تلقي الدروس
تلقى الحياة ولم ينجب!