الشمالية- التحرير:
قبل ما يقارب سبعة أعوام تقريباً شهدت مناطق متفرقة من الولاية الشمالية آثاراً لبقع ظنها الأهالي وقتها أنها مؤشر على وجود خام (البترول) تحت أرضهم، إلا أن الأمر وبعد شهور قلائل تطور، ونقل تلك المناطق إلى مربع الخطر، حين خرجت المياه من تحت الأرض لتتصدع المباني ثم تنهار، لتتحول مناطق من كرمة والبرقيق إلى أثر بعد عين.
وبمرور الأيام قضت ظاهرة (النز) على قرى كاملة، فتشرد مواطنوها متفرقين على مناطق مجاورة غير أن بعضهم آثر المكوث في المنطقة ليبني قرب ركام منزله المنهار مسكناً يأوي عائلته التي أصبحت تفترش الأرض، وتلتحف السماء بين ليلة وضحاها.
(التحرير) تجولت في تلك المناطق، ونقلت من هناك الصورة الكاملة من خلال المشاهدات وحديث الأهالي … وكانت هذه هي الحصيلة .
فلاش باك:
يقول مواطنون التقتهم (التحرير)، إن ظاهرة الطفح المائي السطحي التي تعرف محلياً بـ(النز) ظهرت أولاً في منطقة البرقيق، التي تبعد عن النيل ما بين (2 -3) كيلو مترات، وتقع البرقيق شمالي مدينة دنقلا حاضرة الولاية الشمالية، وجنوب كرمة البلد، وكرمة النزل، والدفوفة الأثرية، وشمال أرقو، وشرق آرتقاشة، وتشتهر المنطقة ذات الأربعة قطاعات (حارات) بمشروعها الزراعي الذي أُنشىء في عام 1942م إبان الحكم البريطاني، قُبيل الاستقلال، ويمتد على طول 15 كلم، ويزيد عرضة عن (2.5) كلم، ويضم أكثر من 700 حواشة في مساحة تقدر بأكثر من 10 آلاف فدان.
اشتكى عدد من المتضررين – سكان المناطق المتأثرة، من ضعف استجابة المركز لشكواهم المتعلقة بمعالجة الظاهرة، وقال سيف الدين محمد في حديثه لـ (التحرير): “إن الدعم وقتها حدد بـ 150 خيمة بيد أن أسر المتضررين يفوقون هذا العدد، إضافة إلى تخصيص قرية تبرعت بها مجموعة الراجحي، مكونة من (100) منزل بكل منزل غرفة وحوش، بلا خدمات تعليم او صحة، وحتى مقولة ان المضطر يركب الصعب لم تفلح هنا؛ لأن عدد المتضررين (460) أسرة تهدمت منازلهم تماماً، فيما هناك (780) آخرين منازلهم آيلة للسقوط”.
وبحسب ما نقله متضررون للصحيفة، فإن المبالغ المرصودة وقتها بلغت أكثر من ملياري جنيه؛ لإنقاذ المواطن من الأوضاع المأساوية التي يعيشونها، إلا أن هذه المبالغ لم تصل إلى المتضررين الذين قال بعضهم إنهم كانوا يعيشون حيث يتهيأ السكن، أو البحث عن مناطق زراعية أخرى يقتاتون منها، ويستخدمونها مرعى لمواشيهم.
ويقول محمد نور أحمد: “إن واقع الحال يؤكد أن الوعود التي سمعها المواطنون لم تتعد مقولة (اسمع جعجعة ولا أرى طحناً)، في وقت لم تزد مطالب المتضررين عن الستين ألف جنيه للأسرة الواحدة؛ لإعادة بناء قراهم التي هدمتها المياه السطحية”.
