هنالك مقولة – مدى علمي أنها للسيد الإمام الصادق المهدي- ربما دلت تجربة الحكم في السودان على صحتها، وهي: أن الأنظمة العسكرية الشمولية تطورت من سيء إلى أسوأ، والأنظمة الديمقراطية تطورت من حسن إلى أحسن.
ومهما يكن الرأي في هذه المقولة بالنظر إلى سنوات الحكم المتطاولة للأنظمة العسكرية وفترات الحكم القصيرة للأنظمة الديمقراطية، فإنني لا أجد دليلاً على صدقها أكثر من تجاربنا في التصدي لقضية الإصلاح الاقتصادي والقرارات التي اتخذت لمعالجة مشكلاته.
وحين شرعت في التوثيق لقرارات التأميم والمصادرة التي اتخذها ونفذها نظام مايو، والتي زلزلت الاقتصاد السوداني، وتركت آثارها ربما إلى اليوم، لفت نظري أنها تميزت بثلاث صفات لافتة هي ما أسميتها ب “الجرأة السياسية” التي اتخذ بها نظام مايو تلك القرارات و” العجلة” التي نفذها بها و”اتساع نطاقها” لتشمل المنشآت بمختلف أحجامها وأشكالها في كل القطاعات الاقتصادية.
وأنا أزعم أنه ما كان يمكن لمثل تلك القرارات بصفاتها المذكورة، وربما بغيرها مما لم أذكره، أن تحدث في ظل النظام الديمقراطي. ودليلي على زعمي أن النظام الديمقراطي السوداني الذي أعقب ثورة 21 أكتوبر 1964م وسبق انقلاب نظام مايو، وتعاقبت حكوماته التي رأسها أولاً السيد سر الختم الخليفة ثم السيد محمد أحمد المحجوب ثم السيد الإمام الصادق المهدي ثم السيد المحجوب أخيراً، واجهت مشكلة الإصلاح الاقتصادي، واستهدفت تمكين السودانيين من إدارة حركة النشاط الاقتصادي، واتخذت القرارات اللازمة لذلك فعلاً، ومضت في تنفيذها. ولم يكن في القرارات التي اتخذتها الحكومات الديمقراطية أي من الصفات التي ميزت قرارات نظام مايو كما سنبين فيما يأتي.
وفي رأيي أن قرارات نظام الإنقاذ التي اتخذها في سنواته الأولي لمعالجة قضية الإصلاح الاقتصادي وجوهرها التحرير الاقتصادي (Economic Liberalization) ومن أبرز أدواته الخصخصة (Privatization)، تميزت هي الأخرى بالصفات ذاتها التي ذكرناها عن تجربة نظام مايو (الجرأة السياسية، العجلة، اتساع نطاق التطبيق)، وتسببت إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة في الأزمة الاقتصادية الطاحنة الماثلة التي تعانيها البلاد حالياً.
وتجربة التحرير الاقتصادي لنظام الإنقاذ الشمولي هي في رأيي أكثر تعقيداً وتأثيراً من حيث نتائجها قياساً إلى تجربة نظام مايو، وهي تعزز زعمي بأن الديمقراطية ضرورة لازمة للإصلاح الاقتصادي الذي لابد أن يرتكز على مشاركة واسعة بالرأي ممن يعنيهم الأمر من كل الفئات ومن المختصين ذوي الكفاءة والخبرة، وأن تُتبع الأسس الموضوعية في وضع السياسات والبرامج واتخاذ القرارات وتحديد إجراءات وأساليب تنفيذها.
