لا شك عندي أن جماعة الانقاذ قد تسببت في تدمير التعليم، لتكون نتيجة ذلك خراباً في كل شيء، حتى يتسنى لها السيطرة على كل شيء، اقتصادا وموردا بشريا؛ ليسهل عليها النهب “المجيه”.. لذلك كان لا بد لها من هدم كل ما يمت الي التعليم والعلم والثقافة والمعرفة، بصلة، فأهملت المدارس ودمرتها وحاربت المعلمين والمتعلمين واصبحت لا تتحسس “مسدسها” عند ذكر الثقافة والمثقفين والمتعلمين، فحسب، بل تطلق النار، بلا تردد، علي رأس كل من تظن أنه يحمل فكرا ووعياً، والامثلة على ذلك “على قفا من يشيل”. هنالك ما لا يحصى من الادلة علي أن هذه الجماعة قد عاست في أمر التعليم فساداً.
فدونكم السعى المخطط للتجهيل عن طريق العبس بالمناهج وتخريب بيئة التعليم “بسبق الاصرار والترصد”، وسأكتفى بسرد بعض الذكريات والخواطر المتفرقة، علها تنقل صورة صادقة عن التعليم الذي وجدته الانقاذ، على علاته، فبدلاً من أن تقوم بتطويره والبناء علي تجاربه الناجحة، رأت، تلكم الجماعة، ان تعمل فيه معاول الهدم والتخريب، لتقضي عليه وتمسحه من على وجه الارض..
في قرية “ود المنسي” الجميلة، الوادعة في قلب ولاية الجزيرة الخضراء، “ارض المحنة”، قبل أن يحل عليها عهد الجدب، وتهجم عليها اسراب الجراد “البشري” وتقضي على الاخضر فيها واليابس، وتحيلها جحيماً لا يطاق، يفر منه كل من يستطيع القرار.
أسست مدرسة “ود المنسي” الابتدائية عام 1964. في زمن كانت كل مدارس السودان، على الرغم الظروف الإقتصادية..
مدرسة تأتيها الاثاثات والأدوات المعينة والوسائل التعليمية من المخازن والمهمات، مباشرةً.. هذا، عندما كانت تسود العدالة، مما جعل المنافسة في امتحانات الشهادة السودانية منافسة شريفة.. تكاد مدرستنا تلك لا تشكو نقصا في شيء.. السبورات بحواملها، الطباشير الأبيض والملون.. المقاعد و”الكنب”، ميادين الكرة الطائرة والسلة، وكرة القدم وجميع ادوات الرياضة، صفافير التحكيم، الفنائل.. الرتينة وحامل الرتينة.
أدوات تفتقدها، اليوم، أعرق الجامعات التي شيد أغلبها علي أنقاض المدارس المتوسطة والثانوية.. الإذاعة المدرسية التى تبث الاحتفالات.. يوم التعليم.. الجمعية الأدبية علي الهواء مباشرة.. مدرسة تتوفر بها الأقلام، بكل أنواعها، وعلب الهندسة والحبر وريش الخط.. الكتب المدرسية ومراشد المعلمين والملفات والنشرات وكتيبات القوانين واللوائح.. كتب المكتبة.. والكثير الكثير..
الذي لا استطيع سرده.. في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وبمبادرة كريمة من مدير المدرسة الأستاذ عبد الله، ونقلاً لفكرة رائعة سبقت بتنفيذها مدرسة (الهميج) الابتدائية بقيادة ربانها الماهر، الراحل المقيم، الأستاذ علي محمد عبد الله، الذي غادر هذه الفانية تاركاً وراءه ذكريات عطرة، وبمجهود جبار من زملائه، كالرائع الأستاذ الريح.. مدرسة (الهميج) تلك كانت، آنذاك، قطعةً من الفردوس..
وتقليداً لما تم في مدرسة الهميج.. زُيِنتْ مدرسة ود المنسي برسومات رائعة علي كل جدرانها وداخل فصولها النظيفة.. فريق متناغم رائع، عز الدين، طارق، مرضي، الريح.. الراحلة مواهب عبد الرحمن، سهام بلة، نفيسة.. أنجزت مئات اللوحات والوسائل التعليمية لجميع الفصول، أُستخدمت فيها أكثر من ستين لوح “بسنايد” والمئات من علب البوهية.. وبتخطيط من المعلمات..
أُنشِئتْ حديقة رائعة، حيث الازهار والورود.. قد يظن الكثيرون أن ما ذكرتُ لا يعدو ان يكون الا حلما جميلاً.. وما علموا أن معلمي ذلك الزمن الجميل، كانوا يحيلون الاحلام واقعاً ملموساً يسر الناظرين ويفتح شهية النشء للتعلم والتعليم والاجتهاد فيه..
ولو لم يحل علي “أرض المحنة” هذا العهد البئيس، لأصبحت المدارس، جنات.. ولكن كيف يكون ذلك مع هؤلاء التتار الذين هجموا على بلاد وادعة.. وجعلوها جحيما لا يطاق.. وأجهز هؤلاء الأقزام على أحلام شعب عملاق بنى نهضة كثير من بلدان الدنيا، حتى أصبحت، اليوم، منارات شامحة.. نهضة صنعتها عقول السودانيين ومعلميهم ومدربيهم وفنانيهم.. نشتهى، اليوم، أن نلحق بانجازاتهم.. وكيف نلحق بركب الحضارة مع جماعة تحتقر التعليم والمعلمين والمتعلمين، كيف تتم لنل نهضة مع من لم يسلم من ظلمه حتى الذين ومكنوه وأعانوه علي إذلال كل صاحب بصيرة، فقد نال هؤلاء النفر الذين ساهموا في خلق ذلك الجمال، نالوا جزاء سنمار.. بل، وربما، الأسوأ من جزاء سنمار.. حيث “الميتة وخراب الديار”..
التدمير الممنهج الذي مارسه قوم مشوهون، يتلخص في جملة واحدة: تلك المدرسة التي وصفتها، قد أصبحت، في غضون بضعة سنوات، قاعا صفصفا.. “يفترش تلامذتها الأرض مقاعداً” ويتخذون من “السماء سقفاً” لبعض فصولهم.. وكفى..