شكاوى وصبر:
رئيس لجنة المتضررين بالمنطقة، محمد المصطفى عبد المجيد أوضح أن المواطنين في المنطقة لا يعرفون الأسباب التي أدت إلى ظهور (النز)، في حين اختلفت الجهات الرسمية – الحكومية المسؤولة حول تحديد أسباب مثل هذه الكوارث، وطالب عدد من المواطنين السلطات بضرورة إرسال (فريق) خبراء؛ لمعرفة أسباب الظاهرة، ومدى تأثيرها في الصعيدين – السكني والزراعي.
تحول نظام الري هو السبب:
المزارع شرف محمد همت قال: “إن المشروع ينتج محاصيل كثيرة، أهمها: القمح والفول المصري والخضروات والفواكة والتمور”، موضحاً “أن المشروع بالمنطقة كانت تتم الزراعة فيه في موسمين (شتوي وصيفي)، حتى قيام مشروع الدفوفة الذي اعتمد نظام الري بالسحب من الآبار الجوفية، في مساحة قدرت بـ(24) ألف فدان”، ورجح مزارعون “أن يكون تشبع التربة بالمياه جراء تحول الري من نظام (المترات) إلى ترع نيلية قد ساهم في زيادة ظاهرة (الجمام) أو (النز)”، وأبدى عدد من سكان المنطقة تخوفهم من ارتفاع نسبة تضرر الأرض تدريجياً في ظل ما وصفوه بالإهمال من قبل الحكومة في معرفة أسباب الظاهرة، ثم العمل على تخفيفها، والقضاء عليها قُبيل أن تقضي على الأخضر واليابس؛ لتصبح الأرض هناك غير صالحة للسكن ولا الزراعة، علماً بأن تلك الأرض تحمل في باطنها أثاراً لواحدة من أقدم وأهم الحضارات الإنسانية على وجه الأرض.
وقال المزارع أحمد مالك: “إن (حواشته) وخاصة في الجانب الشرقي منها بدأت تموت أشجار النخيل، وزيادة عدد الأشجار الذابلة مع مرور الوقت”.
سد مروي في الواجهة:
ويقول الباحث والمختص في علم الجيولوجيا سمير مصطفى: “إن دراسة أجريت في وقت سابق خلصت إلى أن المياه الخارجة من أبواب تصريف الطمي من بحيرة سد مروي التي توجد أسفل السد، تنحدر بسرعة عالية جداً بسبب ضغط مياه البحيرة، وهذا ما خلق ثغرات في الصخور الرملية سربت المياه التي وجدت طريقها إلى المناطق شمال غرب موقع السد”، إلا أنه عاد وقال: “الصخور الصلبة الموجودة بمنطقة تمبس منعت تسريب المياه مما دفعها للارتداد نحو سطح الأرض في منطقة كرمة والبرقيق”، ومضى يقول: “هذا التحليل العلمي يؤكد أن سد مروي كان سبباً في نشوب الظاهرة بنسبة تقارب الـ70%، عوضاً عن وجود سبب طبيعي بقرب المنطقة من النيل”، وأشار إلى أن تقرير صدر عن جامعة مرموقة في وقت سابق أكد ظهور شقوق على سطح الأرض في تلك المنطقة بطول أربعة سنتمترات، وهو مؤشر قوي على خطورة الموقف، وازدياد احتمالية تطورات سالبة على الولاية.
السلطات لم تحرك ساكناً:
وعلى الرغم من مرور سنوات على القضية، إلا أن السلطات المحلية هناك لم تحرك ساكناً تجاهها، هذا حسب ما نقله أهالي المنطقة للتحرير، وفي ذات الاتجاه ترى الحكومة أن المواطنين هناك يضخمون المسألة في محاولة منهم لابتزاز السلطات.
ويبقى الحال كما هو عليه، و يبقى السؤال مطروحاً في ظل حالة الشد والجذب بين المواطن والسلطات: “هل ستكون هذه الظاهرة سبباً في موت رقعة كانت تسجل ضمن حيز إنتاجي مهم بالولاية الشمالية؟”، وهل ستكون هذه الظاهرة سبباً في طمس حضارة عريقة رفدت الحضارة الإنسانية وأغنتها”.