(هذه كلمة أردت بها تجديد نظرنا لانفصال الجنوب بعد تمتعه بحق تقرير المصير وفق اتفاقي مشاكوس (2002) ونيفاشا (2005). فقد كثر البكاء على “الفقد العظيم” للجنوب والتباكي بوصفه خطيئة تاريخية تبارت الأطراف في تعيين مرتكبها. وصار مبدأ تقرير المصير، الذي هو عنوان للرحابة والحرية، مادة لحلقة خبيثة من اللوم واللوم المضاد. واقتصر هذا الطقس على تلاوم الشماليين مما اسقاط سياسي “جلابي” معروف يكون به الجنوب كرة في ملعبهم لا مسألة للحكم الراشد. وباقتصار هذا التلاوم على الشماليين خرجت صفوة الجنوبيين من المسألة خروج الشعرة من العجين. وهذا البراءة التي يضفيها الشماليون على الجنوبيين وظيفة أيضاً من وظائف السياسة “الجلابية” وتعرف ب”التطفيل” (infantalization” أي أنهم “شفع” غير مستحقين لا للشكر ولا للوم فهم معذورون لأنهم ليسوا أهلاً للمسؤولية.
تريد كلمتي أن تقول إنه اتفق لنا شرعة غراء بتقرير المصير لأنه مبدأ أزف وقته. ولكننا أفسدناها بالبكاء أو التباكي على مخرجاته كاللبن المسكوب).
من دواعي الأسف أن ينظر الأفريقيون والعرب بسلبية وبرم لمبدأ حق تقرير المصير، الذي سيمارسة جنوبيو السودان في التاسع من يناير القادم. فما طلب مسعود برزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني ذلك الحق لشعبه حتى تداعى القوميون من كل فج عميق يقولون إنه أثر من حق تقرير المصير السوداني.
وسبق لهم القول بأنه سيفتح عليهم صندوق بندورا. ونشأ المبدأ كما هو معلوم في أفئدة عظيمة. دعا له الرئيس ودرو ويلسون وفلاديمير إيلتش لينين. وألهم حركة التحرر الوطني في المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية. ولكنه أُهمل وسقط في شقوق السياسات القومية. فقررت منظمة الوحدة الأفريقية نهاية حق تقرير المصير بتحرر المستعمرات من القوى الأوربية التي حكمتها. وصارت حدود تلك الأوطان الجديدة مقدسة لا يمسها تقرير مصير جماعة غير راضية عنها. ولذا استهجنت المنظمة انفصال بيافرا عن نيجريا واصطفت مع الحكومة النيجيرية لرد بيافرا إلى صوابها حتى نجحت. من جهة أخرى لم تجد حركة إنفصاليّ جنوب السودان أذناً صاغية في المنظمة وإن ساندتهم دول بعينها منها. وهذا المعيار المزدوج للمنظمة حيال مبدأ تقرير المصير أصيل فيه. فقد اختلط أمر الناس خلال عرض المبدأ كما عرّفه الرئيس ويلسون في مفاوضات سلام فيرسايل في فرنسا (1919): “فلم يقع لأي من المفاوضين انطباق المبدأ على إمبراطوريته بالذات في حين انطبق على الإمبراطورية التي سحقها “. ونبه سوداني جنوبي إلى مناصرة المسلمين حق ألبان كوسفو في الانفصال عن صربيا بينما يتجهمون في وجه نفس المطلب لجنوبيّ السودان.
لم يستو مبدأ تقرير المصير فينا لأننا نظرنا إليه كممارسة “حرام” في السياسة لا يجروء عليه إلا متطرفو الهوامش ومتعصبوها. وكرهه الناس كما يكرهون الطلاق في الزواج. والحق أن مجاز الزواج قديم قدم المبدأ. فقال لينين إنه لا ينبغي الربط بين الوقوف مع المبدأ وتشجيع انفصال القوميات. لأن مثل هذا الفهم سيكون سخيفاً ومنافقاً مثل ربط الداعين إلى بسط حق الطلاق للزوجين بتشجيع تحلل الأسر. ويكثر الطلاق كمجاز في فهم حق تقرير المصير في الخطاب السوداني الذي غلبت فيه الآية القرانية (أمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف (2:231)
مر زمن كان فيه انفراط دولة ناشزة سمة للعقل والشجاعة. وقد أطرى ألكس توكفيل، مؤلف كتاب “الديمقراطية في أمريكا” (1835)، أمريكا لتلك المأثرة. فلم ينفعل ببسالة الأمريكيين المعروفة في تحرير بلدهم من البريطانيين في 1778 بقدر انفعاله بإعادتهم التفاوض في مصائر وطنهم الذي تفرق شيعاً في المؤتمر الدستوري بفلادلفيا عام 1786 والذي بنوا فيه “اتحاداً ناجزاً”. ولم ينتاب السودانيين حظ الأمريكيين بالحصول على “توكفيل”هم ليثني على بعد نظرهم السياسي. خلافاً ذلك وطأهم الناس بمنسم وعيروهم كشعب فاشل. ومن أسف أن الناعين ردوا هذا الفشل إلى شذوذ ثقافي لم تأتلف به العروبة والأفريقية أو الاسلام والمسيحية (والعقائد التقليدية) في البلد. ومع أن هذه الحقائق الثقافية غير منكورة الأثر في المسألة السودانية إلا انها الزبد لا الجوهر. فأصل الإشكال وديناميكيته في فشل الحركة الوطنية الوارثة للاستعمار في ترتيب وطن يسعد قوميات الأمة وجماعاتها قاطبة. وهو فشل يتساوى السودان فيه مع سائر أمم المستعمرات السابقة.