ويستلزم التدليل على ما ذكرناه عن أهمية الديمقراطية للإصلاح الاقتصادي استعراض برنامج الحكومة الديمقراطية في الفترة التي سبقت نظام مايو، وكان محورها سودنة البنوك، وتحرير التجارة والنشاط الاقتصادي من هيمنة الشركات والقطاع الخاص الأجنبي. فرغم كل ما يمكن أن يقال عن فشل النظام الديمقراطي الذي أعقب ثورة 21 أكتوبر 1964م وسبق انقلاب 25 مايو 1969م، ولم تتجاوز مدة حكمه خمس سنوات، وتعاقب فيه على مجلس الوزراء أكثر من رئيس، ورغم كل تهم الفساد التي كالها لذلك النظام ورموزه رئيس مجلس قيادة نظام مايو العقيد يومها جعفر محمد نميري وزملاؤه من أعضاء مجلس قيادة ثورة مايو والوزراء، ورغم المحاكم العسكرية التي انعقدت لمحاكمة وزراء النظام الديمقراطي بدعاوى الفساد وسوء استغلال النفوذ تظل الحقيقة، وهي أن ذلك النظام بكل سوءاته المعروفة المتمثلة في المكايدات والمزايدات السياسية وتلك المزعومة التي توسع فيها انقلابيو مايو، لم يغفل حقيقة أن الوضع الاقتصادي السوداني يحتاج إلى إصلاحات هيكلية.
فقد اهتم النظام الديمقراطي يومها بقضية “هيمنة الشركات الأجنبية على التجارة الخارجية” وضرورة تنفيذ معالجات تمكن المواطنين السودانيين من تولى مسؤولية تجارة الصادر والوارد، والمشاركة في تملك وإدارة المؤسسات المصرفية. ولكن طبيعة النظام الديمقراطي يومها لم تكن تسمح بتلك الجرأة السياسية التي أقدم بها نظام مايو على اتخاذ قراراته المتعجلة المزلزلة بنزع الملكية وتأميم ومصادرة البنوك والشركات وعشرات من منشآت الأعمال الخاصة. فما الذي فعله النظام الديمقراطي؟
لقد تم طرح موضوع “سودنة التجارة الخارجية” والبنوك ودار حوله جدل كثيف، بل بادرت الحكومة بالفعل بخطوات تنفيذية، وأصدرت قرارات محددة لسودنة التجارة الخارجية، وتحويل البنوك والشركات الأجنبية الكبرى إلى شركات مساهمة. ففي خطاب الميزانية المقدم للبرلمان في العام 1966م/1967م أي إبان حكومة السيد الصادق المهدي، وقبل ما يقارب الثلاثة أعوام من انقلاب مايو والذي نشرته الصحف ومنها الأيام في العدد رقم 4951 بتاريخ 26 يناير 1967م، كان العنوان الرئيس هو “سودنة البنوك وتحرير تجارة الاستيراد”.
تحدث وزير المالية السيد حمزة ميرغني في البرلمان، وتعرض بشيء من التفصيل لمجهودات الحكومة في التنمية بهدف إلقاء الضوء على الأهداف القومية، وإتاحة الفرصة لمناقشتها من قبل الأعضاء سواء الموالين للحكومة أو المعارضين. ولخص وزير المالية الأهداف الرئيسة في الآتي:
1. توجيه النشاط الاقتصادي في البلاد في جميع مجالاته نحو التنمية الاقتصادية.
2. فتح المجال للمواطنين السودانيين كأفراد أو تعاونيات أو شركات للمساهمة بقدر ما تسمح لهم به إمكانياتهم في هذا النشاط.
3. توجيه رأس المال والخبرة الأجنبية نحو مجالات الاستثمار الرائدة التي تتطلب أموالا كبيرة أو خبرة لا تتوفر للسودانيين.
وأهم ما أورده وزير المالية في خطابه حول هذه الأهداف هو أن قرار الحكومة بفتح الباب للسودانيين، وتشجيعهم للدخول في بعض الميادين التي سبقهم إليها رأس المال والخبرة الأجنبية، لا يعني بأي حال تغيراً في سياسة الحكومة نحو رأس المال والخبرة الأجنبية، أو الدور الاقتصادي الحيوي الذي لا بد أن يقوم به القطاع الخاص الأجنبي في تطوير البلاد. ليس ذلك فحسب بل أكد الوزير أن الحكومة جادة في انتهاج سياسة ايجابية وواضحة في إعطاء المزيد من التسهيلات والضمانات والخدمات التي تمكن رأس المال الأجنبي من البقاء في السودان.