من تصفح تاريخ سودان ما بعد الاستعمار سيعرف لماذا كنا في السودان البادئين بمخاطرة تقرير المصير. فالسودان اشتغل بعملية تصفية الاستعمار كما لم تنشغل دولة أخرى. ولهذا التاريخ قسمات ثلاث: 1-صفوة وطنية تغاضت عن التنوع العرقي والثقافي في الأمة الوليدة وتمسكت بحرفية الوطنية في توحيد الشعوب والقبائل على حد ثقافتها هي لا غيرها. أو ما عرف ب “البوتقة”. وصدف أن كانت هذه البوتقة هي العروبة والإسلامية. وستجد الصفوة الوطنية الوريثة للاستعمار من على غرارها في كينيا وساحل العاج فرضوا ثقافاتهم دون غيرها فأسقمت أهلها. ولكن صفوتنا دون غيرها شقية حال لأنها كانت أضعف من فرض هيمنتها بالقوة (hegemony) على الآخرين أو بتسويغ هيمنتها بفرض قبول هيمنتها على الآخرين كأمر واقع لا مهرب منه (consent). وبلغت هذه الصفوة الوطنية الباكرة من الضعف حداً انتزع منها العسكريون والقوميون الدينيون مقاليد الأمور بعد عامين من الاستقلال ولمدة 43 من عمره البالغ 54 عاماً. 2-صفوات قومية على هامش المستعمرة السابقة لم تكف عن طلب مواطنة كاملة كمستحق من مستحقات تصفية الدولة الاستعمارية وبشرى الاستقلال. فقد “تمردت” صفوة جنوبية بتنسيق مع الفرقة الجنوبية في توريت بالجنوب عام 1955 قبل استقلالنا بعام واحد. ثم توالت يقظة قوميات الهامش. فكون البجا مؤتمرهم في 1957 ثم جاء النوبة باتحاد جبال النوبة في مفتتح الستينات. وظهر تنظيم نهضة دارفور في 1964. ونادت هذه الصفوات جميعاً بمواطنة أبعد نجعة مما وفرته صفوة الشمال القابضة من جهة تحويل الرعايا إلى مواطنين. 3-حركة وطنية ديمراطية جماهيرية كانت كالمضيف لحركات صفوة الهامش وصوتها الناطق بمظالمها في المركز بهدف بناء تحالف بينها والمواعين النقابية التي انتظمت فيها القوى الجماهيرية للانعتاق من الاستعمار حقاً لا بمجرد علم ونشيد. وكانت لحظة هذه القوى الجماهيرية الغراء هي ثورة اكتوبر 1964 التي جاءت بحكومة لا سمعنا بها قبلاً ولا بعداً: مثلت العمال والمزارعين والمهنيين، وعقدت مؤتمر المائدة المستديرة لمناقشة مسألة الجنوب، وردت المواطنة للنساء والشباب فوق سن الثامن عشر بمنحهم حق التصويت. بل كانت شرارة الثورة نفسها في إطار نقاش وطني عام حول بؤس سياسات الجنرال عبود في الجنوب، ولوقف الحرب، والتماس حل سلمي ديمقراطي لمسألته. ومتى أحسنا قراءة حق تقرير المصير السوداني سنجد أنه تتويج للمساعي المعقدة لشعوب سودانية عظيمة لم تقبل بالدنية في مواطنتها، وسهرت على أشواقها لوطن عادل وسوي، وبذلت تضحيات نادرة وطويلة. وهذا استثمار في الحرية يغيب عن علوم السياسة التي توقفت بنازع الحرية عند حركة التحرر من الاستعمار. وأصبح النضال للحق والحرية، الذي أعقب الاستعمار، مما يثير ريب علمائها ممن نظروا له من باب الفتنة والفوضى. وهناك بالطبع من ناصر هذا النضال لمأرب قصير التيلة.
صار السودان من جراء ذلك كله بين نارين. فهو موصوف بأنه دولة فاشلة ستتفرق أيدي سبأ بمقياس “ريختر” لانفلات البلدان. فهو عندهم قد “نجح” في اجتياز كل معاييرهم للفشل المزري. وهو من الجهة الأخرى ملعون من علماء السياسة إذا تفادى فشله وتفرقه باستفتاء جماعاته المظلومة حول مصائرها. فتقرير المصير عند هؤلاء العلماء فيروس سيغزو جسد أمم أفريقيا وغيرها ويعديها. والعيب في علماء السياسة لا السودانيين الذين شخصوا الداء وعرفوا الدواء من فوق طريق طويل للآلام فالحرية. فعلماء السياسة ما يزالون يتداولون في فض الدولة-الأمة بمصطلح النكاح. فالطلاق خيبة وخراب عمار وضيعة أطفال. وسينتظر السودانيون “توكفيل”هم الذي سيميز تبنيهم أعادة التفاوض في بلدهم وتقرير المصير كتحليق شجاع على ذرى الحرية.
IbrahimA@missouri.edu