ويواصل الوزير في هذا المنحى الإيجابي نحو رأس المال الأجنبي ليصل إلى تأكيد ثقة الحكومة في أن رأس المال الأجنبي سينتقل من القطاعات التي فتحت وستفتح للسودانيين إلى المجالات الاستثمارية الرحبة الأخرى في مجال الصناعات والتعدين واستغلال الثروة الحيوانية والسياحة والتصدير وغيرها.
من بعد هذا النهج الواقعي العقلاني في التعامل مع قضية حساسة تمس بنية الاقتصاد السوداني، طرح السيد حمزة ميرغني وزير المالية على البرلمان قرارات الحكومة التي تمثلت في الآتي:
أولا: سودنة تجارة الاستيراد:
لقد رأت الحكومة أن الوقت قد آن لسودنة تجارة الاستيراد وفتح المجال بشكل عريض لرأس المال والخبرة الوطنية أن يديرا المرافق الرئيسة في هذا المجال. وتحقيقا لذلك فقد قررت الحكومة أن تتخذ الإجراءات الآتية:
1. السلع التموينية المهمة ينظم استيرادها بواسطة شركات سودانية عامة فوراً وهذا يشمل السلع الآتية: البن، الشاي، السجاير، الأرز، الأحذية الشعبية، الأدوية، الدقيق، الأقمشة الشعبية وأي سلع تحدد فيما بعد. ولم تكتف الحكومة بذلك بل حددت ضوابط تنظم هذه الشركات وهي:
• ألا يسمح بالاحتكار فتقوم أكثر من شركة واحدة للاستيراد، وتحدد وزارة التجارة العدد الأقصى من الشركات التي تسمح بقيامها لاستيراد كل سلعة معنية، وأن تحسن حصتها بقدر قلة سعرها للمستهلك، وعند قيام اتحادات تعاونية تخصص لها كوتات لاستيراد بعض هذه السلع.
• تنظم وزارة التجارة قيام هذه الشركات حتى تطمئن على حسن تكوينها وعملها.
• أن تضع كل شركة نسبة معقولة من أرباحها لتطوير أو أنتاج السلعة التي تتاجر فيها أو أي سلعة أخرى، على أن يستغل المبلغ في الاستثمار وتلتزم الحكومة بمنح التسهيلات اللازمة لهذا الاستثمار.
• يُحَدد حد أقصى لملكية الأشخاص للأسهم بحيث لا تزيد ملكية الشخص عن نسبة معينة من الاسهم منعا لسيطرة الأشخاص على الشركة.
• ينظم توزيع بعض هذه السلع، المبيدات، الأسمدة، الخيش وتستورد عن طريق مؤسسة عامة يكونها القطاع العام.
2. وبالنسبة إلى شركات الاستيراد الأجنبية الحالية فقد أوضح وزير المالية أنه يلزم أن تقوم هذه الشركات بوضع برنامج بالاتفاق مع وزارة التجارة والتموين ووزارة المالية والاقتصاد لسودنتها جزئياً الآن وكلياُ في ظرف فترة زمنية لا تتعدى خمس سنوات. كما وجهت الحكومة النظام المصرفي للمساعدة في تنفيذ برنامج السودنة. ومساندة لهذه السياسية وتمكيناً لها من النجاح، أعلن وزير المالية أمام البرلمان عن القرارات الداعمة لبرنامج السودنة والتحرير، واشتملت على العديد من الإجراءات والمتطلبات التشريعية، وهي: تعديل قانون الرخص التجارية وتنظيمها بحيث يمنع منحها لغير السودانيين إلا في حالات استثنائية تقررها الجهات المختصة، وكذلك وضع قانون لتنظيم التوكيلات التجارية يجري بموجبه منح التوكيلات الجديدة للسودانيين مع مراعاة الكفاءة خصوصاً فيما يتعلق بأدوات الإنتاج. ومن ثم السودنة الفورية لتوكيلات السلع الاستهلاكية والسودنة المرحلية لتوكيلات السلع الانشائية. وكذلك إصدار قانون السجل التجاري لإلزام جميع الشركات المحدودة والأفراد الذين يعملون في الحقل التجاري بتسجيل أنفسهم مع تبيان السلع لتي يتعاملون فيها لدي المسجل التجاري. وتكوين لجنة لتعديل قانون العلاقات التجارية لسنة 1931م ليتماشى مع التطورات التجارية الجديدة. وإعادة النظر في قانون الشركات لسنة 1936م وقانون أسماء الأعمال لسنة 1936م.
3. أما بالنسبة إلى تجارة الصادر فقد أوضح وزير المالية أهميتها للسودان وارتباط هذا النشاط باعتبارات وتنظيمات عالمية، وهنالك حدة في المنافسة بين المنتجات في السوق العالمي، ويتطلب ذلك كفاءات مالية وتنظيمية خارج البلاد، وأن كل ذلك يحتم أن تستمر تجارة الصادر مفتوحة لغير الوطنيين بل وتشجيع الشركات الأجنبية لأن ذلك يخدم مصالح المنتجين. ومع ذلك أوضح وزير المالية أن الحكومة ترى أنه لابد من تشجيع المواطنين السودانيين من المنافسة في هذا الميدان لاسيما وفي الواقع أن نصيب السودانيين في تجارة الصادر ظل يزداد عاما بعد عام.
ثانيا: إصلاح النظام المصرفي:
1. فيما يتصل بالنظام المصرفي فقد أشار وزير المالية إلى أن المواطنين ظلوا يتطلعون لتطويره ليكون أداة فعالة لخدمة الاقتصاد الوطني لاسيما وأنه يؤدي دوراً رئيساً في تطوير موارد البلاد، وفي طريقة استغلال وتوجيه هذه الموارد وفي تهيئة الفرص للمواطنين للمشاركة في جني ثمار خيرات بلادهم. وأوضح وزير المالية في خطابه للبرلمان أن النظام المصرفي لم يخضع من قبل لمسح شامل يحدد معالمه ويقود اتجاهاته، ولهذا عنيت الحكومة بالالتفات إلى هذا الجهاز الحساس بهدف تطويره للوصول للأهداف الأساسية والتي تتلخص في توجيهه لخدمة الاقتصاد السوداني، ومساندة مجهودات الإنشاء والتعمير ونقل الخبرة والثقة والصلات مع المؤسسات المالية الخارجية التي ينطوي عليها النظام المصرفي، والتي تأتي في المرتبة الأولى قبل رأس ماله. وأوضح الوزير أن الحكومة عكفت خلال الأشهر الماضية على دراسة جميع النواحي ذات العلاقة بالأداء المصرفي ومدى استفادة المواطنين من التسهيلات الائتمانية للبنوك. ومضى الوزير للقول إن الحكومة وعلى ضوء ما توصلت إليه من نتائج قررت سودنة المصارف الأجنبية. وأعلن عن أنه سيعين فورا لجنة من المختصين السودانيين لتنفيذ قرار سودنة المصارف وفق برنامج زمني محدد.
2. وفيما يتصل بالبنوك المتخصصة المملوكة للدولة، وهي: الزراعي والصناعي والعقاري، فقد تم وضع برنامج لها للتوسع في نشاطاتها وخدمة أهداف التنمية في القطاعات ذات العلاقة. كما أعلن عن قرار الحكومة عن إنشاء بنك التنمية لصغار التجار ورجال الأعمال، يخصص لخدمة من لا يستطيعون الحصول على تمويل وتسهيلات من البنوك التجارية العادية بالشروط التي تعمل بها تلك البنوك. كما أوضح وزير المالية في إطار برنامج الحكومة لتطوير الاقتصاد السوداني عن سياسة الحكومة تجاه شركات التأمين، وتنظيم هذا القطاع الحيوي؛ لخدمة أهداف التنمية، وتشجيع المواطنين السودانيين لدخول هذا الحقل، هذا فضلا عن الإجراءات والضوابط التي أقرتها الحكومة لتنظيم سوق التأمين بالبلاد.
هذا ما كان من أمر برنامج الحكومة الذي أعلنه وزير المالية السيد حمزة ميرغني أمام البرلمان لتحرير التجارة الخارجية في مجالي الصادر والوارد وسودنتها وسودنة البنوك العاملة في القطاع المصرفي والاهتمام بشركات التأمين. والذي كما هو واضح اتسم بكثير من الموضوعية والعقلانية بعيدا عن الدعاوى الفارغة واتهام رجال الأعمال الأجانب والشركات الأجنبية بتهم عريضة لا تثبت ولا يقوم عليها دليل واضح، وإنما تم طرح البرنامج بصورة تحقق مقاصد الحكومة دون تهور ومع التأكيد التام على أهمية دور المستثمرين والشركات الأجنبية والبنوك في إطار برنامج الحكومة لإصلاح وتطوير الاقتصاد الوطني. ولم يقتصر الأمر عند حد إعلان تلك القرارت والإصلاحات في البرلمان والتداول حولها من قبل الحكومة والمعارضة، وإنما تعدى ذلك لاجتماع بين المسئولين ومديري الشركات الأجنبية لشرح قرارات الحكومة بسودنة تجارة الاستيراد. فقد أوردت صحيفة الأيام في العدد رقم 4962 بتاريخ 27 يناير 1967م في عنوانها الرئيس (الوزير يجتمع بمديري الشركات الأجنبية ليشرح لهم قرار مجلس الوزراء بسودنة تجارة الاستيراد) وقد ورد في حيثيات الخبر (يبدأ السيد عزالدين السيد وزير التجارة بالإنابة غداً السبت إجراءات تنفيذ قرار سودنة تجارة الاستيراد التي وضعتها الوزارة وتضمنها خطاب الميزانية. سيجتمع الوزير بمديري الشركات الأجنبية في الخرطوم ويوضح لهم قرار الحكومة ويطلب منهم التعاون بتنفيذه بتحويل مؤسساتهم إلى شركات سودانية عامة وتطرح جزءاً من أسهمها في السوق فورا. على أن تبيع كل أسهمها للسودانيين خلال فترة أقصاها خمس سنوات). وأشارت الصحيفة إلى قرار الحكومة الذي أعلنه وزير المالية في خطابه أمام البرلمان وأوردناه أعلاه، والقاضي بأن تقوم الشركات الأجنبية الحالية بوضع برنامج بالاتفاق مع وزارة التجارة ووزارة المالية والاقتصاد لسودنتها جزئياً فوراً وكلياً خلال فترة زمنية لا تتعدى خمس سنوات. كما ورد في حيثيات الخبر أن وزير التجارة سيبلغ القرار لمديري الشركات ويشرح لهم تفاصيله ويرد على أسئلتهم. وستتبع ذلك اجتماعات متتالية مع مديري الشركات يشترك فيها ممثلون لوزارة المالية للاتفاق على طريقة تنفيذ الخطة هذا وستشرع الوزارة أيضا في الاتصالات اللازمة لتكوين شركات عامة تتولى استيراد الشاي والبن والسجائر والأرز والأدوية والدقيق والأقمشة الشعبية. وستسمح الوزارة بتكوين أكثر من شركة لاستيراد السلعة الواحدة كما تحدد الوزارة الحد الأقصى من الأسهم التي يستطيع الفرد أن يمتلكها.
ولم تقتصر هذه القرارات المهمة على طرحها على البرلمان والاجتماع مع مديري الشركات الأجنبية للتداول معهم حول تنفيذها، وإنما تعدى كل ذلك لطرحها من خلال الأجهزة الإعلامية على المواطنين. فقد أوردت صحيفة الأيام في عددها رقم 4970 وتاريخ 6 فبراير 1967م خبرا عن ندوة تلفزيونية تحدث فيها رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي ووزراء المالية والتجارة وتعرضت الندوة للتركة الاقتصادية المثقلة التي ورثتها الحكومة من العهود السابقة منذ الاستقلال، وتم شرح المبادئ التي عملت الحكومة على ضوئها لعلاج الموقف المالي، وتركزت في إيقاف التدهور وإصلاح النظام الضريبي وجهاز الحسابات والمخزونات، وتقليل الاعتماد على النظام المصرفي، ومراجعة أخطاء الخطة العشرية وإخضاع الموارد الاقتصادية لمشاركة المواطن السوداني.
واشتملت كذلك على العناية بالقطاع التقليدي، وقيام جهاز للتخطيط، وانتهاج مسلك واقعي في تقدير الدخل والمصروفات، وإعداد الميزانية. وفي هذه الندوة شرح وزير المالية للمواطنين قرارات سودنة التجارة الخارجية والمصارف.
وقد دارت مناقشة من الحاضرين للميزانية والموقف المالي وقرارات الحكومة في إطار برنامجها لإصلاح الاقتصاد السوداني.
كذلك تمت مناقشة برنامج الحكومة وقراراتها من خلال الصحف فكتب البعض من ذوي الاختصاص والاهتمام رؤيتهم، وتداولوا حول برنامج الحكومة لتحرير التجارة الخارجية وسودنة البنوك وغير ذلك من الخطوات الاصلاحية. فمن ذلك على سبيل المثال ما أوردته صحيفة الأيام في عددها 4997 بتاريخ 15 مارس 1967م بعنوان (التجارة بين التأميم والسودنة) وفيه إشارة لما وجدته قرارات الحكومة المتعلقة بالنشاط التجاري من صدى عميق في الأوساط السياسية والاقتصادية مما جعلها مثار التقريظ والنقد.
وأشارت الصحيفة إلى بعض الذين أدلوا بدلوهم وآرائهم ومنهم السادة سعد أبو العلا وإبراهيم الياس وبابكر محمد علي وأحمد زين العابدين.
ولقد استمرت الحكومة في السنة المالية التالية 1969/1968م، وهي التي سبقت انقلاب مايو 1969م، في ذات النهج الذي سارت عليه الميزانية السابقة. ففي ميزانية ذلك العام التي قدمها للبرلمان وزير المالية الشريف الحسين الهندي، ورد في بيانه أن الحكومة تؤمن بدور القطاع الخاص السوداني، ولكنها لن تتوانى في الضرب بيد من حديد على المتلاعبين العابثين بمصالح الشعب السوداني، من خلال الممارسات التي ترهق المواطنين وتزيد من معاناتهم.
كما أكد الوزير في بيانه للبرلمان العمل على تحقيق سودنة الشركات الأجنبية وذلك بإشراك رأس المال السوداني فيها، وإتاحة الفرصة لأكبر عدد من المواطنين السودانيين للاشتراك في النشاط الاقتصادي. كما أكد البيان سودنة الجهاز المصرفي وقرار الحكومة بأن يكون الجزء الأكبر من رأس المال في البنوك سوداني وكذلك سودنة الوظائف في البنوك الأجنبية. واهتمت الحكومة من خلال موازنة ذلك العام، بتوجيه الإئتمان المصرفي لدعم النمو الاقتصادي، وتخصيص نصيب كبير لتمويل نشاط القطاع الخاص في مجالات الانتاج والتصدير والاستيراد وتطوير الصناعات المحلية. وشملت الموازنة عدداً من القرارات والاجراءات في المجال الضريبي ورسوم الوارد، كما أعلن استيلاء الحكومة على حق استيراد البن والشاي، واتخاذ قرارات نافذة تحدد أسعار هاتين السلعتين.
وكدليل على ما يتيحه النظام الديمقراطي من إسهام واسع وتبادل للآراء في تناول قضية الإصلاح الاقتصادي، تجدر الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي السوداني كان له رأي مغاير لما طرحته الحكومة حول سودنة التجارة الخارجية. فقد ورد في نص التقرير العام المجاز في المؤتمر الرابع للحزب الذي انعقد في أكتوبر 1967م والذي نشر بعنوان (الماركسية وقضايا الثورة السودانية)، وبعد استعراض الملامح الرئيسة للاقتصاد السوداني في الباب الأول من الجزء الثاني من التقرير ما يلي (إن السهولة في جني الأرباح في هذا القطاع دفعت بهذه التطلعات الجديدة التي تجمعت في النهاية تحت شعار سودنة التجارة الخارجية)، ويمضي التقرير للقول ( ولهذا فإن شعار سودنة التجارة الخارجية الذي طرح بواسطة عناصر الإصلاح اليميني في البلاد يجد الاستجابة من قبل الدوائر الرأسمالية المحلية وتتشابك علاقات هذه الدوائر مع رأس المال الاجنبي. وبالوضع العام لتغلغل نفوذ الاستعمار الحديث في السوق السودانية يمكن أن يؤدي أيضا الى نمو فئة ذات نفوذ من العناصر الرأسمالية الغنية ذات الارتباط الوثيق برأس المال الاجنبي).
هذه كانت رؤية الحزب الشيوعي في شعار سودنة التجارة الخارجية؛ بما في ذلك القطاع المصرفي الذي كان يسيطر عليه رأس المال الأجنبي، عبر عنها بشكل واسع وبوضوح في إطار الممارسة الديمقراطية.
وبغض النظر عن التباين في الآراء حول منهج الإصلاح الاقتصادي، وقدرة النظام الديمقراطي، الذي أجهضته ثورة مايو، على تنفيذ تلك القرارات في ضوء الصراعات الحزبية وعدم الاستقرار السياسي الذي تميزت به تلك الفترة، إلا أن الدرس الذي يمكن أن يستفاد من كل ما أوردناه حول برنامج الحكومة آنذاك، هو أنها كانت تدرك المخاطر التي يمكن أن تحدث لو أنها تعجلت باتخاذ قرارات يشعر المستثمر الأجنبي أنه قد أضير منها، وتكون لها آثار سالبة ما لم تكن هنالك ترتيبات وخطوات مدروسة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية. فقد حرصت الحكومة على إيصال رغبتها في منح مواطنيها الفرصة في إدارة النشاط الاقتصادي بالبلاد، وهو حق مشروع، لكل الشركات والبيوتات الأجنبية بطريقة واقعية لا تثير الفزع ولا تستعدي أولئك المستثمرين وتهدد مصالحهم وتدفعهم هم والشركات الأجنبية بالخارج والتي يمثلونها كوكلاء، إلى ردود فعل ضارة بمجمل النشاط الاقتصادي بالبلاد. كل هذا أغفله نظام مايو ومجلس قيادته واتخذ خطوات نزع الملكية عن الشركات والأفراد بقرارات التأميم والمصادرة المتعجلة المباغتة التي أضرت باقتصاد البلاد ضررا بليغا. وكان الباعث لذلك هو الاستبداد بالسلطة ولا شيء غيره وهو سمة الأنظمة الشمولية. والاستبداد كما يقول عبد الرحمن الكواكبي (صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب أو عقاب)! وهكذا كان نظام مايو في بداية عهده وربما فيه كله. وهكذا هو نظام الإنقاذ الحالي بما نعايشه من آثار لسياساته وقراراته الاقتصادية وهذه قصة أخرى.